الأسد يُكابر على خطة تتبلور لتنحيته هذا الشهر
وسام سعادة
هل يمتلك الرئيس بشّار الأسد “منطقاً” يؤمّن حدّاً أدنى من الترابط بين أجزاء كلامه بالأمس؟ نعم.
هو يمتلك شيئاً من المنطق. في حدود أنّه بات يدرك تماماً ما الذي سيكون “المطلوب منه” في هذه اللحظة بالذات، أو بالأحرى في الأسبوعين المقبلين بالتحديد. هو يعلم أنّ المطلوب الآن هو تنحّيه ومغادرته البلاد فوراً، وفي مواجهة هذا الأمر تراه لا يراوغ، ولا يعاند فقط، بل يكابر تماماً، ويتحسّس تباشير “خطّة” ترتسم وتتجاوز مجرّد تلاقي الضغوط وتقاطعها، ويزعم أنّه ما زال قادراً ليس فقط على “الصمود” في وجه الرياح العاتية للثورة الشعبية والضغط الدوليّ، بل أيضاً على معاكسة الرياح الداخلية والخارجية، وإحراز الإنتصار على الجبهتين الداخلية والخارجية في الوقت نفسه.
في اللحظة التي يُطلب فيها من بشّار الأسد التنحّي بشكل ضاغط ولا رجعة فيه، تراه لا يستطيع حتّى أن يراوغ على المطلوب مثلما خبرنا في الحالات التونسية والمصرية والليبية واليمنية، على اختلافها. في الحالة التونسيّة، رئيس أمنيّ “يفاوض مبكراً” على تخلّيه عن الرئاسة مدى الحياة، ثم على تحصيل ولاية إضافيّة، ثم على إكمال ولايته “الدستوريّة”، ثم يُخلي قصر قرطاج ويرحل. وفي الحالة المصريّة، رئيس يراوغ متحجّجاً بمواد دستوريّة يتلاعب بأرقامها كيفما شاء مبرّراً ذلك بإرادة تجنّب “الفراغ الدستوريّ”. وفي الحالة اليمنيّة، رئيس يستفيد من تناقضات الواقع اليمنيّ، وتحديداً واقع المعارضة اليمنية، لتحصيل يوم رئاسيّ إضافيّ في كل يوم، وفي الحالة الليبية، على كاريكاتوريّتها ودمويتها في آن، فقد شهدت أيضاً رئيساً يراوغ، هذه المرة على المصطلحات، قائلاً بأنّه ليس رئيساً له حصانة وولاية، بل مواطن عادي يكتفي بقيادة الثورة وبالتالي فهو معفي من التكليف ومن المحاسبة.
أمّا في الحالة السوريّة، فلا مراوغة، لا على طريقة هذا ولا على طريقة ذاك. إنّما هناك مكابرة مطلقة: هو غير مستعد للتخلّي عن يوم واحد من رئاسته مدى الحياة، وهو غير مستعد حتّى للقول مثلما فعل كل الرؤساء الآخرين في هذه الحالات بأنّه لا رئاسة مدى الحياة، أو كما في الحالة الليبية بأنّه لا رئاسة في الأصل.
لكن هل يصدّق عاقل بأنّ بشّار الأسد نفسه يصدّق بأنّه باقٍ رئيساً مدى الحياة؟
وإن لم تكن هذه هي الحال، فما الذي يريده بشّار الأسد بالتحديد، كسب كل يوم رئاسيّ بيومه، إنّما من خلال غلّة دمويّة يوميّة على الوتيرة نفسها؟
هنا، لا يستطيع “منطق” بشّار الأسد أن يبقى منطقياً. هو منطقيّ فقط، من ناحية أنّه يأخذ علماً بالتوجّه الذي يصاغ الآن داخلياً وخارجياً، ومن أدنى إلى أعلى مستوى، لإقصائه، في الأسابيع المقبلة بالتحديد، عن مركز السلطة، وهو يبقى منطقياً عندما يقول إنّه قادر على الصمود أمام هذه الضغوط، لكنّه ما دام لا يستطيع المراوغة ولو في الحدّ الأدنى في هذا الإطار، فإنّ قدرته المزعومة على الصمود تتحوّل إلى مكابرة فظّة، وتصير لامنطقية بالكامل، وشكلاً مطلقاً للهلوسة، كما لو أنّه يتصوّر أنّ الثورة لم تنشب ولم تصل إلى هذا الحد إلا لتمكّنه من قمعها ليجدّد بسحقها شبابه، وكما لو أنّه يتصوّر أنّ شبكة الضغوط والترتيبات العربية والدوليّة لم تتبلور إلا لتجعله يفلت من شباكها بيسر وببراعة.
فهل يصدّق بشّار الأسد مثلاً أنّه، من بين كل الأنظمة المومياقراطيّة التي يعصف بها مسار الربيع العربيّ سوف يحتفظ وحده بالسلطة؟ لتخيُّل كاريكاتوريّة هذا الوهم يمكن أن نتخيّل مثلاً حالة مماثلة في شرق أوروبا نهاية الثمانينيات لو أنّ الأنظمة الشيوعية سقطت في كل بلدان شرق أوروبا مثلاً ما عدا ألمانيا الشرقية.. طبعاً هذا السيناريو أشبه بالمستحيل، وهو مستحيل اكثر في الحالة السوريّة.. فالربيع العربي يعني بالدرجة الأولى، والأساسيّة، إسقاط النظام البعثيّ بالتحديد، بل إنّه مركز الثقل في مجموع زلازل الربيع، مثلما كان إسقاط النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية مركز الثقل في كامل ربيع شرق أوروبا نهاية الثمانينيات، وما كان ممكناً تصوّر أن يبقى الزلزال وقتها.
الرئيس البعثي يأخذ علماً بأنّ اللحظة الداخلية والعربية والدولية باتت تستهدفه مباشرة بطلب التنحّي، ويكاد يعي بأنّ هناك مراكز في داخل نظامه باتت على صلة بتسهيل هذا المسار، لكنّه يعتقد هنا أيضاً بأنّ الغلة الدمويّة اليوميّة تكفي، بشرط زيادتها هذه المرة، تحت شعار “الضرب من حديد” ضدّ الإرهاب، أو بمعنى آخر زيادة وتيرتها الدمويّة من جهة، وطابعها الطائفيّ من جهة أخرى.
هو يقول بمعنى آخر، أو بمنطق آخر: لن أرحل إلا بعد أن أخربها بمن فيها. أحياناً، يكون المنطق النافر بهذا الشكل، مدعاة لعملية جراحية “موضعيّة” سريعة. هنا أيضاً، لا يمكن لأحد النفخ في الغيب. لكن الأحداث لن تلبث أن تتحوّل في سوريا إلى “متسارعة للغاية” في هذا الإتجاه.
المستقبل