“الأسود الصغيرة” لإرفن شو: ليست الحرب إلا مجازر متبادلة/ ابراهيم العريس
الحرب هي، عادة، أغرب مكان للقاء بين البشر. ولكن من المعروف في الوقت نفسه، ان الارتباطات التي تقوم بين الجنود خلال خوضهم معاً معركة من المعارك، تظل طابعة اياهم الى آخر أيامهم، من دون أن يعني هذا ان الصداقات التي تقوم بينهم تظل الأبقى بين الصداقات، أو ان العداوات لسبب أو لآخر خلال المعارك، بينهم، هي الأشد والأسوأ. كل ما في الأمر ان الحرب تظل ماثلة. والحرب، الى كونها موتاً ودماراً وجراحاً وانهيارات، هي علاقات أيضاً، وكذلك علاقات تظل وثيقة على غرابتها، وتبقى عميقة بقدر ما يكون المرتبطون بها، إذ جمعتهم الجبهات، غرباء غربة تامة أول الأمر عن بعضهم بعضاً.
ونعرف ان كتاباً كثيرين عرفوا دائماً كيف يصورون تلك العلاقات، سواء أكان ذلك في نصوص لهم تدور أحداثها خلال المعارك والحروب نفسها، أو في نصوص تصور ما آلت اليه أوضاع الناجين بعد أن تنتهي الحرب، أو بعد أن ينتهي دورهم فيها. ونعرف أيضاً ان معظم هؤلاء الكتاب انما صوروا هذا وذاك انطلاقاً من تجارب شخصية عاشوها. ولعل روايتي اريك ماريا ريماركي «لا شيء جديداً على الجبهة الغربية» و «في ما بعد» هما خير مثال على هذا النوع من الأدب… في ما يتعلق بالحرب العالمية الأولى. أما بالنسبة الى الحرب العالمية الثانية، فتكاد تكون رواية ارفن شو «الأسود الصغيرة» (أو «حفل الملعونين» كما ترجمت في الفرنسية وفي لغات أخرى)- تكاد تكون من أقوى ما كتب. خصوصاً أن كاتبها، الذي حاول – وكان هذا الأمر نادراً – أن يصور الحرب من جانبيها الأميركي والألماني معاً، أراد في نهاية الأمر ان يؤكد ان الحرب، كل حرب، لا مجد لها، سواء بالنسبة الى الذين يتقاتلون فيها أو بالنسبة الى الذين يشنّونها. وحتى كذلك، كما يؤكد لنا بعدما أكد هذا، معظم كتّاب كل زمان وكل مكان، أن الحرب ليس ثمة من مجد حقيقي يتوّجها حتى بالنسبة الى المنتصر فيها.
مهما يكن من أمر هنا، لعل في إمكاننا أن نقول ان قوة «الاسود الصغيرة» تأتي، في ناحية منها، من كونها تقدم لنا بعض شخصياتها الأساسية قبل الحرب وقبل انخراطهم فيها. ذلك أن الأحداث تبدأ من ليلة رأس السنة الجديدة 1938، حيث نتعرف أول الأمر الى كريستيان ديستل وهو مدرب تزلج على الثلج، يحدث له ذلك المساء أن يلتقي اميركية حسناء في محطة للتزلج في منطقة التيرول الواقعة عند الحدود الجبلية بين إيطاليا والنمسا، في وقت كانت فيه تلك المنطقة قد بدأت تصاب بـ «الوباء النازي». وفي اللحظة نفسها تنتقل بنا الرواية الى نيويورك في أميركا، مع مايكل وايتكير، الذي كان لتوّه قد أنهى العمل على مسرحية وها هو متوجه لحضور حفل راقص. أما في المقلب الثاني من الولايات المتحدة في سانتا مونيكا على الساحل الغربي، فإن لدينا نوح آكرمان اليهودي الشاب الذي وصل الى المنطقة لتوّه كي يحضر جنازة والده الذي لم يشعر في حياته بأي حب تجاهه.
اننا إذاً، هنا، ازاء ثلاث شخصيات غريبة ومتنوعة لا تعرف بعضها بعضاً. وما كان يمكن أي ظرف من الظروف ان يجمع في ما بينها. غير أن الحرب تفعل ذلك: فتلك الحرب التي كانت طبولها قد بدأت تقرع في تلك الأثناء خافتة أول الأمر صاخبة بعد ذلك، كانت في الوقت نفسه تحضّر للقاء بين هؤلاء الأشخاص الثلاثة.
منذ البداية يكشف لنا الكاتب انه لا يقدم هذه النماذج الثلاثة كنماذج نمطية… بل ان كلاً منها فرد في حد ذاته، له تاريخه الخاص وسيكولوجيته الخاصة. حيث ان كل واحد من هؤلاء الأفراد الثلاثة يخوض الحرب، على انها حربه، مازجاً فيها أفعاله، وسيكولوجيته بتاريخه، مع ملاحظة أساسية وهي أن كريستيان هو الأكثر اثارة للاشمئزاز من بين الثلاثة، ذلك أنه هو الأقسى، والأقدر على أن يلطخ يديه بالدماء، من دون رادع اخلاقي أو وازع من ضميره. إذ سنراه لاحقاً خلال المعارك لا يتردد ما ان يتلقى الأوامر حتى يطلق النار… غير انه ليس الوحيد في الجيش الألماني حتى ولو كان ثمة ألمان كثر لا يقلون عنه قسوة. ففي الصفوف الألمانية، كذلك، هناك جنود طيبون، أو هم على أية حال، ضحايا للحرب مثلما هي حال الجنود الأعداء لهم.
من بين هؤلاء الجنود الأعداء، أي الأميركيين، لدينا هنا إذاً مايكل ونوح. وكل واحد من هذين الاثنين يعيش مساره الخاص، بعد تجنيده، منذ لحظة دخوله الى معسكرات التدريب، حتى النزول في النورماندي، ثم تحرير أول معسكر ألماني للاعتقال. ومن خلال حديثه عن هذين المسارين يصف لنا ارفن شو بالتفصيل، تعامل الجيش الأميركي مع جنوده الذين لا ينظر اليهم القادة إلا كأحجار شطرنج أو آلات صمّاء تستخدم وفق الحاجة، من دون أي اعتبار لأية أبعاد انسانية. بل ان الكاتب لا يفوته ان يصور لنا، في طريقه، استشراء العنصرية ومعاداة السامية داخل الصفوف الأميركية… أي بين أوساط جنود جيء بهم لكي يقاتلوا الألمان… العنصريين والمعادين للسامية.
كل هذا مهم بالطبع، وهو يصنع قوة هذه الرواية وفرادتها… غير أن الأهم من هذا يبقى في مكان آخر، مجاور: النظرة الى الحرب حين تكون آتية من لدن القيادات، في المراكز الحصينة ووزارات الدفاع، في مقابل تلك النظرة حين تكون آتية من لدن الجنود، على السفن قيد الانزال، في الخنادق، في الحصون، على جبهات القتال مباشرة. هنا، في مثل هذا البعد، لافت كيف ان ارفن شو يصور لنا القيادات تشبه بعضها بعضاً وتنظر الى الأمور النظرة نفسها، سواء أكانت ألمانية أم اميركية أم غير ذلك. كما انه لافت كيف ان الكاتب يصور لنا الجنود في الميدان يشبهون بعضهم بعضاً ويفكرون مثل بعضهم بعضاً ويحلمون ويحزنون ويفرحون مثل بعضهم بعضاً سواء أكانوا ألماناً، أميركيين أو غير ذلك.
وهذا الأمر هو الذي جعل النقاد يعطون هذا الكتاب قيمته الكبرى: أي قيمته ككتاب عرف كيف يصف الحرب من الداخل، ويتحدث عنها بخاصة من تحت، من أسفل سلّم التراتبية العسكرية، في المعسكرين معاً، لا في معسكر واحد من هذين المعسكرين. وكذلك سجل النقاد لهذا الكتاب كيف انه، في الوقت نفسه الذي وصف بقوة، وبلؤم ساخر احياناً، حياة الجنود ومصائرهم على الجبهات، عرف أيضاً كيف يتسلل الى خلفية الصورة ليقدم لقارئه أيضاً، بعض الملامح من حياة السكان المدنيين. حتى وإن كان بعض النقاد قد أخذ على ارفن شو في هذا المجال، كيف ان «النماذج النسائية التي قدمها، سواء أكانت نماذج لربات بيوت أم عاهرات أم عاشقات أم نساء عاديات، انما اتت أشبه بالنماذج الهوليوودية منها بالنماذج الطبيعية التي يمكن المرء أن يلتقي بها في أي مكان وفي أي حرب».
غير ان هذا كله بدا غير مهم كثيراً أمام عمل عرف كاتبه ارفن شو (1913 – 1984)، كيف يصوّر فيه وبصدق ودقة، الحرب وقد نزعت عنها هالات الأمجاد والبطولات، لتصبح مجرد مجازر متبادلة لا تفضي الى أي مكان… الحرب وقد صار كل خائضي القتال فيها، ضحايا لا أبطالاً. ومن هنا لم يكن غريباً أن تتلقف هوليوود هذه الرواية وتحولها فيلماً، ولكن من اخراج ادوارد ديمترك، الذي كان في ذلك الحين – أوائل الخمسينات – واحداً من الذين وُضعت اسماؤهم على لائحة ماكارثي السوداء بصفتهم يساريين معادين للقيم الأميركية. ولقد قام يومها ببطولة الفيلم مارلون براندو، الذي كان لا يزال شاباً وكان قد بدأ يُعرف كمتمرد في الأوساط الهوليوودية. أما بالنسبة الى ارفن شو، فإنه كتب كثيراً عدا عن هذا العمل، ومن أبرز أعماله «الغني والفقير» و «المتسول والسارق»، وهما عملان يصوران أميركا في القرن العشرين.
الحياة