الاستقواء بالخارج!
طيب تيزيني
درج ويدرج في مراحل معينة ببعض البلدان العربية، نمط من الكتابة السياسية التي يسعى كتّابها إلى البحث في ما يحدث بالبلد المعني، أما أولئك الكتّاب المنحازون للدفاع عن النظام الحاكم أو، في حالة أخرى، المتماهون به – ونحن هنا نعني النظم العربية القمعية التي اكتسبت هوية “نظام استبدادي وفاسد مفسد” – فإنهم يتحدثون بلغة الشتيمة والإدانة، عن أن الأكثرية الكبرى من الشعب، المتضررة باضطراد، من سياسات النظام القمعي الأمني تطالب بضرورة الاحتماء بقوة ما حيال ما تواجهه من مظالم وجرائم على أيدي هذا النظام القائم. وهؤلاء الكتّاب مع سياسيين ومثقفين وآخرين يتهمون أولئك المتضررين والمضطهدين في داخلهم، بأنهم “عملاء للخارج”، ويسعون إلى تقسيم البلاد في ظل تلك الحماية بالخارج.
الخطاب السياسي الذي يطلقه كتّاب وإعلاميو واحد أو آخر من تلك النظم الاستبدادية وغيرها، يخترقه خطأ معرفي وسياسي، هو أن النظام الاستبدادي، الذي يستأثر بكل شيء، هو نفسه الذي يُنتج فكرة الاستقواء بالخارج، ويتم ذلك عن طريقين اثنين، يتمثل أولهما في امتناعه عن الإصلاح الوطني الديمقراطي، خوفاً من مساءلته عن الخراب الشامل، الذي أحدثه في البلد. أما الطريق الثاني، فيتمثل في إذلال الناس وإرعابهم، إذا طالبوا بالإصلاح.
وإذا حاول الناس (كما يفعل الثوار الشباب الآن) أن يواجهوا تلك الحالة المكرسة بهيمنة السلطة الواحدة وبقانون الطوارئ وغيره، فإن هذه السلطة القمعية تعلن أن هنالك “مؤامرة خارجية” تنقض على “أمن الوطن وسلامته واستقراره”، مسوّغة بذلك “الضرب من حديد على عملاء الاستعمار وأيتامه”.
وهذا بدوره يؤسس لاستباحة البلد بكل الأشكال، تحت رعاية قانون الطوارئ أولاً، وبمسوغات الاتصال بالأجنبي ثانياً، وبتهمة تدمير المؤسسات الوطنية ثالثاً.
ولذلك فإن الثائرين والمنتفضين يصبحون “خونة متآمرين”. ولعل التحليل الثقافي والقيمي والسياسي يظهر أن ما يفعله أولئك القتلة يذكرّ بما تفعله جيوش الاحتلال حقاً حيال البلد، الذي يضعونه تحت قبضتهم.
أردنا من ذلك أن نضبط العلاقة بين دعوة ملفقة لإدخال الأجنبي الاستعماري من قبل من انتفض ثأراً لكرامته وحريته وعدالته المهدورة من طرف، وبين القيام بأشنع الجرائم الإنسانية من طرف آخر. لقد قامت مجموعات بحثية بدراسة طرز العقابيل، التي يخلّفها الاستبداد الشمولي في بلد متخلف، فاتضح أن هذه العقابيل الناتجة عن أسباب اجتماعية سياسية وثقافية واقتصادية وقيمية في فترة من التاريخ، ربما تغري بالاعتقاد بأن ذلك كله إنما يقود إلى القول بوجود “جينات بشرية قابلة للتطور ولتطوير الإنسان” من جهة، وبوجود جينات بشرية “غير قابلة على تحقيق ذلك” من جهة أخرى، ومن شأن هذا، إن صح – وهو غير قابل لأن يصح – فإنه سيسمح بوجود “أعراق متقدمة وأخرى متخلفة”.
من دواعي الأسى أن تظل تلك الإيديولوجيا معششة في أدمغة النظم العربية الاستبدادية، صاحبة السلطة والثروة والإعلام والمرجعية، علماً بأن هذه الأيديولوجيا – خصوصاً حين يُعاد إنتاجها ضمن الوطن الواحد – تصبح هي نفسها الصدى الخطير للخطاب الاستعماري الإمبريالي والعولمي الراهن، هكذا إذن، يظهر أن من يعمل لإدخال الآخر الأجنبي ليس هو الشعب والشعوب، وإنما هو الذي تواطأ مع ذلك الأجنبي من أجل استمراره وجموحه لامتلاك الأبدية.
الاتحاد