الباحث السوري ياسين الحاج صالح: العلمانيون والإسلاميون هدفهما الأوحد هو السُلطة/ محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ «القدس العربي»: ياسين الحاج صالح، كاتب وناقد وباحث سوري مُعارض، ومن أشد المهتمين بشأن الإسلام السياسي وتوابعه، وقد أصدر في ذلك العديد من المؤلفات المهمة، منها على سبيل المثال… «أساطير الآخرين/نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده»، إضافة إلى العديد من المقالات والأبحاث في هذا المجال، من وجهة نظر ليبرالية ناقدة، وغير مقيدة بإيديولوجية أو دوغما عقائدية.
وقد نظم «منتدى الدين والحريات» ندوة بعنوان «مأزق التدين ومعنى الإصلاح الديني»، عبر تقنية فيديو كونفرانس، وذلك في مقر «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» في القاهرة. وتحدث صالح عن اللحظة الراهنة وتبعاتها، وكيفية الإفلات من ثقلها، خاصة في ظِل تغييرات كبيرة طرأت على المنطقة العربية كلها، وأن وجهة النظر التي ترى العالم من خلال خطابها الوحيد الذي يطوّع التعاليم الدينية لخدمة أهداف سياسية، هي نفسها وجهة النظر لفريق آخر يستخدم الآليات نفسها وإن كان من وجهة مختلفة.
منهج مُغاير
استهل صالح محاضرته بالإشارة إلى ضرورة النظر من خلال منهج مختلف عند معالجة الظاهرة الإسلامية المعاصرة.. فبدلاً من منهج يشرح الإسلاميين والمسلمين بالإسلام، وبالتالي مجمل أوضاعنا المعاصرة، فالعمل إذن من خلال قلب هذا المنهج، وشرح الإسلام بالإسلاميين والمسلمين. والهدف من قلب المنظور هو أولا إصلاح تفكيرنا بالشأن الديني، كمقدمة لقول ما قد يفيد في شأن إصلاح الدين ذاته. المنهج الأول هو منهج الإسلاميين أنفسهم، لكنه في الوقت نفسه منهج خصومهم من علمانيين وحداثيين، فالمشترك بين الطرفين هو تفسير ظهور الإسلاميين وسياساتهم وتفكيرهم بالمتون النصية الإسلامية، ليكون الإسلاميون تعبيراً أمينا عن هذه المتون، «هُم مَن هُم لأنها هي ما هي». ونتائج ذلك أنه أنسب للإسلاميين ليصفوا خصومهم بأنهم أعداء لدين المسلمين وعقيدتهم.
الهوموإسلاميكس
ويُشير ياسين الحاج صالح بهذا المصطلح «الهوموإسلاميكس»، بأنه يدل على صنف خاص من البشر، يتميز بأن سلوكه وتفكيره وخياراته في الحياة تتحدد كلياً وفي كل وقت بالمعتقد الديني. وهو طموح كافة التيارات الإسلامية والسلفيين خاصة، وبالتالي أن يكون الإنسان قابلاً للبرمجة على برنامج اسمه الشريعة أو الإسلام، وأن يكون منزوع الحرية والإنسانية تماماً. هذه الفاشية عند الإسلاميين هي افتراض تفسيري لدى خصومهم، يفسرون من خلاله تفكيرهم وأفعالهم على أرض الواقع.
والمشترك الأخير بين الفريقين هو ضمور البُعد القيمي كقضايا الحرية والعدالة، لينتفي الالتزام الاجتماعي والفعل التحرري، فهي استراتيجية تحّكُم وسلطة، فالكل منشغل بالسلطة ومتمركز حولها بفكره وتطلعاته. فالصراع سياسي بالأساس يدور في إطار الأفكار المجردة.
الإنتاج المستمر للإسلام
ومن خلال المشاهدات والتجارب الشخصية يقول صالح، إن المسلمين والإسلاميين في شروطهم العينية لا يكفون عن إنتاج الإسلام الذي يستنتجون أنفسهم منه، بما يجعل منهم التعبير الأمين عنه. وهم لا يفعلون ذك بكامل الحرية، تقيدهم لغة وذاكرة ومخيلة متشكلة في الأزمنة الإمبراطورية الإسلامية، تقيدهم أيضاً شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية راهنة، يعملون في ظلها.
لكنهم يشكلون من مواد الماضي وبشروط الحاضر أشياء جديدة، منها منظماتهم الإسلامية ذاتها، ومنها نظرياتها في الحكم مثل «تطبيق الشريعة»و»الحاكمية الإلهية»، لكن أهمها هو»الإسلام» ذاته. من المهم إدراك عملية الخلق المستمرة للإسلام من أجل إصلاح تفكيرنا، ومقاومة مركزة النقاش حول «الإسلام» الذي يفترض أنه متماثل مع ذاته ولا تاريخ له. للإسلام تاريخ، هو تاريخ المسلمين، بمن فيهم الفئة الحديثة الخاصة، التي تسمى (الإسلاميون).
أزمة التديّن
وعبر خلق»الإسلام» يقوم الإسلاميون عملياً بفصله عن عموم المسلمين، وبتملكه الخاص، وتحكيم هذا «الإسلام الصحيح» العالم والمخلوق والمناسب للسلطة، بالإسلام الاجتماعي، على نحو ما تطور تاريخياً عبر الأجيال والقرون. أزمة التدين متولدة عن ذلك بالذات، عن محاصرة إسلام المجتمع الأخلاقي بإسلامات سياسية، تتطلع إلى إنتاج الهوموإسلاميكس بالجملة. وهذا كائن بلا كيان شخصي، لا قلب له ولا عقل، لكن له برنامج هو «الشريعة».
الشريعة والاشتراكية
الأصل التاريخي لظهور الإسلاميين المعاصرين يرجع لانهيار السلطنة العثمانية وظهور الدولة الوطنية الحديثة ككيان علماني مبدئياً. لم يعتبر سقوط الخلافة نازلة كبرى إلا على نطاق ضيق، هذا ما يدل على أن الإسلام ليس مرهوناً بالامبراطورية أو بأي سلطة، ولو محلية. صحيح أنه كانت للإسلام طوال أكثر من ألف عام السيادة الرمزية، وكان مصدر شرعية السلطات، لكنه كان أيضا دين مجتمعات المسلمين المتنوعة، التي عاش كثير منه أزمنة متطاولة من دون سلطة مركزية. وأيا يكن الأمر، فإن الدولة الحديثة أو القديمة المحدثة لم تواجه بمقاومات إسلامية تستهدف كيانها لمصلحة ما يفترض أنه كيان إسلامي.
الواقع أن أخطر مقاومة كيانية للدولة الحديثة كانت «علمانية «وتمثلت في الفكرة والحركة القومية العربية التي تطلعت إلى زوال «التجزئة» القائمة، وقد نسبتها إلى الاستعمار حصراً، وإلى إقامة كيان عربي واحد. ركّبت الفكرة العربية المطامح الامبراطورية على الإيديولوجية القومية الحديثة، واخترعت تصور الأمة العربية الذي بنى الإسلاميون مفهوم الأمة الإسلامية على غراره ــ في الخلفية الذاكرة والمخيلة الامبراطورية الإسلامية، المعبر عنها باللغة العربية أساساً، مثلما بنوا تصور الحاكمية الألهية على غرار مفهوم السيادة الخاص بالدولة الحديثة، وفي صيغها الشمولية ــ والأرجح أن تطبيق الشريعة يقتدي ويهتدي بتطبيق الاشتراكية، وقد كان تعبيراً شائعا في ستينات القرن العشرين، وأن «الإسلام هو الحل» نسخة متأخرة عن «الحل الاشتراكي» الشائع أيضا وقتها. فلا أصالة إطلاقا في نزعة الإسلاميين الأصولية.
وجهان للعملة نفسها
بمحصلتها، كانت الحركة القومية العربية هروباً إلى الأمام من إصلاح وأنسنة الدولة أو تأهيلها، بحيث تصير الدولة الترابية مكسباً اجتماعياً تحرريا. وهي هروب بالقدر نفسه من وجوب إطلاق عملية إعادة هيكلة تاريخية لميراثنا الديني والثقافي في اتجاه تصفية العناصر الامبراطورية أو الامبريالية منه، ليس لأنها مناقضة للدولة الوطنية فقط، وإنما كذلك لأنها مناقضة لتملك المجتمع للدين، بحيث يكون سندا روحياً وأخلاقيا له في مواجهة تقلبات التاريخ. كذلك فإن ما يرفضه الإسلاميون في العمق هو التملك الاجتماعي للدين، والحرية الدينية التي يمكن أن تتأسس عليه، فقط امتلاك الدين والدولة معا. فالواقع أن «فصل الدين عن المجتمع» الذي ينسبه الإسلاميون إلى العلمانية هو المحتوى الحقيقي لتطلعاتهم السياسية.
ليس منطلقهم في رفض العلمانية هو الدفاع عن حق المجتمع في امتلاك الدين، بل الدفاع عن ملكيتهم هم له. الإسلاميون هم مَن يقوم برنامجهم على فصل عموم المسلمين عن دينهم والعمل على أسلمة المسلمين من جديد ومن فوق، أي أيضاً خفض قيمة الرأسمال الاجتماعي لعموم الناس، وتالياً وزنهم السياسي، والاستناد إلى احتكارهم ــ الإسلاميين ــ لهذا الرأسمال للمطالبة لأنفسهم بالسلطة، بالقدر نفسه يدافع العلمانيون عن دولة فوقية، كجهاز رقابة خارجي، يراقب الدين، ويراقب المجتمع، وليس معنيا لا بالعدالة ولا بالحرية. هؤلاء آيديولوجيو الدولة الخارجية في رأيي ــ يقول صالح ــ يثقون بها بقدر ما يخافون من عموم السكان. ودولتهم وكالة قوة «رسالتها التحضيرية» هي حداثة الأشياء والمركزة السياسية والإدارية، والتحكم بالموارد العامة، لكنها لا تستمر إلا بقدر ما تنجح في فصل السكان عن السياسة، وحرمانهم من امتلاكها. فامتلاك السكان للسياسة هو ما يؤنسن الدولة ويجعلها دولة اجتماعية، وهو سند لامتلاك الدين اجتماعيا وأنسنته.
الصراع واحتمالاته
المسألة الدينية لا تنفصل عن المسألة السياسية، وأن معالجة الأولى ممتنعة أو ضعيفة المردود من دون معالجة الثانية، لقد شكل فساد الدولة، بمعنى فوقيتها ولا اجتماعيتها، بيئة مناسبة لفساد الدين وتسلطيته، على نحو ما يعبر عنها الإسلاميون السياسيون بعمومهم، الإخوان والسلفيون والسلفيون الجهاديون. فإصلاح الدولة وإصلاح الدين مترابطان بالمقابل.
وقد يمر إصلاح الدولة بثورة أو ثورات، لكن إدارة عنق الدولة إلى الداخل والتحت الاجتماعي أمر واجب، وممكن. وبالتالي فإصلاح الدين عملية ممكنة بدورها، وإن كان مرجحا أن تمر بصراعات واضطرابات كبيرة. ومؤدى الإصلاح إدارة عنق الدين نحو الحاضر والمجتمع، لا نحو الماضي والسلطة.
فإذا كان منطلقنا هو الوضع الحالي، وهو يتميز عموما بصراع متفاوت الحدة بين النخب المستولية على الدولة وبين الإسلاميين المستولين على الدين، أتصور أن الآتي لا يتعدى واحدا من احتمالات ثلاثة .. إما استمرار الصراع بين نخبتي الدين والدولة، وهو ما يفسدهما معا، ويعزز ميولهما التسلطية، ويستنزف مجتمعاتنا ماديا ونفسيا، أو استيلاء الإسلاميين على الدولة القائمة، أي الجمع بين الدين والدولة، ويبدو لي مآل ذلك هو الطغيان، والطغيان فقط، ليس الحرية ولا العدالة ولا الكفاءة، ويبقى احتمال ثالث هو إصلاح الدولة وتحول الإسلاميين من الصراع معها وعليها إلى مرجعية توجيهية للمؤمنين، لا تعمل على مستوى السلطة ولا تمارس وظائف سيادية، أي التحول من الدولة إلى المجتمع، ومن السياسة إلى الأخلاقيات، ومن هذيانات فتح العالم الكبير الامبراطورية إلى انشراح العالم الصغير الإنساني.
القدس العربي