الشاعر السوري نورس يكن يروي جلجلة اعتقاله في السجون السورية:
عديدون ماتوا ولاعب كرة فقد عقله تحت عنف التعذيب بالكهرباء؟
حاوره: مصطفى شريف
… هو ذاك النورس الفتي.. الذي يكتب شعراً يرفض التضليل.. والمتدثّر بقصائد ظاهرها من “عليين” وواقعها من سجيل المنتفض على كل ما هو بالٍ الـ”مثير للشغب” في زمن تائه مرتٍّلاً “آياته” الشعرية التي خطّها بمداد دموي.. متحدياً أقبية السجن وقضبان الأسر، وليالي العتمة والقهر.. وصولاً إلى سقم المنفى اللبناني القسري على يد ذوي القربى..
إنّه الشاعر والمناضل السوري “الحلبي” نورس يكن، الذي وهو لا يزال في ريعان الشباب، حمل ثقل تجربة قاسية مع الحرية، ووطن الغد، والدولة المدنية الديمقراطية التي ترنو إليها نفوس المعذَبين في الأرض.
أما ونحن في رحاب حلول الذكرى السنوية الثانية لاندلاع الثورة السورية، التقت “المستقبل” الشاعر في منفاه “البيروتي”.
و”لأنني أرى وأسمع وأتكلم” أنا ما أنا عليه اليوم.. (ردّدها النورس الحلبي قائلا) نشأتي كانت في أسرة الكلام فيها مباح، للصغير كما للكبير، رغم أنّها لا تضم معارضين أو معتقلين سابقين، إلا أن الثقافة والسياسة لطالما كانتا محور معظم لقاءات هذه العائلة الحلبية، وبما أنّني كنت الأصغر سناً أبدا لم أشعر بسطوة الكبار على رأيي بل كان الكل يستمع لي، يأخذ أو لا يأخذ برأيي، لكن كان التعبير حقا ممتلكاً..
الكتاب الأول.. والخطوط الحمر
وبدأت العمل على الكتاب الأول، الذي بعد مخاض عسير حول اختيار الاسم كان “مثير للشغب”.. ورغم أنّني لم أكن، لا قبل ولا خلال كتابة قصائدي، أسعى لأكون معارضاً، أو مجابها للنظام، إلا أنّ حفل توقيع “مثير للشغب” كان الخطوة الأولى لي مع التحديات، كونه تعرّض للإلغاء، رغم أنّنا لم نكن نتوقع ذلك، فالحفل سبق وحاز كل الموافقات الرسمية، وحتى السياسية منها، إثر حذف عدد من القصائد من الكتاب، من بينها قصيدة “يا سيدي السلطان” الموجّهة مباشرة ضد بشار الأسد، وأخرى تُدعى “فلسفة عربية” تتخطى “التابوهات” الدينية في الوطن العربي.
وفيما كنّا نحضِّر لحفل توقيع الكتاب على مسرح مديرية الثقافة في حلب، جاءنا الخبر اليقين عن رفض المحافظ – الذي كانت الموافقة الأخيرة برسم أهوائه – لكل أجزاء الأمسية المرتبطة بي فيما نالت الفِرقة الموافقة، بذريعة أنّ الشارع لا يتحمّل عنوان “مثير للشغب”، خصوصا أنّ الحفل كان في شباط 2011، أي قبل شهر من اندلاع الثورة السورية.. وأُلغِيَ الحفل..
حلم الثورة.. والحِراك الشبابي
أما اعتقالي فكان بسبب حوارين إذاعيين، بعض القصائد، وبعض التظاهرات.. فبداية من 5 شباط 2011، بدأت الدعوات للاعتصام في دمشق وحلب، في وقت كنتُ من الرافضين لهذه الدعوات كوننا نعرف خلفية النظام السوري، وأساليب تعامله، وحتى إذا ما قارنّاه بأقرب الأنظمة العربية كان شبيهاً بنظام القذافي، الذي قصف طرابلس الغرب بالطيران، فليس صعباً على بشار الأسد قصفنا بالنووي إذا كان يملكه..
وفشلت الدعوات للتظاهر يوم الخامس من شباط 2011، في ساحة سعدالله الجابري وسط حلب، وهو الشارع الأطول في المدينة وتتخلله مفارق متعدّدة، سكنتها دوريات قوى الأمن ومكافحة الشغب من أوّله إلى آخره.
وكان يوم 15 آذار 2011، يوم اشتعلت منطقة الحريقة، لتليها في 18 منه شُعلة الثورة، وتتوالى التحرّكات، وتتوسّع رقعة الانتفاضة الشعبية، فما كان من الرئيس السوري إلا أنْ خطا خطوة جيدة نوعاً ما بالعفو في 24 آذار عن عدد ضخم من المعتقلين السياسيين، وصولاً إلى يوم خطابه الأول في 28 آذار، حيث برزت الرؤية الواضحة للسلطة، والتي كانت مخيّبة للآمال خصوصاً مع عبارة “إذا أتت المعركة، فأهلا بها”، وكلمات “متآمرين، مندسين، وإلى ما هنالك”.. فوُلِدَ أول رأي لي عبر صفحتي الإلكترونية على الإنترنت، وكان شتيمة لبشار الأسد..
وأقمت أمسية شعرية في الصالون الأدبي “السابق الذكر” بعنوان قصائد خاصة جدا، وألقيت فيها قصائد معارضة، لكنّ شيئاً لم يحدث لي، فلا الأمن اعترضني ولا حتى تم توقيفي.. وتمر الأيام والحِراك الشعري والأدبي عبر الإنترنت يتفاعل والثورة على الأرض تكبر وتتوسّع وتحصد ضحاياها، حيث كنت قد بدأت من أيار 2011 المشاركة بالتظاهرات والتقيت بعدد كبير من الشباب الناشط في حلب، لكن كل المشاركات كانت سرية.. إذ لم يكن عدد المتظاهرين في حلب آنذاك يتجاوز الـ 5000 شخص، فيما كان الشبيحة 3 أضعافهم، وقد جاء من يقول بأن عدد الشبيحة المسجّلين رسمياً في سجلات الأمن من مرتزقي النظام بلغ 8000 شخص، غير الأرقام الضخمة للشبيحة الانفراديين..
الاعتقال.. والمحاكمة
وخلال فترة حزيران – تموز 2011 التقيتُ الناشط السياسي غسّان ياسين، وتوطدت العلاقة بيننا، وعملنا معاً، كما اعتُقلنا معاً، على يد جاسوس خائن، تعرّفنا عليه على أنّه أحد أشاوس “مسجد آمنة” إحدى أهم بؤر الثورة في حلب، وهو من حي الخالدية بؤرة الثورة.
وغداة تظاهرة “بدر حلب” التي سُميت كذلك لأنها تزامنت مع ذكرى معركة بدر الكبرى، وكانت الكبرى وقتها وضمّت ما يزيد على 2500 شخص، ومشت مسافة طويلة.. اجتمعنا في اليوم التالي (18 رمضان) في مقهى درجة ثانية في حي حلبي مسيحي الطابع، وإذا بالجاسوس يغادرنا لتهبط علينا القوى الأمنية وتعتقلنا أنا وغسّان.. وبدأت رحلة العذاب..
قضيتُ في الاعتقال 80 يوماً، 50 في حلب، 20 في دمشق، و10 متفرقة بين تنقلات سجون ومحاكم.. خرجت وأنا على ذمة القضية بست تُهم “تحقير الرئيس، تحقير الجيش، إضعاف الشعور القومي، إثارة الشغب، التظاهر دون ترخيص، وتشكيل تنظيم سري”..
ولكن أؤكد أنّ الأيام الخمسين في حلب كانت أرحم وأخف وطأة من باقي الفترات، رغم أنّها كانت تتُسم بالتعذيب والضرب (العصي، الضرب على القدمين، بساط الريح) والإهانات، والحبس الانفرادي، واللعب على وتر اقتراب موعد الإفراج، وسخرة توزيع الأكل.. حتى لقائي بأهلي كان محرّماً بداية إلى أنْ قامت والدتي باتصالات عديدة، ووصلت إلى أعلى المستويات حتى تمكنت من معرفة مكاني واللقاء بي، وكم كانت تؤكد أنّ أحد العسكريين في فرع الأمن الجوي جابهها خلال رحلة بحثها عني قائلاً: “نحن كنّا فرع أمن واحد وحكمنا لبنان، وكم من أم رفعت صور أبنائها على الجدران، وأنتم لم تُحسِنوا تربية أبنائكم…”.
وتم نقلي إلى دمشق، وكانت الطامة الكبرى، حيث تعرّضت للإجرام الوحشي تحت التعذيب، بكل أنواعه حتى الكهرباء، ما ترك في أطرافي اليمنى نوعاً من الخذلان، والوهن، احتجتُ بعدها لعلاج فيزيائي وحالياً اتحسّن ولكن ببطء، وتوالت أيام التعذيب والأسر، ويا لهول ما شاهدته وسمعته، حيث كان بيننا لاعب كرة سلة من فريق “الكرامة” والمنتخب الوطني أيضا تم إطلاق النار على إحدى ساقيه خلال التحقيق معه ولم يتم استخراجها.. فيما فقد آخر عقله بسبب الكهرباء بعدما كان متفوّقا في علم الكيمياء، وغيرهما الكثير.. الكثير..
عُرِضْتُ على المحكمة العسكرية في حلب، فلم تر ضرورة لتوقيفي فترة أطول، وحُوّلت أوراقي إلى المحكمة المدنية التي أيضا لم تر الضرورة للتوقيف.
إلى لبنان دُر
إلى أنْ تم إخلاء سبيلي تحت المحاكمة في 3 تشرين الثاني 2011، على أن أعود للمحاكمة عند الطلب، وفعلا تمّت مداهمة منزلي ليلة رأس السنة 2011/2012، لكنّني تخفيت عدة أيام عند أحد الأصدقاء، لأغادر بلادي متوجها إلى لبنان في 23 كانون الثاني 2012، تاركا خلفي كلي وبعضي..
وفي لبنان.. اقتصر عملي بداية على الدراسة، حيث انتسبتُ إلى إحدى الجامعات في مدينة طرابلس، ولما صار الوضع مترديا ماديا، كان لا بد من البحث عن عمل..
وبين هذا وذاك، عملتُ ولا أزال مع بعض الأصدقاء السوريين من الناشطين في الخدمات الإنسانية، والمقيمين في لبنان على ترميم نفسيات الأطفال النازحين تحت راية “هيئة العمل المدني السوري” الذي نسعى لنحصل على ترخيص له من الجهات المختصة..
“آيات لم يكتبها الرب”
هو عمل بدأت بكتابته منذ ما قبل الاعتقال، ولكن كان للاعتقال أثر كبير فيه، بل هو كما عرّفته وأعرّفه مجموعة قصائد ظاهرها الفرح وباطنها الألم أشجو بها لتزهو في نفوس المعذبين في الأرض، وخاصة أبناء الثورة السورية وجراحاتهم المتكررة بكل ما فيها من ألم، ونزف، ويتم، مستمر إلى اليوم..
وكم لي من عتب على دور النشر في لبنان، التي ذقتُ بسببها مرارة الغربة وأنا في وطني الثاني، حيث عمدت كبرى الدور إلى رفض نشر الكتاب لمجرّد أنّه شعر، ومع ذلك، كنتُ مُصرّاً إلى أن وُلِد الكتاب عبر الدار العربية للعلوم – ناشرون، بـ165 صفحة و43 قصيدة، بعدما أدخلت بعض التعديلات الخفيفة عليه، وتم حذف القصيدة السابعة من “السباعيات” التي يحتويها الكتاب كونها تتعلق بحدود دينية معيّنة ارتأت الدار الابتعاد عنها..
المستقبل