صفحات العالم

المسافة بين حماة وحمص…


خيرالله خيرالله

لا تبعد حمص عن حماة سوى خمسة واربعين كيلومترا. لكنّ المسافة الزمنية بين المدينتين عمرها ثلاثون عاما. انها سنوات كافية للتأكد من ان العالم تغيّر وان حمص في السنة 2012 غير حماة في السنة 1982. هذا يعني في طبيعة الحال ان الشعب السوري لن يوقف ثورته ويعود الى بيت الطاعة كما حصل في العام 1982 نتيجة المجزرة التي تعرّضت لها حماة. الى الآن، ليس هناك من يستطيع اعطاء رقم محدد عن ضحايا المجزرة التي ارتكبتها القوات التابعة لالوية معينة ذات صبغة معيّنة.

ما حلّ بحمص عموما وبابا عمرو على وجه التحديد في السنة 2012 يعطي زخما جديدا للثورة السورية التي كانت ولا تزال وستبقى امّ الثورات العربية في العصر الحديث. انها ثورة ترمز الى رغبة شعب بكامله في التخلّص من نير العبودية واستعادة كرامته. الدليل على ذلك ان تدمير جزء اساسي من حي بابا عمرو لم يوقف المقاومة. المقاومة مستمرّة. انها مقاومة يمارسها شعب يرفض الرضوخ للحلّ القمعي والاستسلام له.

باختصار شديد، حمص 2012 ليست حماة 1982 التي تعرّضت لمجزرة مروّعة لم يعرف العالم شيئا عنها الاّ بعد اسابيع عدة من حصولها. حمص في السنة 2012 تعرّضت لقصف مستمر بالاسلحة الثقيلة منذ ما يزيد على شهر. حاولت الاسرة العربية التحرك، كذلك المجتمع الدولي، لكن روسيا والصين حالتا دون ذلك. انهما تتحمّلان، مع ايران طبعا، جزءا من مسؤولية الدم الذي سال والمجازر التي حصلت. لن ينسى اهل حمص ولا السوريون والعرب حماية طهران وموسكو وبكين لنظام قاتل يعتقد ان في استطاعته الانتصار على شعبه.

امنت حماة في العام 1982 ثلاثين سنة اخرى لنظام الراحل حافظ الاسد ثم لنجله الدكتور بشّار الذي خلفه في السنة 2000. السؤال الآن كم عدد السنوات التي سيبقى فيها بشّار الاسد في السلطة بعد مجزرة حمص؟

ليس صعبا الاجابة عن السؤال. النظام السوري انتهى. كان هناك تواطؤ عربي ودولي في العام 1982. صبّ التواطؤ في اتجاه تغطية ما ارتكبه الاسد الأب. كان تدمير حماة على اهلها كافيا كي يدبّ الرعب في سوريا كلّها. صمدت جمهورية الرعب التي تأسست في العام 1970 ثلاثة عقود اخرى. ساد السكون القاتل في كلّ انحاء سوريا. اكثر من ذلك، نجح النظام في جعل الرعب يخيّم على لبنان ايضا. استهدف طرابلس واستهدف زحلة. قبل ذلك، اي قبل مجزرة حماة، احرق مناطق مسيحية واسلامية عدة في لبنان. من صيدا، الى الدامور، الى الاشرفية… الى قرى مسيحية حدودية في البقاع والشمال. بعض هذه القرى حوصر وبعضها الآخر دمّر بشكل منظّم بهدف نشر الرعب. عمل على تهجير اهل هذه القرى لافتعال انقسام طائفي ومذهبي في لبنان. بعد ذلك، ضرب ضربته الكبرى بفضل الغطاء الذي امّنه له الجنرال ميشال عون، النائب المسيحي حاليا، الذي كان حليفا لصدّام حسين، لدى احتلاله الكويت، كما كان يحتلّ القصر الرئاسي في بعبدا في العام 1990.

وقتذاك، بفضل عبقرية ميشال عون، دخلت القوات السورية قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة للمرّة الاولى منذ استقلال الوطن الصغير وامنت سيطرتها على كلّ لبنان بعد سيطرتها على سوريا نفسها.

كانت حماة 1982 نقطة تحوّل على صعيد توسيع نطاق سيطرة النظام على كلّ من سوريا ولبنان. تمثّل حمص في السنة 2012 نقطة تحوّل في اتجاه رحيل النظام الى غير رجعة. فما لا يمكن تجاهله ان النظام السوري خرج من لبنان في العام 2005 نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وذلك تحت ضغط اللبنانيين عموما والشارع السنّي في المدن الكبرى والمحافظات، على رأسها بيروت وطرابلس وصيدا خصوصا. عاد النظام الى سوريا وصار نفوذه في لبنان مرتبطا الى حدّ كبير بمشيئة “حزب الله” التابع لايران. بدل ان يهتمّ بمشاكل سوريا وشعبها الصابر، اعتقد ان في استطاعته استعادة الاعتبار عن طريق تكرار تجربة حماة 1982 في كل انحاء البلد بدءا بدرعا الباسلة التي كانت اوّل من انتفض قبل سنة.

في العام 1982، وفّرت مجزرة حماة حياة جديدة للنظام. في السنة 2012، يبدو ما شهدته حمص اقرب الى النهاية من اي شيء آخر. لم تخمد مجزرة حيّ بابا عمرو في حمص الثورة السورية. على العكس من ذلك، وفيما كانت قوّات النظام تتابع حملتها على اهل المدينة، كانت مدن وبلدات عدة في مناطق مختلفة تنتفض مجددا. شمل التحرّك دمشق وحلب.

كلّ ما يسعى السوريون الى اثباته في السنة 2012 هو ان التاريخ لن يعيد نفسه. ما بدأ في حماة قبل ثلاثين عاما انتهى في حمص التي تبدو مصمّمة على قطع الطريق على اي محاولة لتقسيم سوريا وتفتيتها واعادتها الى نظام الوصاية العائلي- البعثي. تحوّلت حمص بتنوعها الطائفي والمذهبي والاثني الى قلب سوريا النابض. من حمص يمكن اعلان نهاية النظام العاجز عن فهم انه ليس في استطاعة اي حاكم، مهما بلغت سطوته وعنجهيته والدعم الايراني والروسي والصيني، الغاء شعبه الى ما لا نهاية. حماة كانت البداية وحمص تبدو وكأنّها النهاية. انها مسافة تفصل بين مدينتين تختصر التحوّلات التي شهدها العالم في ثلاثين سنة سقط خلالها جدار برلين وانهار الاتحاد السوفياتي واحتلّ الاميركيون العراق… واخرج اللبنانيون القوات السورية من بلدهم!

هناك بكلّ بساطة من لا يريد اخذ العلم بذلك!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى