راشد عيسىصفحات الثقافة

المسلسلات الشامية: استنساخ البطولات الزائفة/ راشد عيسى

باتت مسلسلات البيئة الشامية نمطاً شائعاً ومكرساً، إن لم نقل من أكثر الأنواع الدرامية طلباً في سوق المشاهدة. هذه السنة فقط نحن أمام ستة أعمال تلفزيونية دفعة واحدة من بين عشرين عملاً تلفزيونياً. قد لا نحصل على جواب حاسم بخصوص أسباب هذا الطلب المتزايد، ولكن تقصّي ملامح هذه الدراما قد يكون نوعاً من الجواب.

قد يكون “باب الحارة” بأجزائه العديدة النموذج الأشهر لهذا النوع، وكان حقق حضوراً استثنائياً لعمل تلفزيوني. كان ذلك المسلسل يصور حارة شامية شبه مغلقة، أهلها متعاضدون، يمثلون قيماً وأخلاقاً أقرب إلى الكمال، كذلك فهم أبطال صناديد بإمكان الواحد فيهم أن يفتك لوحده بجيشٍ من المحتلين. أعاد المسلسل الاعتبار لقيم القبيلة، والانصياع لأحكامها. حضور طاغ لأمور شكلية صارت بمثابة رموز لها قدسيتها، الشوارب على سبيل المثال. هذا إلى جانب إحياء لهجة وعبارات وطرق في التحية باتت أقرب إلى الانقراض نهائياً، لكن المسلسل فتح لها مسرباً للحياة من جديد.

 لا ينبغي إهمال هذه الظاهرة، نعني ظاهرة انتعاش هذا النمط، وقدرته على إحياء ذاكرة، بل تحويل عالم الحارة الشامية إلى نمط عيش مرغوب، وعلامة تجارية رابحة. لا بد من دراستها كظاهرة اجتماعية قبل دراستها درامياً.

غير أن انتعاش الظاهرة في سوريا هذه الأيام له سبب إضافي جديد، هو صعوبة التصوير خارج دمشق بسبب أوضاعها الأمنية المستقرة نسبياً، خصوصاً داخل أسار المدينة القديمة. لنتذكر مثلاً كيف جرى تحويل مسلسل مأخوذ عن رواية تحكي عن مدينة حلب على أنها جرت في دمشق، وذلك بالطبع بسبب استحالة التصوير في عاصمة الشمال السوري، بعد أن جرى تدمير عمارتها التاريخية. إنها (أعمال البيئة الشامية) إذاً نوع من الحل، ولو أنها اليوم تعاني من قيود جديدة لم تخطر لها من قبل على بال، وهي الرقابة التي فرضتها وزارة الإعلام السورية، عبر “لجنة صناعة السينما والتلفزيون” والتي تقضي بضرورة حذف علم الثورة السورية، الذي ظهر في الأجزاء السابقة من المسلسل، باعتباره العلم الذي رفعه الثوار في وجه الاحتلال، واعتُبر علم الاستقلال. كذلك ممنوع أن تأتي تلك المسلسلات على ذكر ثوار الغوطة، الأمر الذي لم يكن يعني سابقاً غير استنهاض مشاعر العزة السورية.

 علينا أن نتوقع من تلك المسلسلات أيضاً أن تنصاع للسياسة الرسمية السورية وتوجيهاتها، طالما أن تصويرها يجري في مناطق سيطرة النظام، تحت سمعه وبصره، فمثلما كان يحدث دائماً، إن كنا على خصام مع الأتراك يمكن أن تعطى توجيهات للدراما كي تنتج “إخوة التراب”، الذي يتحدث عن فظائع العثمانيين في بلادنا، وإن كنا على خصام مع الفرنسيين على المخرجين أن يرفعوا عيار الوحشية الفرنسية. سنرى إذاً إن كانت وتيرة النقمة على الفرنسيين والأتراك قد ارتفعت في مسلسلات هذا العام.

 سبات الملاحم

واضح إذاً إن هذه المسلسلات لم تستنفد أغراضها، وحسب كاتب السيناريو هوزان عكو فإنها “كغيرها من الأعمال، لن تستنفد أغراضها ما دام هناك طلب وجهات مهتمة بإنتاجها ومحطات تعرضها ومعلنون، فالأمر يتعلق بجودة العمل وأصالة حكايته، وهذا ما لا يتحقق دائما”. ويؤكد عكو “لن أتردد في اختيار البيئة إطاراً لحكاية إذا ما وجدته الأنسب للشخصيات والحكاية”.

 لدى سؤالها قالت سينمائية سورية إنها تعتبر “الدراما “الشامية” شكلاً نمطياً خالصاً وشديد المحلية والخصوصية، لذلك هي شكل ناجح للتلفزيون لا يمكن إلا أن يستمر ويستثمر دوماً”. لكنّها تفرّق بين تلك التي كانت تعرفها في طفولتها، حيث تقول “عندما أفكر في “دراما شامية” تقفز إلى مخيلتي أولاً ومباشرة صورة “أم كامل” (التي كان يؤديها الفنان أنور البابا)، والسكتشات المسرحية التي كانت تعرض على التلفزيون سيدة دمشقية ظريفة وقاسية. كذلك يحضر “حمام الهنا”، ومسلسلات من نوع “حارة القصر” و”أسعد الوراق” لينتهي المطاف إلى مسلسل “أيام شامية”..”.

 لا تنفي السينمائية السورية أنها “عاطفياً أحب الدراما الشامية، وأحن إلى تفاصيل أتذكرها في طفولتي في أحياء الميدان عن البيئة الدمشقية التي كنا ما نزال نلمح بقاياها في وسائل النقل والأسواق القديمة وحواري دمشق التاريخية” . لكنها تعتبر في عودة الدراما الراهنة إلى البيئة الشامية “عودة رديئة على مستوى المضمون، الكتابة والحكاية، إلى مشاكل أخرى في الأداء والإخراج وغلبة الظرف التجاري البحت على مسير العمل عموما وحتى على مصير الشخصيات”. وهذا ما يدفعها إلى القول “في الواقع، ورغم التطور الفني الذي شهدته الدراما في العقد الاخير، فقد شهدت أيضاً تراجعاً على مستوى المضامين للاعمال المنتجه.. الفرق واضح بين  الفن البسيط الذي قدم للناس زماناً ولكن بصدق، وبين فن ركيك بلا مشاعر مليء بالكذب. هي سلسلة من الكذب تبدأ من الكاتب وصولاً الى الممثل”.

 وأخيراً لا تتردد السينمائية الشابة في الوصول إلى نتيجة مفادها “مشكلة الدراما الشامية هي مشكلة الفن التي تفاقمت في سوريا عموماً، التراجع والاستسلام الكامل لصالح المزيف،.. والمدعوم”.

 المخرج مأمون البني اعتبر أن “المشكلة ليست بالبيئة الشامية بل بمسلسلات الاستنساخ عن الأعمال الأولى التي اعتمدت بالأصل على قصص خارج الزمن أقرب لقصص “ألف ليلة و ليلة”، وعوضاً أن تساعد شهريار لينام، ساعدت، وما زالت تساعد العرب للاستغراق في سبات ملاحم البطولات الزائفة، وخرجت عن سياقها الدرامي التأريخي”.

ويقترح البني “آن الأوان لتقديم واقع حياتي لتاريخ الشام بقصص تهم الأجيال وتكشف عن تاريخ حقيقي عاشه أجدادنا، وما زال حنين هذه الأيام يلامس وجداننا. الشام التي نعيشها الآن بفضل الأقدمين الذين دافعوا لتكون بلاداً محررة من الطغاة، الشام التي امتزجت فيها العادات والتقاليد والأدب والفن، وحولت الانسان الأميّ إلى شاعر يتغزل بالمرأة والياسمين والحرية، تلك التي كانت بيوتها متقاربة الأبواب وملتصقة الأسطحة. لقد كانت عوائلها، بعكس ما قدمتها المسلسلات، مبتعدة عن بعضها في زواريبها وملتحمة الأسطح، كانوا يمضون السهرات العائلية على المشارق يتناولون الطعام و المشارب في الأعالي على قمم الفرنكات ( جمع فرنكة وهي الغرفة العليا على السطح). بالمختصر: الشام التي بقدر ما تضيق حاراتها بقدر ما هو فسيح قلبها وعالمها من الداخل”.

 لا ندري إن كانت الشام ستصل سالمة إلى رمضان المقبل كي تشاهد أعمالاً من قبيل “دهب العتيق”، “باب الحارة 6″، “خاتون”، “الدومري”، “طوق البنات”، أو سواها، لكن الأكيد اليوم أن السوريين بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، لتصوير دمشق الراهنة، كي لا يأتي غداً من يعبث بتاريخها ويومياتها وذكرياتها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى