المعارضة السورية: من يتذكر؟/ عمر قدور
في الرابع عشر من الشهر الحالي انسحبت «الكتلة الديمقراطية» في ائتلاف المعارضة السورية من جلسة انتخاب رئيس الحكومة المؤقتة، التابعة للائتلاف، بينما كان حي الوعر الحمصي يتعرض لقصف عنيف غير مسبوق. الانسحاب الاحتجاجي صار من فلكلور المعارضة، مثلما صار من فولكلورها أن يهدد واحداً من قيادييها بين الفينة والأخرى، كلما اختلف مع زملائه، بكشف المستور من فضائح الائتلاف، ثم يقلع عن تهديده بعد تسوية تبقى «مستورة». إذاً، لم تكن هجمة قوات النظام الشرسة على حي الوعر لتؤثر في المناكفات المعتادة بين كتله أو أعضائه، من يتوقع سوى ذلك؟
الكارثة أن لا أحد يتوقع سوى ذلك، وأن أعضاء الائتلاف وقياداته لا يخيبون التوقعات في ما يخص خلافاتهم على المناصب والحصص، وأنهم لم يعودوا منذ أمد بعيد يخيبون التوقعات في ما خص أداءهم السياسي أو مهامهم الإدارية والخدمية. في نتيجة التصويت، انتُخب رئيس الحكومة السابق بالأغلبية الكاسحة لأصوات الأعضاء غير المنسحبين، والجدير بالذكر أن أهم ما شهده عهد الحكومة السابقة هو مقتل 15 طفلاً سورياً في الشمال، جراء تلقيهم لقاحات فاسدة نتيجة مزجها بعقار آخر عن طريق الخطأ. الجدير بالذكر أيضاً أن رئيس الحكومة العتيدة لم يتحمل المسؤولية المعنوية، وإلا لم يكن ليترشح ثانية للرئاسة، وأن ناخبيه في الهيئة تغاضوا بدورهم عن تلك الفضيحة واعتبروا مقتل الأطفال شأناً يُستهان به أمام حساباتهم الانتخابية، وربما الأيديولوجية.
ما سبق قد يمنع الاستطراد حول شؤون المعارضة، فأي كلام لن يكون مفيداً إزاء حالة تعلن الغالبية الساحقة من السوريين أنها ميؤوس منها، وأن نقدها طوال مدة وجودها لم يؤتِ بنتيجة، بل إن كوادرها وأعضاءها يعيشون في عالمهم الخاص، منفصلين عن عموم السوريين الذين يدعون تمثيلهم، على رغم أن الائتلاف العتيد جرى تشكيله أصلاً وتوسيعه من دون الاعتماد على قواعد تمثيلية أو ديمقراطية ذات صدقية. المتابع السوري يسمع بالائتلاف من وسائل الإعلام التي تغطي مؤتمراته، وهي مؤتمرات كثيرة قياساً إلى الأداء الغائب خارج موسمها، عدا عن كونها مؤتمرات انتخابية، وكأن الانتخابات في حد ذاتها مبرر وجوده! إذ لم تُهرع هيئة الائتلاف للانعقاد العاجل بسبب أيّ من القضايا التي تمس حاجات السوريين الملحة في الداخل أو في مخيمات النزوح، ولم تتفضل الهيئة «مثلاً» بتعليق جدولها وخلافاتها الانتخابية لتدارس ما يتعرض له حي الوعر في أثناء انعقادها، على الأقل لمواجهة آثار التهجير المحتمل لمئات الآلاف من سكان الحي والنازحين إليه.
الإشارة إلى ظروف تشكيل المعارضة الحالية قد تكون ضرورية، فأطر المعارضة التي تشكلت بعد انطلاقة الثورة جميعها كانت على مسافة من الحراك الثوري الفعلي، ويمكن الجزم بأن كافة أطر المعارضة على الإطلاق لم تحظَ طوال ثلاث سنوات ونصف بالاحترام أو بالإصغاء إلى ما تقوله، إن كان لديها ما تقوله حقاً. بل إن كافة الأطر شهدت تراجعاً في مكانتها طوال الوقت، فما بدأ منها بزخم معقول سرعان ما فقده، وانضم إلى سابقيه من حيث الوجود الرمزي أو الشكلي. لم يحدث مثلاً أن قرر أحد تشكيلات المعارضة استراتيجية للمقاومة، سلمية كانت أو عسكرية، وعمل على تجسيدها على الأرض، وأغلب الظن أن أحداً من هذه التشكيلات لم يشأ المخاطرة باختبار وجوده الفعلي من خلال إطلاق هكذا استراتيجية، وهو يعلم أن قدرته على الحشد الشعبي أو العسكري شبه معدومة.
إننا بالأحرى أمام معارضة الأمر الواقع، على غرار العديد من قوى الأمر الواقع في سوريا. وهذه القوى انتعشت بعد انقطاع مديد عن السياسة، وأيضاً بعد يأس مستجد من المعارضة الحالية، التي ورثت عيوبها التاريخية نفسها. إذ لا يخفى على المتابع أن كوادر المعارضة الحالية تنتمي بمعظمها إلى المعارضة التي أثبتت فشلها خلال عقود من مواجهة النظام. وإذا كان بطش النظام سابقاً قد أوجد مبررات لفشلها فإن ثورة السوريين، والتضحيات الكبيرة التي قدموها لم تعد تمنح الأعذار السابقة، وبالتأكيد لن تعذر من يتاجر بها. الأخطاء الأولى للمعارضة كان يمكن تبريرها بسبب انقطاع السوريين المديد عن السياسية، لكن الخطايا اللاحقة يصعب تبريرها تحت أية ذريعة، وفي مقدمة الذرائع الافتقار إلى الدعم الخارجي، إذ من المعلوم أن بعض أطر المعارضة قام أصلاً على قاعدة أنه العنوان السياسي، الذي سيخاطب العالم باسم الثورة، وأي فشل في ذلك يُحسب على من قبلوا بهذه المهمة، بخاصة أنهم لم يتفضلوا يوماً بشرح أسباب تحالفاتهم الخارجية، والمنفعة المتوقعة منها لعموم السوريين، ولم يتفضلوا أيضاً بشرح تأثير تحالفاتهم الخارجية على توجهاتهم الوطنية، بدل أن تكون الأخيرة هي المعيار الحاسم في إنشاء الأولى.
على المستوى الخارجي، تقرر الإدارة الأميركية تدريب 5000 مقاتل «معتدل» والنظام معاً، ائتلاف المعارضة يتشكى من عدم كفاية رقم الخمسة آلاف للقيام بهذه المهمة، أيضاً يتشكى الائتلاف من عدم استهداف قوات الأسد بطائرات التحالف التي تقصف داعش، رغم أن الأسد هو مصدر الإرهاب. إلا أن ما ينقص الشكوى، وما ينتقص منها، هو استبعاد الائتلاف «الذي نال مكانة تمثيلية لدى الإدارة الأميركية» من أي تنسيق حول خطط التحالف في سوريا، الأمر لا يتعلق هنا بعدد المقاتلين ومهمتهم ولا يتعلق فقط بقصور خطة التحالف في سوريا، هو يتعلق أساساً بالإهانة الموجهة من قبل من يسمون أنفسهم «أصدقاء الشعب السوري» ويعدّون الائتلاف ممثلاً له، وعندما حانت لحظة العمل في سوريا استُبعد ذلك الممثل من المشاورات التمهيدية، واستُبعد عملياً من القيام بأي دور في المدى المنظور. لقد كان حرياً أيضاً، بدل المهاترات الانتخابية، أن يتدارس المجتمعون ذلك التهميش الذي تعرضوا له من قبل حلفائهم، وأن يتدارسوا أسبابه وسبل تمكين هيئتهم من الوجود الفاعل على الخارطة السياسية، بدل التقاتل على مناصب، لا شأن لأصحابها سوى تقرير سبل إنفاق المساعدات الخارجية أو التشكي من شحها وعدم كفايتها.
إن أية معارضة يقتصر دورها على القليل من الخدمات الإنسانية، في حال توفرها، وعلى بيانات يتناقص عدد قرائها مع الوقت، أو على ترديد مسلمات خاصة بها تجاوزها الواقع… أية معارضة من هذا القبيل لا ترقى لتكون معارضة سياسية، ولا يُلام الداخل أو الخارج إن تعاطى معها باستهانة. وإذا كانت هذه المعارضة ترى نفسها عاجزة، وهي بالفعل عجزت بكافة أطرها الحالية، عن تقديم الحد الأدنى المطلوب، فالأولى بأصحابها وكوادرها إعلان عجزهم وفشلهم وتقاعدهم عن العمل السياسي. مثل هذه الإعلان سيكون الدليل الأول على توافر النية ليكونوا حالة مختلفة عن النظام المتشبث بالسلطة. فإعلان الفشل والاستقالة سلوك ديموقراطي لا يقل شأناً عن الفوز بالانتخابات. أيضاً، إعلان الفشل والاستقالة قد يكونان وسيلة ضغط لبعض أطر المعارضة على داعميها الخارجيين، بخاصة أن حاجة الخارج إلى المعارضة بتنويعاتها تبدو أكبر من حاجة السوريين اليائسين منها أصلاً.
ليست عدمية سياسية ما يدفع الكثير من السوريين إلى إعلان اليأس المطلق، فالأمر مرتبط بالمعارضة الحالية التي لم تفشل وحسب، وإنما أصبحت عائقاً أمام تجربة جديدة؛ آثار الفشل لا تخص أنصار الثورة فقط، وإنما تمس غالبية السوريين لأنها لا تبشرهم بمستقبل واعد للتجربة السياسية والديموقراطية. سيكون مؤسفاً جداً القول إننا إزاء نظام يطلق النار على الحاضر، ومعارضة تجهز على المستقبل.
المستقبل