الوطنية: صكوك الغفران والقضاء
حازم نهار
كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا قديماً تمنح رعاياها، مقابل الاعتراف بخطاياهم وذنوبهم أمام القساوسة، صكوك الغفران التي كانت بمثابة جواز سفر معتمد إلى النعيم، وكان ذلك يجري مقابل مبلغ مالي للصك الواحد بحسب حجم الإثم أو الذنب المرتكب. فقد اغتصب البابا “ليو العاشر” ما كان مفروضاً من صفات الله وحده، بعد أن نصب نفسه معياراً للإيمان، ومنح نفسه صلاحية محو “الخطايا” مقابل بيع تلك الصكوك. كما كانت الكنيسة تصدر أحكاماً قاسية على من يخالفونها وتطردهم من رحمتها وتصفهم بالمهرطقين، وكان الغفران كما عرفه توماس أكونياس يقوم على ثلاث قواعد: الندم أو التوبة، الاعتراف، التكفير بالصلاة والصوم والزكاة.
عقلية صكوك الغفران، على ما يبدو، مستقرة في عقول وقلوب الكثيرين اليوم الذين منحوا أنفسهم سلطة البت والحكم على وطنية البشر، وتوزيع الاتهامات من كل نوع من دون مسؤولية ولا قرائن ولا قضاء. هذه العقلية ليست بعيدة من عقلية محكمة أمن الدولة التي أخذت على عاتقها تحديد الأفراد الموهنين لنفسية الأمة ومعاقبتهم لمخالفتهم معايير الوطنية المعتمدة من بابوات الاستبداد.
إذ على الرغم من الاختلافات الظاهرية، والشعارات المتعاكسة المرفوعة، والمرجعيات الفكرية والدينية والسياسية المتنوعة، إلا أن السائد هو تشابه الجميع في آليات التفكير وطرائق مقاربة الحوادث السياسية وتحديد المواقف إزاءها. بالطبع هذا التشابه لا يلغي أهمية وأولوية التفريق بين المتشابهين من حيث المسؤولية عن الكارثة السورية، وكذلك ضرورة التمييز بين القاتل والقتيل أو بين الجلاد والضحية.
لعل أهم عنصر يؤكد هذا التشابه اليوم هو تفشي عقلية صكوك الغفران التي تحتكر الصفة الوطنية لنفسها، وتمنح شهادات الوطنية للبعض وتحجبها عن البعض الآخر، بالاستناد إلى أوهام أيديولوجية أو إلى شعارات ضحلة محفوظة عن ظهر قلب، وفي الغالب إلى مصالح يتم تغطيتها بالأيديولوجيا تارة وبالقناعات السياسية الضحلة تارة أخرى.
وتكفي متابعة التصريحات في الإعلام والكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي لنجد أن أكثر خطاب منتشر هذه الأيام هو خطاب اتهامات العمالة والتشكيك بوطنية الجميع، إذ ليس هناك ما هو أسهل من نزع الصفة الوطنية عن أي شخص أو جماعة. والملاحظ أن أغلبية الذين يستسهلون قذف الآخرين بتهمة العمالة ينطلقون من مقولات وتوصيفات حدسية بسيطة، والبعض يعتمد على فهم مبتسر لأيديولوجيات تعلن براءتها منهم في كل لحظة، على الرغم من أن هذه الأيديولوجيات ذاتها تحتاج إلى وضعها في المتاحف بحكم ما أصابها من تخشب وعدم تجاوبها مع تغيرات العلم والواقع على حد سواء.
الآخر المختلف هو دائماً عميل وناقص الوطنية. وهذه الرؤية مرتبطة بالتصنيف الأيديولوجي أو التصنيف السياسي. لا أحد يتخيل الوطن والوطنية مفصولين عن الأيديولوجية، فكل أيديولوجية، قومية أو إسلامية أو شيوعية، ترسم صورة ما للوطنية، وتنظر بالتالي لمن لا يشتركون معها بأنهم ضد الوطن ولا يتوافرون على شيء من الوطنية.
من هنا، فإن كل الأيديولوجيات مارست التكفير والتخوين. فقد رأينا في السابق كيف وصف “الماركسيون” العقائديون المخالفين لهم، أمثال كاوتسكي، بالتحريفيين والمرتدين أو بتعبيرات مثل “يهوذا الاشتراكية”، وهي أوصاف تهيء بالضرورة لإعدام المخالف جسدياً أو سياسياً. كذلك، اضطرت قوى سياسية عديدة للانصياع لرغبة الباب العالي في موسكو وصادرت التفكير الحر المبدع داخلها، واستخدمت صكوك الغفران والحجر والحرمان في مواجهة كل الخصوم، بمن فيهم أولئك المجتهدين المبادرين فيها. وها هم بقايا هذا اليسار المشوه ما يزالون ينهلون العلم من موسكو ويتصرفون كرجال الدين الأرثوذكس، فتراهم لا يفكرون في ما يسمعون إلا إذا ابتدأ المرء حديثه بالبسملة الشيوعية “شتم الإمبريالية والغرب” وإلا فهو عميل للغرب وتوابعه.
وما يزال معظم القوميين العرب يقتاتون من خطاب قومي عربي يفتقد لجذره الديمقراطي والإنساني في ظل واقع عربي بائس أصلاً، ويقيم هويته على أساس الرابطة السلبية إزاء الآخر المختلف، مصنفاً البشر إلى “قوميين” و”انفصاليين” ليسوا إلا عملاء للصهيونية يتسببون بإضعاف الشعور القومي. وهذا يجري بالتزامن مع “المقاومات” المذهبية المنتشرة التي تقدس نفسها ويقدسها البعض، وتوزع صكوك الغفران على الجميع، وتضع كل نقد لها في خدمة الإمبريالية والصهيونية، على الرغم من كون ارتباطاتها وبرامجها ورؤاها طاردة أو نافية لأي مشروع سياسي ديمقراطي، وطني أو قومي، هذا إن لم تكن مصدراً أساسياً للفوضى والحروب الأهلية وجر مجتمعاتنا ودولنا إلى مزيد من التفسخ والتعفن.
وهناك قطاع واسع من الإسلاميين المستغرقين بأيديولوجية بن لادن والظواهري، المغرمين بتقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وهذا التقسيم ليس بعيداً من تقسيم البشر بين وطنيين وعملاء. كذلك هناك قطاع من “الثوريين” الأنجاب الذين اختزلوا البشر في صنفين هما “الثوار” و”الشبيحة” ونصبوا أنفسهم قضاة يحاكمون البشر على أفعالهم. أما كهنة وقساوسة الثورة الذين ما فتئوا يتحدثون باسم الشعب السوري من غير تفويض من أحد، فإنهم في خطابهم وممارساتهم إنما ينهلون العلم من كيس النظام السوري ذاته.
في عهد الرسول العربي، أدرك أسامة بن زيد في إحدى المعارك رجلاً، فعندما همّ بأن يقتله نطق الرجل بـ “لا إله إلا الله”، لكن أسامة قتله، وترك ذلك أثراً في نفسه فأخبر الرسول بما جرى، فقال له “أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!”، فقال أسامة: “قتلته يا رسول الله ، إنما قالها خوفاً من السلاح”، فقال له: “أشققت عن قلبه!؟”. المغزى بسيط: عدم استسهال الاتهام في القضايا الكبرى. الكل يستسهل الاتهام بالعمالة، على الرغم من أن الصفة الوطنية بالذات يفترض أن تكون قدس الأقداس التي لا ينبغي نفيها عن أي شخص من دون معايير محددة، لأن ذلك يعني ببساطة إلغاءه من دائرة الوطن والدولة.
الصفة الوطنية صفة لصيقة بالمواطنة ذاتها باعتبارها انتماء للدولة والوطن وجملة من الحقوق التي تتأسس بالضرورة على حقوق الإنسان الأساسية. بمعنى أنه عند نفيها عن شخص ما فكأننا نقول له أنت لست عضواً في الوطن والدولة، وهي العضوية التي تولد مع الفرد ولا أحد منطقياً يستطيع إنكارها أو نفيها. بالمقابل، فإن افتقاد حقوق الإنسان يعني بديهياً عدم الاعتراف بحقوق المواطن، وتالياً بصفة المواطنة، أي عدم الاعتراف بعضوية الفرد في الوطن والدولة، الأمر الذي يجعل بالتالي من اتهامات العمالة أمراً فارغاً ولا معنى له.
من حيث المبدأ، لا يمكن نزع صفة الوطنية عن أحد أو احتكارها من قبل طرف، وليس هناك من هو أقل أو أكثر وطنية من الآخرين. مرجع الوطنية هو الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وطالما لا وجود لهذه الدولة فإنه لا يمكن القول بإمكانية وضع محددات أو توصيفات قانونية للوطنية والعمالة. في الدولة الوطنية الديمقراطية ليس من حق أحد تصدير التهم بالعمالة جزافاً، فهذا الأمر من اختصاص القضاء المستقل والنزيه فحسب، أي القضاء الذي لا يأخذ إلا بالقرائن والأدلة، ولا يعتد إلا بالاعتبارات القانونية وأصول المحاكمات العادلة، ومن دونه تصبح كل التهم بالعمالة فارغة ولا قيمة لها.
المدن