امرأتان من سورية/ دلال البزري
امرأتان من سورية. رزان زيتونة ورقيّة حسن المعروفة بنيسان إبراهيم. أشياء كثيرة تفرّقهما. رزان دمشقية نشأت في بيئة متحرّرة من الطبقة الوسطى. رقيّة كردية شبّت في إحدى ضواحي الرّقة الشعبية المحافظة. الأولى سافرة والثانية محجبة، وبعد ذلك منقَّبة. الأولى درست المحاماة، والثانية درست الفلسفة وأصبحت أستاذة تعليم ثانوي. الأولى توثّق باحتراف كل تجاوزات النظام وجرائمه، على الورق، ترسله إلى المحافل، تكتب المقالات بتوقيعها الواضح، رزان زيتونة؛ والثانية ترصد كل ما يحصل حولها في الرّقة، ولا تتجاوز جغرافيته، تنشره على “فيسبوك” باسمها المستعار، ما يمنحها حرية كبيرة في وصف ما تعيشه، هي وأقرانها، فيما الأولى تكتب “على ورقة أضيق من خرم الابرة” (بحسب عبارتها). فالأولى تتحرّك تجول تظهر وتختبئ، من شقةٍ إلى أخرى، من العاصمة إلى ريفها في دوما؛ فيما الثانية متسمِّرة في بيتها في الرّقة، تتجول في أحيائها متخفية وراء النقاب. ظروفها، نشأتها، سياق حياتها، لا يسمحون لها بالانتقال إلى أبعد من ذلك. بلى، هناك إمكانية للهروب إلى المناطق الكردية، لكنها تأبى، تتشبثّ بالبقاء في الرقة.
ومجال الأولى هو كل سورية، خصوصاً دمشق؛ تتنقل بين أهالي السجناء والمحاكم والتظاهرات الخطرة. تجبر خواطر القلوب المنكسرة وتشعل في روحهم الأمل. فيما مجال الثانية أضيق، ما تعيشه مباشرةً وما يعيشه أهلها وأهل المدينة؛ لكل غيرية سياقها وأدواتها. فالتجربة السياسية للأولى طويلة، عمرها عشر سنوات، أسست في أوائلها المنظمة السورية لحقوق الإنسان. فيما لا تملك الثانية أية تجربة، غير قراءة الكتب الفلسفية وتعليم المراهقين. لذلك، الأولى محاطة بالأصدقاء الناشطين، من أجيال مختلفة، والثانية وحيدة؛ في الأيام القليلة المعفاة من بطش النظام، تذهب إلى المدرسة، حيث تتسلّط عليها المديرة البعثية. ثم مع قدوم “داعش”، يفرض عليها الحكام الداعشيون مناهجهم “الشرعية” (لكنهم يتركون المشروع برمته بعد أن يشتدّ عليهم القصف).
الأولى، رزان، لم يحمها اسمها وإنجازاتها، ولا الثانية كذلك، لم ينفع تخفّيها وراء اسم مستعار ونقاب ثقيل فرضه “داعش” على نساء الرّقة، عندما تسلم السلطة بعد ضربه المجموعات
“في حكاية الشابتين، رزان زيتونة ورقيّة حسن، قدرٌ لا بأس به من تنوّع سورية، ومن تاريخها الآن”
الإسلامية المنافسة. والإثنتان اختفتا عن النظر. الثانية اعتقلها “داعش”، وقتلها صراحة، بعدما كثر وصفها لجرائمه وتجاوزاته. قال رجاله لأهلها، بعد أسبوع من خطفها، إن تنظيمهم أعدمها بتهمة “التجسّس لحساب العدو”. والثانية اختطفها، مع رفاقها الثلاثة، “جيش الإسلام”، لكنه لم يعترف. فأصبحت بذلك لا ميتةً ولا حيةً؛ مفقودة، سوف ينتظرها أهلها ومحبوها طوال العمر، مثل رفاقها الثلاثة: سميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي. رزان زيتونة، تلك المرأة التي حرصت على أقصى درجات الدقة في توثيقها مآل السجناء السياسيين وتعذيبهم، تغيب، تختفي، خلف جبل من الغموض.
تلك هي الفروق بين شخصيتين نسائيتين سوريتين. أما الذي يجمعهما، فيكاد لا ينتهي: فكلتاهما في الثلاثينات من العمر، وذات شجاعة نادرة، جسدية ومعنوية. الإثنتان كانتا تكشفان جرائم النظام، ثم انتقلتا إلى الكشف عن جرائم أعدائه المفتَرضين. هما من الجيل الذي يسهر خلف شاشة اللاب توب. هو أداتهن أو سلاحهن. عبر شبكاته يناضلن، يتواصلن، يتفاعلن، يطلقن الكلام الثمين الذي لا يبوح به غيرهن. هن من الجيل الذي لم تسيطر على مساره أحزابٌ عقائدية، لا عرفنه، ولا انشققن عنه. كلتاهما من النجوم، أنتي نجوم، في آن. رزان تختبئ دائماً، تتجنّب التصدّر؛ من الإعلام، من الصورة، تعتقد عن حق أن النجومية تضرّ بسعيها القانوني لحقوق السجناء. ورقيّة لا تتجاوب مع إلحاح مريديها على “فيسبوك” لتكشف عن وجهها فتصبح مشهورة. والاثنتان خفق قلبهما بقوة في اللحظات الأولى للثورة السورية، عهدها الذهبي القصير (دائماً خاطفة، تلك العهود)، والفرحة التي جعلت قلبيهما يطيران على انطلاقة السوريين بلسانهم وغنائهم ورقصهم وتظاهراتهم المنتشية، غير مصدِّقين أن هذا هو صوتهم، المرتفع في الفضاء الرحب.. قبل أن ينقضّ عليهم النظام بأسلحته الثقيلة، ويفسح الطريق لاستبداله بحركاتٍ سلفية، ثم “جهادية”.
كان مسار المرأتين يتوازى مع أحداث بلادهما. كانتا في البداية ترفعان صوتيهما ضد جرائم النظام، ثم بقيتا على الصوت نفسه، عندما تحرّرت مناطقهما، ووقعت في أسر مجموعاتٍ دينيةٍ متطرفة: “جيش الاسلام” في حالة رزان، بعدما خاض معركةً مع مجموعات سلفية أخرى، إثر تحريرها. و”داعش” في حالة رقية، بعد معارك مماثلة؛ فالحليفَان الموضوعيان، وربما غير الموضوعيين، أي النظام و”الجهاديين”، من بين النقاط التي التقوا عليها أنهم لا يطيقون نساءً من هذا العيار. نساءً يعشقن سورية، ومعها الحرية، نساء يقصدن تماماً ما يكتبنَ، يصدِّقنه؛ بنوع من الكرم الحاتمي يشعلن الكلمات، بعقلهن، بروحهن؛ فتكون الكلمات وهجاً حاراً. لا شيء يخيفهن، لا يوقفهن حرمان أو احتمال موت؛ شجاعة العارفات أن موتهن سوف يحيي كلماتهن. شهيدات الكلمة الحرة حقاً.
رزان ترفض عروضا كثيرة بالخروج من دوما، من سورية كلها. من دوما خصوصاً التي
“كان مسار المرأتين
يتوازى
مع أحداث بلادهما”
اعتقدت أنها تحميها من ملاحقة النظام لها، بعدما تلقت رسالة تهديدٍ واضحةٍ بسبب كشفها جرائم “جيش الإسلام” وتجاوزاته. ورقية كذلك، وقد أصبحت تعاني من “كرديتها”، والتعصب “العروبي” لمن حولها. الإثنتان تستخدمان الكلمات ذاتها تقريباً: “إذا كان لا بد من الموت، فلنمت واقفين، مثل الشجرة”. هي كلمات لرقية. ورزان أيضاً صرخت بما يشبهها، بوجه من كان يعرض عليها مساعدته على الهروب “كلا لن أترك بلدي.. أبداً أبداً”. لن يرحلن، لن يخرجن.. تكثر الغيوم السوداء، وكل واحدة تأخذ على عاتقها إعادة توليد أمل جديد، ولو ضئيلا، ولو منتزعا من الركام. أملٌ يتسلل من فراغات الأسطر وهوامش الكلمات؛ يتصدّى للشك والأنانية واللامبالاة. وفي النهاية، قاومتا واستشهدتا. ولا فرق جوهريا هنا بين الشهيدة الحقّة والشهيدة الحيّة.
في حكاية الشابتين، رزان زيتونة ورقيّة حسن، قدرٌ لا بأس به من تنوّع سورية، ومن تاريخها الآن، أي منذ انفجار أملها، وحشية الأسد، وحشية بدلائه من الإسلاميين، ممارسات الإثنتين، بالتواريخ والأمكنة. ثم النهاية. وكل النهايات هي خاتمة معاني الحياة.
مناسبة كل هذا الكلام؟ كتابان بالفرنسية صدرا مؤخراً: الأول عن رزان زيتونة، عنوانه “عن التوهج. حكاية رزان زيتونة محامية سورية”. للكاتبة الفرنسية جوستين أوجيي. والثاني عنوانه “وحيدة في الرقة” للصحافية السورية – الفرنسية هالة قضماني. أنقل العنوانَين بالفرنسية لمن يهتم:
JustineAugier. ”De l’ardeur. Histoire de Razan Zaitouneh. Avocate Syrienne”. Actes Sud. 2017
Hala Kodmani. “Seule dans Raqqa”. Equateur. 2017
العربي الجديد