بين أوروبا وأميركا… حضارة وثقافة ماديتان/ ريجيس دوبريه
يُرصد تغير حضارة من الحضارات من طريق ملاحظة تغير أحوالها السائرة والبالغة العادية: فالديكور (الأثاث) ليس تفصيلاً ثانوياً. وفي نهاية الثمانينات، استبدلت المؤتمرات الإعلامية الرئاسية في فرنسا الكرسي الذي يجلس عليها الرئيس بمكتب من زجاج (بليكسيغلاس) على خطى البيت الأبيض. وهذا منعطف. فإلى حينها، كانت السلطة في فرنسا جالسة وثابتة غير متحركة (الكرسي علامة الحسم– التحكيم). واليوم، صارت متحركة: الاقتراب من المنصة بخطوات مرنة وخفيفة. فالوقوف هو صنو الدينامية، والجلوس استبدادي وأبوي يبالغ في الاعتداد بالنفس. وكأن الرئيس حين قام عن كرسيه ليدردش مع الصحافة، ارتمى في حضن روما الجديدة وصدع برسوم العهد الأميركي. ومع الرئيس جيسكار ديستان في 1974 كان المنعطف. فهو كان مديراً مالياً إنكليزي اللسان، وشاباً ناجحاً في مواجهة مع الجميع. ولكنه جاء قبل أوانه، أي قبل غلبة «ديزني لاند» وصور «السلفي» والهواتف الخليوية المحمولة. وسعى فرانسوا ميتران إلى إبطاء سيرورة «الأمركة» (غلبة الحضارة الأميركية) وكانت صورته على ملصق حملته الانتخابية الرئاسية في 1981 تظهره واقفاً وخلفه جرس كنيسة علامة على التقاليد المحلية. والسيرورة هذه مرت في مراحل كمون في فرنسا ثم بلغت مراحل ظهرت فيها وفشت، واليوم بلغت ذروتها. وفي كتابي «حضارة. كيف أصبحنا أميركيين»، سمة وقوف إيمانويل ماكرون حين سماع النشيد الوطني (ثني الذراع اليمنى ووضعها على القلب مثل المواطنين الأميركيين عوض إرخاء الذراعين والساعدين على الجانبين) هي حركة تلقائية لا إرادية. فالواحد منا هو ابن زمنه ومحيطه. وهذا ثمن يفاعته: فهو من جيل لم يعرف غير الهيمنة البصرية الأميركية التي صارت مثل طبيعة ثانية. والتفتيش المالي أو المصرفي هو عالم ذهني تغلب عليه الولايات المتحدة- وهي الموئل– الأم في عصرنا هذا- التي توجه دفة العولمة. وهذا عالم أميركا، عالم العقود، والدوائر الرقمية وحقوق الأقليات ووسائل الإعلام والشركات والتسويق، وغلبة الصورة. وفي حضارة أميركا ما بعد الحداثة الاقتصاد هو الفيصل ويتبوأ موقع السلطة. والحضارة عابرة للحدود وعمرها قرون. وهي مرآة شخصية جماعية تبسط نورها وتتمدد. وانتشارها وثيق الصلة بطابعها الإمبريالي. فالجاز بلغ فرنسا في 1917 مع الجيش الأميركي. والثقافة هي مرآة شخصية محلية تصمد وتقاوم ولكنها محلية وتراوح مكانها. وعلى ما كانت الحال في العهد الروماني حين برزت ثقافة غالّية- رومانية وأفريقية– رومانية، وإسبانية– رومانية، ثمة ثقافة غالّية- أميركية (فرنسية– أميركية): فالفرنسيون لن يخسروا أنواع جبنة الروكفور (ديغول أعلن ذات يوم من الصعب حكم بلد فيه 2000 نوع جبنة) وجوائز غونكور في العصر الأميركي.
والهوية كلمة محبطة، فهي دفاعية الطابع. بينما عينُ الحضارة على الجامع العام وهي شاملة وتجمع قوة استقبال وتلقي إلى قوة إرسال وبث أو اتصال. والموقف الفرنسي الخائف من الهجرة غير سار. فالحضارة حين تكون في أمثل أحوالها لا تخشى استقبال الأجانب، بل ترحب بهم وتطبعهم بطابعها. والثقافة هي ترس وحاجز. ولم تعد أوروبا حضارة تصدر معاييرها. والانتماء إلى حضارة تذوي يبعث على الضيق والقلق. ولكن المفاجئ هو قلة عدد القلقين. وهذا دليل على عملية مثاقفة أو تلاقح ثقافات ناجحة. والحداثة أبصرت النور في الدول البروتستانتية ونعيش اليوم انتصار الدول هذه، ومنها ألمانيا. فالولايات المتحدة كانت بروتستانتية وابتكرت الصيغة الإنجيلية، النيو- بروتستانتية. وهذه كانت في وقت أول معتقد مسافرين ونازحين، على نحو ما لاحظ أوليفيه أبيل (مفكر فرنسي بروتستانتي). وجنيف كانت منطلقاً منها يغادر المرء، ويمضي قدماً… حاملاً القدير في قلبه، ولا حاجة به إلى دور عبادة ولا إلى رهبان وأحزاب وأسرار. وأميركا هي المدى الفسيح والأحجام الضخمة والحركة والحرية من غير معوقات. وهذه الحركة من غير قيد بلغت القمر وقد تبلغ قريباً المريخ. ودور التاريخ والذاكرة في أميركا لا يشبه نظيره في فرنسا. وولد الشعور القومي في أوروبا مع اختراع الطباعة بينما برزت الولايات المتحدة مع شيوع الصورة الصناعية- المصورة- والسينما. وصارت أكبر منتج للصور. والصور تطبع بسرعة تفوق سرعة الكتابة، ولا يحتاج متصفحها (المشاهد) إلى مترجم.
والامبراطورية تعيش قروناً. وأميركا تملك 700 قاعدة عسكرية و10 حاملات طائرات في وقت يملك فيه كل من الصين وروسيا حاملة طائرات يتيمة. وهي بلد مهيمن على القطاعات العلمية والنقدية والتجارية والتكنولوجية والسينمائية والموسيقية. وعلى رغم المنافسة الصينية (الاقتصادية)، إلا أن بكين خاوية الوفاض من مشروع تقترحه على العالم، فهي لا تبالي بنفوسنا (أفكارنا وثقافتنا) ولا تريد أداء رسالة أخروية أو مصيرية مختلفة. وجل ما تريده هو حيازة شركاتنا ونبيذنا ولا تريد الفوز بعقولنا ولا قلوبنا. والحضارة الصينية موجودة ولكن لغتها هي عائق يسوِّرها. ولا تشعر الصين أنها مصطفاة للسهر على هناء الإنسانية. وأنا أدرس التفاعل بين التقنية والثقافة وأثر الأدوات في مَن يبتكرها ويستخدمها. والأدوات المادية والعقلية المعاصرة ولدت في أميركا، وهي حاملة لطريقة عيش وتخيل وشعور. وتحمل كل وسيلة نقل رؤية إلى العالم. فعلى سبيل المثل، القطار (شبكة الحديد المكهربة) جماعي واشتراكي- ديموقراطي، وهو يفترض أن ثمة دولة مركزية تنظم مواعيد حركته. والطائرة معولمة. والسيارة فردية وليبرالية، ففي مقدور الواحد الذهاب أينما يشاء ساعة يريد. وحين «يشعل» المرء جهاز الكومبيوتر، عليه الكلام باللهجة العالمية وإلا لم يبرز ولم يُلحظ.
وربما أبالغ في التعلق بهذا البلد الغريب حيث في الإمكان إلقاء قصيدة في اجتماع وحيث الرأسمالية ليست أقصى مراحل التاريخ الإنساني، وحيث للكاتب دور لا نظير له في الخارج. ولكن هذه الفرادة الفرنسية تتبدد. وليس في الإمكان الحؤول دون مواصلتي الكتابة بالفرنسية إلى أن يحل يوم لا يعود ما أكتبه مفهوماً. ولكن ما نخسره من جهة، نربحه من جهة أخرى. فبعض الملكات تتقلص وتنكمش، وبعض آخر يتطور. والقدرة على قراءة الصورة تطورت تطوراً هائلاً، وننتقل من عالم الكتابة إلى عالم الفيديو. وأنا أميل إلى الأول أكثر من الثاني، لذا، قد أنزلق، إلى حد ما، إلى بطالة تقنية. والمثقفون مضطرون إلى مواكبة التغيرات. ولم يعد النفوذ يبسط من طريق المكتوب بل من طريق السمعي– البصري والرقمي. وصار رواج الكتب رهن الظهور في برنامج لوران روكييه التلفزيوني. ولكنني أبكر في النوم، ولا أتابع البرنامج هذا. وأتفهم دواعي غيري للظهور في مثل هذه البرامج. فمنهم من هو أكثر ليونة مني أو أكثر شجاعة أو تواضعاً. ولكن الظهور في برنامج روكييه مهين حين يملك المرء شيئاً من الكبرياء. وغيري يصدع بما تقتضيه المهنة. فالمثقف، على خلاف الباحث العلمي الذي يَنظم نظرية أو يثبت وقائع، هو من يصنع الرأي، ويرغب في التأثير في مسار الأمور واستمالة الناس.
* مثقف فرنسي، عن «لوبس» الفرنسية، 18/5/2017، إعداد منال نحاس.
الحياة