تجـارب مـن الاعتقـال السياسـي فـي سوريـا: نشتـمّ المـوت.. لا نـراه!
محمد دحنون
لأسباب كثيرة، كان شعار «ما في خوف بعد اليوم» هو الأقرب إلى نفوس السوريين منذ مطلع الانتفاضة. ردّدوه بشغف، بغبطة، وبكثير من الفخر: استرّدوا إنسانيتهم!
عجزت آلة النظام الأمنيّة عن قمع تطلعاتهم، كما لم تنل من عزمهم رسائله (المسرّبة عمداً؟!) عن التعذيب والإهانة وتأليه القادة. وليس الاعتقال السياسي في سوريا سوى عنوان آخر للنظام الذي يضيق بأيّة «لا»: لا يهمّه قائلها، لا يهمّه ما تعنيه، ويعجز، لأسباب كثيرة، عن قراءة دلالاتها!
اليوم، ومنذ مطلع الانتفاضة أواسط شهر آذار، صار الاعتقال السياسي من مفردات الحياة اليوميّة في سوريا المنتفضة: الآلاف من المعتقلين (حسب مركز توثيق الانتهاكات هناك 10110 معتقلين حتى مساء التاسع عشر من أيلول) غالبيتهم الساحقة من الشباب، إضافة إلى كهول ونساء (116) وأطفال (142 بين أطفال ذكور وإناث).
تجارب الاعتقال متباينة في الشكل، متطابقة في المضمون: اعتقال بسبب التظاهر أو سواه من نشاطات الانتفاضة، تليه صنوف من «سياسة» أمنيّة تحترفها أجهزة ليس من المبالغ وصفها بأجهزة الموت. سياسة «قضيتها» الوحيدة بثّ الرسالة التاليّة: إلى الأبد، ستعيشون تحت حذائنا. وهذا، تحديداً، ما يُواجه برفض كبير من سوريا المنتفضة، بأشكال مختلفة، ربما يمكن اختزالها، تعسفيّاً، بلهجة أهل البلد على النحو التالي: «لأ.. ما حزرت»!
تظاهرة.. هتاف.. فاعتقال!
سامي. ك وعمار. ع، شابان سوريان في العقد الثالث من العمر، لا يبدو عليهما أيّ شيء يوحي بأنّهما سلفيّان أو «يقبضان» نقودا من أحد كي يتظاهرا: رائحة الكحول التي تعبق في غرفتهما تنفي عنهما التهمة الأولى، في حين تتكفل الغرفة المتقشفة نفسها في نفي التهمة الثانية. لكن، وللدعابة، «يعترف» الاثنان بأنّهما مندسان «للعظم». الاندساس السوري الذي بات اليوم شهيراً، يعني في الحد الأدنى شيئين: اندسّ بشؤون وطني لأنّي أحبّه، ولأنّي أحبه أتظاهر مطالباً بالحريّة وبإسقاط النظام.
سبق عمار صديقه سامي إلى المعتقل. حدث ذلك إثر مشاركته في تظاهرة انطلقت من ساحة عرنوس، وسط دمشق. يقول: «كنا مجموعة مختلطة، ذكوراً وإناثاً، وكان بيننا طلاب وصحفيون وفنانون»، ويضيف «كانت التظاهرة لإعلان التضامن مع درعا المحاصرة، بعد تعرضها، في مطلع شهر آب، لهجوم عسكري من قبل الجيش.. السوري!».
اعتقل سامي للسبب نفسه، ولكن هذه المرّة، لم تكن التظاهرة التي شارك فيها للتضامن مع مدينة أخرى. هي تظاهرة «عاديّة» تحدث يومياً، ربما تضامناً مع سوريا المهدّدة بنظامها. «قبل شهر، جرت تظاهرة ليليّة في حي السويقة بدمشق، حيث قامت قوات الأمن والشبيحة بدورها: فرّقت التظاهرة في إحدى حارات حي الشاغور واعتقلت 25 شاباً على الأقل ونحو 8 نساء». خرج سامي بعد حوالى ثمانية أيام، انتقل خلالها من قسم للشرطة إلى أحد فروع الأمن الجنائي. من جهته، كان لعمار «نصيب» أكبر من الاعتقال، فقد تنقل بين ثلاثة فروع أمنيّة، وُجّهت له فيها تهم تبدأ بالسلفيّة و«العرعرة» وصولاً إلى التعامل مع «إسرائيل».
درب الآلام!
يصف عمار، متهكماً، «الرحلة» التي تنقل المعتقلين من فرع لآخر بـ«درب الآلام». لعمار الذي اعتقل بعد شهر ونصف تقريباً من بداية الانتفاضة أن يروي تفاصيل أخرى لا تتشابه كثيراً مع تجربة سامي. ربما يعود السبب إلى كون الأجهزة الأمنية كانت لا تزال تحتفظ بالكثير من «لياقتها»، قبل أن ينالها التعب بعد ستة أشهر من الانتفاضة.
يقول عمار ضاحكاً: «يبدأ درب آلامنا منذ لحظة اعتقالنا، بالنسبة لي. هاجمنا الأمن بزيه المدني واعتقلني مع عدد من أصدقائي. احتجزونا في محل تجاري ريثما وصلت حافلة لتقلّنا، يمكنك أن تعتبرها فرع أمن مستحدثا في سوريا، إذ يبدأ فيه الضرب المجنون والإهانات المتنوعة. ضربونا بالهراوات وعصي الكهرباء، وبالأيدي والأرجل، وكانوا يرددون بطريقة هستيرية: «قل الله سوريا بشار وبس».
التعذيب والإهانة اللذان تلقاهما عمار في كل فرع أمني أُخذ إليه، لم يتعرض لهما سامي إلاّ خلال ليلة اعتقاله الأولى. حدث ذلك في قسم الشرطة وليس في مركز أمني. يقول: «تعرضنا لتعذيب شديد ولإهانات بالجملة منذ لحظة دخولنا القسم وحتى صباح اليوم التالي، وأجبر عدد كبير من المعتقلين على التوقيع على إفادات واعترافات كاذبة تحت التعذيب، ثم تمّ نقلنا إلى أحد فروع الأمن الجنائي».
لم «يحظ» سامي بما يسمى «حفلة الاستقبال» التي «حظي» بها عمار. يصفها الأخير بصوت هادئ: «أنت معصوب العينين، وتتجه إلى داخل الفرع ضمن رواق، تتكفل الرفسات والصفعات والعصي والكرابيج التي تنهال عليك من قبل صفيّن من رجال الأمن والشبيحة بتوجيهك داخله، وصولاً إلى لحظة التفتيش، أي اللحظة التي تجبر فيها على خلع جميع ملابسك، بما فيها الداخلية، لتقوم بـ«حركتي أمان».
لا ينتظر عمار سؤالاً عن ماهية هاتين الحركتين، فيضيف قائلاً بحياد باد: «أعتقد أن هذا يحصل في معظم السجون، حيث تقرفص، وأنت عار تماماً، ثم تنتصب وتعيد الكرّة مرّة أخرى كي يتأكّد السجان من عدم حيازتك لأي شيء، مثل شفرة أو ما شابه».
نشتمّ الموت… لا نراه!
بعد نقله إلى أحد فروع الأمن الجنائي، حُشر سامي مع معتقلين سواه، في زنزانة يصفها بأنّها «ضيقة، سيئة التهوئة والإنارة، لا يتوفر فيها الحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية. لم نكن نستطيع التمدد أو الحركة داخلها بسبب ضيق المساحة وكثرة أعداد الموقوفين. «كان عدد الموقوفين في زنزانتي 18 شخصا ومساحة الزنزانة لا تتجاوز ثلاثة أمتار طولا ومترين ونصف متر عرضا. المفاجأة كانت أننا تعرفنا على عدد كبير من الموقوفين عاشوا في هذا الظرف لمدة تزيد عن شهر».
كانت «لياقة» رجال الأمن في المرحلة الأولى من الانتفاضة، تسمح لهم، وفق ما يقول عمار، بأن «يتفنّنوا في إنهاكنا نفسيّاً. كنت أشعر بأن الموت قريب جدا، لم يوفر رجال الأمن طريقة إلاّ وحاولوا من خلالها أن يزرعوا في مخيلتنا هذا الاحتمال، بدءاً بتلقيم الكلاشينكوف بجانب آذاننا وهم يقولون «الآن سوف نقتلكم»، مروراً بقيامهم بحفلات تعذيب جماعيّة شبيهة بما ظهر في مقطع فيديو قرية «البيضا» الشهير».
لم يكن سهلاً على عمار أن يكثّف انطباعه عن التجربة التي عاشها في فروع الأمن التي تنقّل بينها، لكنّ لحديثه عن جلادي تلك الفروع أن يقول شيئاً عن ذلك: «أتمنى، حقّاً، أن يكون الجلادون مصدّقين للرواية الرسميّة، فإن لم يكونوا كذلك، كانوا وحوشاً حقيقيّة، فرغبتهم في التعذيب لا تتعلق بمنفعة وظيفية بل تتعدى ذلك إلى الجنون!».
حين يتحدّث سامي وعمار عن فترة اعتقالهما الوجيزة، لا تغادر، من يسمعهما، صورة أولئك الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين قضوا في السجون السوريّة، عشرات السنين، وخرجوا أحياء: روحيّاً وجسديّاً؛ أي أرواحا عظيمة!