صفحات العالم

تركيا بدأت “ثورتها الهادئة”

سعد محيو

كيف يبدو المشهد الشرق أوسطي العربي والدولي من النافذة التركية؟

إنه على عكس كل ماهو سائد في هذه المنطقة المضطربة: بدلاً من التشاؤم الشامل، هناك التفاؤل الكامل. وبدلاً من الإحباط واهتزاز التوازن النفسي، هناك ارتفاع هائل في المعنويات وثقة مكينة بالنفس وبالقدرة على التأثير والتغيير. ثم، بدلاً من العيش في إسار الماضي، هناك رغبة شغوف وتوجّه طموح إلى إعادة بناء هذا الماضي على أسس هوية جديدة وحديثة يرفض “الأتراك الجدد” تسميتها بـ”العثمانية الجديدة”، لكنها كذلك.

تركيا ببساطة تعيش هذه الأيام مايطلق عليه العديد من كبار المسؤولين والباحثين والأكاديميين الذين التقيناهم في أنقرة “الثورة الهادئة”. ثورة على ماذا؟ على 100 عام من الانفكاء عن العالم العربي والإسلامي، ومن العيش في ظل دول كبرى تحت شعار كمال أتاتورك الشهير في ثماثينيات القرن العشرين:” سلام في الداخل، سلام في الخارج”.

أجل. تركيا حزب العدالة التنمية، الذي وضع تركيا في المرتبة 14 من بين أكبر اقتصادات العالم ورفع الدخل السنوي الفردي خلال سنوات خمس من 2500 دولار إلى نحو 12 ألف دولار، تريد أيضاً السلامين الداخلي والخارجي وتضعهما على رأس أولياتها، لكن ليس بأين ثمن. أنها تريدهما هذه المرة كي يكونا جسراً إلى موقع الدولة الكبرى مجددا. وهذا، إضافة إلى يقظة الجانب الحضاري- الثقافي الإسلامي في الهوية القومية التركية، جعلها تندفع بقوة الصاروخ نحو التركيز على الشرق الأوسط وبقية العالم الإسلامي لقناعتها بأنهما سيحوّلان تركيا من شحاذ يطرق أبواب الاتحاد الأوروبي من دون جدوى، إلى قوة دولية كبرى لاغنى عنها لأوروبا والتوازنات العالمية.

آثار أقدام هذه الاندفاعة مبعثرة في مكان في أنقرة واسطنبول:

– في الهوية التركية الجديدة التي تستولد الآن تحت شعار “الديمقراطية والمحافظة”، حيث تعبير المحافظة يعني ضمناً الإرث والقيم الحضارية الإسلامية، فيما الديمقراطية توفّر صيغة جديدة للخروج من إسار القومية الطورانية المتطرفة، إلى رحاب هوية تركية عثمانية جديدة تستوعب كل مكونات الأمة: من الأكراد إلى العرب، ومن المسلمين إلى المسيحيين، ومن السنّة إلى الشيعة والعلويين.

– في مراكز الأبحاث التي نبتت كالفطر خلال السنوات الـ11 الأخيرة من حكم العدالة والتنمية (20 مركزاً جديداً تتضمن كلها نشاطات فكرية واستراتيجية وسياسية واقتصادية في العالم العربي).

– في الثورة الحقيقية في وكالة أبناء الأناضول التي يخطط لها الآن لتنافس رويترز وفرانس برس وأسوشيتيدبرس في المنطقة العربية والعالم، هذا علاوة على العمل الكثيف في الإعلام المرئي ووسائط التواصل الاجتماعي باللغة العربية.

– في المسلسلات التلفزيونية التركية التي هيمنت على المناخات الشعبية في معظم أرجاء المنطقة العربية، وأعادت بعث الشخصية التركية التاريخية (الإيجابية) في الذاكرة الجماعية العربية.

– وفوق هذا وذاك، في قناعة القيادة التركية بأن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط في حالة انحسار، أو على الأقل تقنين، بعد حربي العراق وأفغانستان، وأنه يتعيّن على تركيا أن تتحرك بسرعة فائقة لملء قسط كبير من هذا الفراغ.

هل تنجح هذه المغامرة الكبرى التركية؟

حتى الآن يبدو أن الأمر كذلك. فنفوذها بين السلطات الإسلامية الجديدة في مصر وتونس والمغرب وليبيا، جعل “القوة الناعمة” التركية الأقوى في هذه الدول. و”الانتشار” الاقتصادي التركي يقوم برقصة فالس ثنائية ناجحة مع الانتشار السياسي والثفافي التركي. كما أن تركيا ستكون أحد الأطراف الرئيسة التي ستحدد مصائر الكيانات السياسية في العراق وسورية ولبنان، سواء كان هناك تقسيم لهذه الدول أم لا.

بيد أن العامل الرئيس في هذه المغامرة سيبقى “المعجزة الاقتصادية”، التي سيحدد استمرارها أو ارتكاسها رحلة تركيا الجديدة نحو مرتبة الدول الكبرى، مجددا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى