درس من يبرود/ عمر قدور
تسعة أشهر فقط مرت على سقوط القصير، مدة ينبغي ألا تؤدي إلى نسيان ما حصل من زخم إعلامي ومن نفخ في القدرات اللوجستية المحدودة للمقاتلين فيها، ثم استجداء الدعم العسكري الذي لم يأتِ من مناطق سورية أخرى. هذه المرة أيضاً تكرر السيناريو في يبرود. لم تكن معركة يبرود مباغتة، فحزب الله تولى التمهيد لها على كافة الأصعدة، بما فيها الصعيدين الإعلامي والغنائي! قرار بهذا الحجم من المواكبة لا بدّ أنه يعني الرغبة في تحقيق الانتصار مهما بلغ الثمن، لذا لم يكن عدد التوابيت العائدة من جبهة يبرود مهماً. عناصر الحزب الذين قُتلوا هناك كانوا من ضمن الخسائر المتوقعة والمقبولة لقاء إقامة جدار عازل بين السوريين والبيئة الاجتماعية المتعاطفة معهم في لبنان.
ما حدث في يبرود كان متوقعاً ضمن ميزان القوى، فبضع صواريخ مضادة للدروع ليست كافية للتصدي لهجوم مصحوب بقصف جوي وصاروخي عنيف، لكن ذلك لا يعفي قوى المعارضة، وفي مقدمها الائتلاف ورئاسة أركان الجيش الحر، من تدعيم دفاعات المنطقة بالعتاد وبالإستراتيجية الملائمة، أو بفتح جبهات قريبة للتخفيف عنها. في أثناء حصار يبرود كان الائتلاف مشغولاً بفض الاشتباك بين وزير دفاعه ورئيس أركانه، ووصلت الأمور إلى حد التشابك وتوجيه اللكمات في اجتماع لقادة المجالس العسكرية تمحور حول النزاع على المناصب. لا نستبعد هنا أثر الخلاف الخليجي/ الخليجي، إذ يُشاع أن الائتلاف ليس معنياً بيبرود لأن نسبة من المقاتلين فيها يتلقون التمويل من جهة أخرى غير التي تموّله.
مقاتلو يبرود في صفحتهم على الفايسبوك لم يطلبوا سوى الدعاء لهم وراء كل خبر ينشرونه عن المعركة. هذا يدلل على مقدار يأسهم من طلب الدعم، ويدلل أيضاً على التفكك الذي تعانيه الكتائب المقاتلة إزاء مركزية وتماسك قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه. فهي ليست المرة الأولى التي يستفرد فيها ذلك التحالف بمنطقة معولاً بحق على تخاذل الجبهات الأخرى، أو بالأحرى معولاً على ظاهرة أمراء الحرب الذين يكتفون بمناطق سيطرتهم وبنجاتهم المؤقتة من هجوم مماثل.
تعزية النفس بأن يبرود ليست نهاية المطاف لا تصحّ على النحو الذي يصحّ في مناطق أخرى. فهي، وإن لم تكن نهاية المطاف حقاً، إلا أن القضاء على تجربة “يبرود المحررة” خسارة كبيرة للمثَل الذي ضربته المدينة في الإدارة الذاتية لشؤونها بعيداً عن الممارسات الشائنة التي شهدتها مناطق أخرى. التخفيف من وقع الهزيمة قد لا يكون بريئاً من التنصل من المسؤوليات، ولطالما استخدمه النظام لتبرير هزائمه، فضلاً عن أن تعزية النفس مع كل خسارة بأنها ليست نهاية المطاف قد تعمي الأبصار عن النهاية إن أتت.
على جانبَي يبرود ثمة جهات تخاذلت؛ حزب الله لم يخفِ نيته محاصرة عرسال من خلال احتلال الأولى هذا لم يمنع تشكيل الحكومة اللبنانية على إيقاع أغنية “احسم نصرك في يبرود”، ولم يمنع مقايضة تمييع ثلاثية المقاومة بتغييب إعلان بعبدا عملياً. المتأففون من زيادة اللاجئين السوريين في لبنان لم يتوقفوا عند مئة ألف نازح إضافي من يبرود. وباستثناء أصوات شريحة محترمة من المثقفين اللبنانيين لم ترتفع الأصوات لتحذّر من الآثار المباشرة والمستقبلية على لبنان نفسه. فمعركة يبرود وما رافقها من تطويع لخصوم الحزب لا تختلف عن السابع من أيار، ولكن على جثث السوريين. لبنان المنخرط رسمياً وإعلامياً في صفقة من قبيل تحرير الراهبات لا يستطيع إدعاء النأي بالنفس، وهناك شريحة متزايدة من السوريين ترى في تهاون النخبة السياسية مع حرب حزب الله عليهم تواطؤاً بعد أن كان يجري تبريره بذريعة تجنيب لبنان آثار الحرب السورية.
نعم، بوسع أنصار حزب الله توزيع البقلاوة في الضاحية الجنوبية ثانية، وبوسعهم أولاً إغاظة خصومهم اللبنانيين اعتقاداً منهم أنهم لقنوهم درساً جديداً. أما الدرس الأهم فسيبقى في وجه المعارضة السورية، لأن حالها سيكون كحال يبرود تماماً إذا بقيت تستجدي دعماً خارجياً لن يأتي، وإذا بقيت تستبشر بوصول إمدادات تقطعها الإدارة الأمريكية بمكالمة من البيت الأبيض أو ما دونه. على عاتق المعارضة والكتائب المسلحة أن تصوغ إستراتيجية جديدة تعتمد في المقام الأول على الإمكانيات الذاتية، وهي ليست قليلة إذا توافر الحد الأدنى من التنسيق الميداني. على الذين بشروا قبل أسابيع قليلة بوصول الإمدادات النوعية أن يستفيدوا من الدرس، وأن يصارحوا السوريين بحقيقة ما يجري، بدلاً من أن يشعر السوريون بأن المياه تجري من تحتهم، وبأنهم ليسوا سوى جسر لمصالح الآخرين المتضاربة.
المدن