ذاكرة أيديولوجية/ محمد جميل أحمد
غالبا ما ترتبط قضية الحكم على الناس لدينا، من خلال انطباعات وسرديات ومزاجية خاصة، وبفعل أقوال الآخرين وأحكامهم، والتي قد لا تكون حقيقية أو صادقة بالضرورة لكن الصورة الذهنية التي تتكون لدينا؛ سواء لجهة تواطئها مع رغباتنا، أو لبداية ورودها في صفحة الذاكرة البيضاء، أو لغير ذلك من الأسباب، تكون هي الغالبة حين يُكَوِّن شخص ما حكماً عن شخص آخر، سلباً كان ذلك الحكم أم إيجاباً.
قد لا يكون تحري الحقيقة والمعرفة والعدل في ذلك هو المهم، بل قد لا يكون ذلك أصلاً في وارد أسباب إصدار الحكم الانطباعي والعاطفي الذي نصدره حيال أحد، ومع ذلك فإن صعوبة الانفكاك عن تلك الحالة المتواطئة مع عوائد الذات وسردياتها هي التي تتصرف في انطباعاتنا وتخلق اقتراناً شرطياً بين ما نتوهمه عن شخص ما، وبين حقيقة ذلك الشخص على ماهي عليه في الواقع.
هكذا، يمكن في مجتمع شديد التدين أن يكون مجرد حدث عادي جداً؛ ككشف المرأة عن وجهها ــ وجهها فقط ــ كافياً لإطلاق أحكام قيمة سلبية عنها، وفقط، كنتيجة لتمثلات صدى اقتران شرطي ينتجه التوهم في الذهنية العامة للمجتمع .
والحال أن محايثة ذلك الحكم السلبي للمرأة التي تكشف عن وجهها في ذلك المجتمع لا يتصل بحيثيات اتهام حقيقية، وإنما هو إسقاط لذهنية الأصداء التي تجعل من الإحساس الطهوري المتوهم لذات المجتمع غير قادرة على التجريد، وملاحظة الفرق بين حكم القيمة وحكم الواقع الأيدولوجي.
هذا المثال آنف الذكر، ربما يصلح نموذجاً لفعل الذاكرة الأيدولوجية تلك لذهنية الأصداء إذ تشتغل في لاوعينا من ناحية ، وتضخ في وعينا شللاً إرادياً من ناحية ثانية.
إن غشاء التوهم ـ بحسب الذاكرة الأيدولوجية ـ هو السياج الذي يمنعنا من رؤية كثير من الحقائق عن الآخرين، حين نهدر حقهم الذي علينا قبل أن نصدر حيالهم أية أحكام.
وفي حقل اشتغال الذاكرة الأيدولوجية هذا؛ ثمة الكثير من العناصر المؤثرة تغطي ايحاءاتها وجه الحقيقة؛ كالرموز والمزاج وأصداء الآخرين، متيحة لعمليات العقل الباطن إجراء: التصنيفات والحذف والإقصاء والتهميش وحتى الإلغاء لأفراد وجماعات ووجوه وأزمنة وأمكنة وقبائل وأجناس وألوان.
ربما كان فعل الذاكرة الأيدولوجية هي إحدى مشمولات ما قصده ليو ألتو سير ذات مرة، في أن الأيدولوجيا (صور وموضوعات ثقافية تفرض نفسها على الناس كبنيات لاواعية. فهي لا تعبر عن العلاقة الحقيقية للناس بظروف عيشهم، بل تعبر عن تأويلات وقراءات فكرية تصور عالماً ممكناً ووهمياً أكثر مما تصف واقعاً فعلياً وحقيقياً).
العربي الجديد