ذلك الهوس/ رشا عمران
أن تكون محاطا بمكتبة ضخمة تحتوي على أهم الكتب وأن تستفز عناوينها حواسك كلها وأنت في بداية تفتح مداركك ووعيك على الحياة وانتباهك للعالم حولك – فأنت كائن مصاب بحظ خاص سيترك تأثيره الكبير على حياتك لاحقا! كانت غرفة أبي في بيتنا هي كبرى غرف البيت، غرفة أبي أعني بها مكتبه وكرسيه حيث يجلس ليكتب وأربعة جدران ضخمة ممتلئة من الأعلى إلى الأسفل بالكتب، إلى حد أن الرفوف الخشبية والبلاستكية التي تحمل الكتب كانت منحنية دائما، مما يجعل والدي ووالدتي يخففان من حملها ويضعون الكتب على الأرض أو على الكراسي، مما يجعلها أقرب إلى يدي في ذلك الوقت. هذه الغرفة الساحرة بكل ما فيها كانت بالنسبة لي هي صندوق الفرجة الخاص بي. لم يكن أحد يمنعني من دخولها، ولم يكن أحد يختار عني ما علي أن أقرأه في تلك السن. لم يكن أحد أساسا، لحسن حظي، منتبها لي ولما أفعله. كانوا جميعا مشغولين بحياتهم اليومية وبأعمالهم وأصدقائهم وسهراتهم، وكنت أسحب الكتب إلى ركني الخاص في الغرفة المخصصة لي ولإخوتي وأكومها بجانبي وأقرأ. كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي، كل شيء، غير مهتمة إن كان يتناسب مع عمري أم لا يتناسب. أذكر أنني قرأت رواية «السأم» لألبرتو مورافيا وأنا في العاشرة من عمري! ولكم أن تتصوروا ما هي الخيالات والإيحاءات والتغيرات التي أصابتني! هي نفس الخيالات، استعدتها حين قرأت رواية «لوليتا» بعد أقل من سنة، وبعدها «ألف ليلة وليلة» بنسختها الأصلية غير المنقحة «أخلاقيا»! على أن أكثر ما كان يستهويني في القراءة، تلك الفترة تحديدا، هي سلسلة المسرح العالمي الكويتية. قرأت كل ما توافر في مكتبتنا من هذه السلسلة. كنت أتخيل نفسي بطلة المسرحيات وأتقمص شخصياتها وأتصرف كما لو كنت أنا هذه الشخصية أو تلك. أفكر الآن أحيانا أن هوسي بتلك الشخصيات المسرحية هو من شكل شخصيتي الحالية وجعلني امرأة قابلة للتكيف مع الحياة في كل ظروفها ومواقفها! كنت أيضا مأخوذة بكتب الأساطير وصراعات الآلهة بعضها مع بعض ومع البشر ووقوعها في الغرام وانتقاماتها وغيرتها وغرائزها وأهوائها. وما زلت حتى اللحظة أرى في أنسنة الآلهة أكثر الأفكار البشرية عدلا واحتراما للإنسانية. قرأت تلك المرحلة أمات الأدب العالمي والعربي بشغف استثنائي، حفظت أسماء الكتاب وأسماء بلدانهم، بعض تلك الروايات أعدت قراءتها قبل مدة ليست بعيدة بحثا عن ذلك الشغف، لكنني لم أعثر عليه. كانت قراءة أخرى واعية ونقدية، لكنها ليست ممتعة، الغريب أنني في تلك المرحلة لم أكن أقرأ شعرا إلا ما ندر، مع أنني ابنة شاعر ومعظم من كانوا يأتون إلى بيتنا شعراء. أفكر الآن في أن معرفتي الشخصية بالشعراء تلك الفترة انتزعت مني دهشة اكتشافهم في كتبهم وقصائدهم، بالنسبة لي وقتها كانوا بشرا طبيعيين أعرفهم بكل ما فيهم وكانوا مثالا عن باقي الشعراء، قراءاتي للشعر أتت في مرحلة متأخرة، في المرحلة التي صارت فيها رغبتي في القراءة انتقائية ومحسوبة وترفيه لا كما كانت، عفوية وعشوائية وشرهة. أظن الآن أن ذاكرتي في تجربتي الشعرية تعود إلى تلك المرحلة من تاريخي مع القراءة، تلك المرحلة المخزنة في لا وعيي التي شكلت أساس شخصيتي وبنيتي النفسية وتركيبتي العصبية، حاليا ومع كل ما يحدث في بلادنا ولنا صرت حين أنهي قراءة كتاب ما أشعر كمن حقق إنجازا ضخما وكأنني لم أعد صالحة للقراءة أو كأن ما يحدث في الواقع تفوق على أي مخيال إبداعي وأدبي مع أنني في كل لحظة أمسك بها كتابا جديدا أتمنى لو أسترجع ولو ساعة واحدة من ذلك الشغف الذي شكل حياتي.
* شاعرة سورية. من أعمالها: «وجع له شكل الحياة»، و«كأن منفاي جسدي»، و«ظلك الممتد في أقصى حنيني» و«معطف أحمر فارغ».
الشرق الأوسط