صفحات الثقافة

رسائل الحبّ والجنس/ عيسى مخلوف

 

 

كانت معارك حلب على أشدّها عندما اندلعت معركة غادة السمّان الأخيرة. معركة من نوع آخر وبأسلحة أخرى، ولقد شارك فيها عدد كبير من الكتّاب والإعلاميين والفيسبوكيين أجمعين. كشفت هذه المعركة أموراً كثيرة لا تقتصر فقط على رغبة غادة السمان في استعراض عشّاقها المتيّمين وهم يتلوّون أمامها ويتخبّطون من الألم، الواحد بعد الآخر، مستغيثين متوسّلين، لعلّها ترحمهم وتقرّب من شفاههم العطشى القليل من مائها، لكنها تركتهم وحيدين مع أقدارهم. تركتهم مع لعنة الحبّ غير المتبادَل والذي هو أحد أشكال العذاب.

هم يتضوّرون حباً، وهي هادئة، ثابتة في مكانها، أي أنها ظلّـت على الحياد، كأميرة رومانية تراقب عن بعد مجريات الأحداث، وفي يدها اليمنى منظار مذهّب الأطراف، تقرّبه من عينيها من حين إلى آخر…

كشفت معركة الرسائل أيضاً أنّ انتقاد البعض لغادة السمّان خرج عن أصول النقد وبلغ درجات عالية من الحقد والاستهجان. وثمّة من هجم عليها بسلاح التهكّم – ذاك السلاح الأبيض – وحاسبها لأنها شاخت، وهذا ما يحاكم عليه القانون في بعض دول العالم.

من جانب آخر، هناك من دافع عن أنسي الحاج من منطلق قَبَلي، فكان الدفاع عنه وكأنه دفاع عن النفس. وهناك من لجأ إلى لغة كهنوتية قوامها العيب والحرام، ناظراً إلى الشاعر كأيقونة مقدّسة أو كملاك مجرَّد من الشهوات ومنزَّه من الجنس والأعضاء الجنسية. هناك، أخيراً، من لم يتحمّل رؤية الحاج في موقع ضعف حيال غادة، ولم يقبل بأن يكون، كما بدا في الرسائل المقتطعة من سياق العلاقة العامّ، شهيدَ حبّها الإلهي.

غابت عن السجال أسئلة جوهرية. آن بنجو نشرت مؤخّراً رسائل فرنسوا ميتران وظلّت حائرة تتساءل: “هل أحسنتُ التصرّف أم لا؟” هي أيضاً واجهتها أسئلة. هل يحقّ لها قانونياً نشر الرسائل بدون استشارة الورثة؟ ما الغرض من نشر ما هو موجَّه أصلاً إليها وحدها؟ هل كلّ ما يُكتَب يُنشَر؟

نشرُ رسائل الحبّ ليس جديداً، وكان دائماً مثار جدل. غير أنّ طريقة التعاطي مع هذه الرسائل تختلف بين زمن وآخر، بين مجتمع ذكوري وآخر أقلّ ذكوريّة. وتقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ معظم تلك الرسائل نُشرَت بعد وفاة أصحابها. ألوف الرسائل ومنها، على سبيل المثال، الرسائل المتبادلة بين فيكتور هوغو وجولييت دروو، بين ألفرد دوموسيه وجورج صاند، بين هنري ميلر وأناييس نين، بين سارتر وسيمون دوبوفوار، ورسائل هذه الأخيرة أيضاً، في الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن العشرين، لعشيقها الأميركي نلسن ألغرن. وتنطوي تلك الرسائل، بالإضافة إلى إفصاحها عن مشاعر الحبّ، على بُعد توثيقي أكيد لأنها تُشكَّل مراجعة شاملة للحياة الأدبية والثقافية والسياسية الفرنسية آنذاك…

بعض الرسائل يدور حول امرأة يتعذّر الوصول إليها. تدخل في هذا السياق قصائد قيس بن الملوّح، إذا نظرنا إليها بصفتها رسائل أيضاً. في هذه القصائد لا تعود ليلى، المرأة المستحيلة، امرأة من لحم ودم، بل تصبح هَوَساً وهاجساً. في إحدى المرّات، هربت ليلى من منزل أهلها وراحت تبحث عنه فوجدته هائماً يبكي وينوح مردّداً اسمها بلا توقّف. اقتربت منه، شدّت على كتفه وتلفّظت باسمه. ثمّ قالت: “توقّف عن البكاء، أنا ليلى يا قيس. جئتُ خلسةً لأراك. ليلاكَ أنا، إهدأ”. فما كان من قيس إلاّ أن دفعها عنه بدون أن يلتفت إليها. ابتعد عنها وهو يردّد: “دعيني وشأني. اتركيني مع ليلى”. وسواء أكانت هذه الحكاية صحيحة أم متخيّلة، فهي تعبّر خير تعبير عن تحوّل بعض المعشوقين إلى حالة نفسية لا إلى كينونة حيّة. نذكر في هذا المجال أيضاً الرسائل المعروفة تحت اسم “الرسائل البرتغالية” التي نُشرَت للمرة الأولى في القرن السابع عشر، وهي تعبير عن العشق الإنساني في أقصى تجلّياته، وكانت قد وجهتها في القرن السايع عشر راهبة برتغالية تدعى ماريانا ألكوفورادو إلى ضابط فرنسي هو الماركي دو شامييه جاء إلى البرتغال ليساند أهلها في حربهم ضدّ اسبانيا لنيل استقلالهم. تحيلنا هذه الرسائل على نصوص بعض المتصوّفة التي هي أيضاً قد يُنظَر إليها بوصفها رسائل حبّ ووجد، بل هي انخطاف وتعبير عن الفناء في المعبود. ألم يقل جلال الدين الرومي: “المعشوق حيّ والعاشق ميت؟”

من مكان آخر تأتي الرسائل التي نشرتها غادة السمّان، كأنها بنشرها إيّاها تعفي نفسها من مسؤولية العشق الذي أدّى إلى كتابتها. إنها بريئة من دم هذا الصدّيق. بريئة من مشاعره وانفعالاته. يداها مسترخيتان في ماء بارد بينما العاشق يحترق أمامها ويلهَج بلَوعته وبجوعه إليها، الجسدي والنفسي على السواء.

ليس جديداً القول إنّ الكلمات هي أيضاً تُمارس الجنس. بعضها يغوي ويثير ويعرّي، وبعضها الآخر يَجمَح شغَفاً وهَتكاً وفجوراً. ومهما بلغت حدّة الفجور بين رجل وامرأة، قولاً وفعلاً، فهي – عندما تُمارَس في سرّ غرائزهما وحرّية اللاوعي الباطن – تكون احتفالاً بجسديهما وروحيهما معاً، لكنها، عندما تخرج إلى العلن، تتحوّل، ببساطة، إلى فيلم “بورنو”.

 

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى