صفحات الثقافة

رسائل غير منشورة من نزار قباني الى هنري زغيب

 

                                            كان الشاعر نزار قباني يحرص على علاقات طيبة جداً مع كثيرين، أكثر من شاعر، يبني صداقات جميلة ويشغلها برسائل فاتنة وبجو شعري يمارسه بكثير من الحرية والجمال والنقد والتمرد والاهتمام ويقدم نفسه ذلك النجم الشعري المميز.

هذا ما يرصده القارئ في كتاب جديد للشاعر هنري زغيب بعنوان “نزار قباني متناثراً كريش العصافير” عن “دار درغام”.

يبرز مجموعة كبيرة من الرسائل المتبادلة، ويقرأ فيها نزار قباني تلك القامة الشعرية بدقة عالية، وأستاذاً في الصداقات النبيلة، ويقرأ مرحلة أكثر ازدهاراً بالشعر والألق وفتنة الكلمة وأغواءها وتلك الرومنطيقية الجميلة.

مجموع الرسائل يظهره الشاعر، الدمشقي المدمن على الجماليات، في مرحلة الشعر كان فيها المكان الأكثر مؤنسة وحرية مع حرص مشترك من نزار قباني وهنري زغيب على إظهار رغبة في تقديم قضية الشعر أولاً على ما عداها وعبر تبادل رسائل ودية جداً.

الرسائل اختار زغيب أن يجمعها في كتاب أنيق صدرت برغبات لونية مكثفة في الغلاف بلون أرجواني يعكس مرويات شاعرية ذات جاذبية تعكس المناخ الشعري في مجاميعها وتطل أكثر على شخصية نزار قباني المتميزة، ولا سيما تلك الشخصية المتمردة والعاشقة والشجاعة والقوية والموصوفة بذلك الحضور القوي على الساحة العربية.

تطل من تلك القصائد أو بعضها على تلك الشخصية الكاريزمية في شيخ الشعر العربي والتي صار كثيرون يتشبهون بها في بعض الجوانب لا سيما أنها تجسدت في أكثر من قصيدة شعرية رائعة من دون أن ننسى تلك العلاقة الرائعة التي جمعت نزار قباني ببيروت، وبوسطها الثقافي والشعري وبكل طبقاتها وشارعها الثقافي والشعري وتجاربه ومكنوناته. وكان حضور نزار قباني الى معرض كتاب بيروت في الصنائع وفيما بعد الى الجامعة الأميركية وأي مكان آخر يثير ضجة كبيرة جداً تتحلق حول نزار قباني كأسطورة وتعقد المدينة على اسمه رغباتها، كما الشباب والصبايا، رغبات معقودة على نبرات الشعر والحرية.

تتوزع الرسائل على مراحل وحقبات، وتعيد من خلالها أكثر من شخصية، شخصيات نزار قباني والظروف التي تأثر بها، وبالمجاميع تعكس بعضاً من مزايا المدينة والحياة الحافلة بالشعر. لا تغطي الرسائل المنازل الشعرية التي أطل نزار قباني منها بالأعمال والنساء والحب وفن القصيدة النثرية. لكن إذا بذل جهد بارز في قراءة سطورها وأبياتها دلّت على منزل شاعر كبير يقف على الضفة الأخرى بمواجهة المدينة العربية الحديثة ويبذل جهداً بارزاً في تأملها وتناولها في إطار متوازن من الواقع العربي المكسور والمخيلة الشيقة الشعرية والمخيلة الجميلة التي تقوم على مغامرة شعرية جريئة في تركيزها على المدينة وعلى المرآة خارج كل المفاهيم السائدة.

إذاً هي رسائل نزار قباني، يقول فيها أشياءه بطريقة سهلة، وهناك جوانب عديدة فيها صنعت حضوره شاعراً وأشياء أخرى، شاعراً جميلاً وأكثر، كبيراً في صداقاته، متفوقاً على الآخرين، يملك جاذبية ومهارة بخصوصية فردية بارعة جداً تعرف كيف تؤدي أدوارها وعلى مساحة حضور عربي واسعة جداً وكيفما تحركت، تحركت في الضوء وبشفرات خاصة.

حسناً فعل هنري زغيب في نشر متحف الرسائل بتوثيق مرحلة مهمة، بالعمق، شعرية بامتياز، وتمارس ذلك الاقتحام الغزير بجوانب من عوالم شخصية وبمناطق شعرية قد تكون تمثيلية لمناطق جديدة حين تأتي كرسائل في الأداء والرؤية الشعرية، وفي الزمن الذي كتبت به وفي ذلك الاجتماع الذي يراد منه إيصال رسالة أخرى عن معنى التواصل، والمعنى الشعري الضعيف اليوم والذي يراد له أن يتابع في الزمن الشعري الصعب حيث تسود الأصوات الاستهلاكية والنبرات الهابطة، وفقرات الجنون والشغف وذلك الحس الغريزي بطعم التجريب والتمرد والحرية والابتكار والإبداع الشعري الخاص حين يكتب أو يدخل قاعة شعرية، حيث يبقى أثراً من المدينة، الذي تلاشى فيها اليوم الشعر، كما يتلاشى فيها كل شيء جميل، وتكاد تكون مدناً مرصودة على أقفال مفقودة.

يكفي أن تعود تلك الرسائل الى تلك المناخات، ونزار قباني كان علامة شعرية فارقة في النثر الشعري العربي الحديث، واحداً من الزمن الشعري العالي ومن الملتزمين بقضايا مختلفة ومتعددة، ومن الشغوفين بإيصال رسائل غير منفصلة عن زمنها وواقعها وبمعالجات شعرية وبكلمات تحمل الى صوتها أصوات مدينة مميزة كبيروت العاصمة، وأكثر من مدينة شعرية بطبيعتها وعلاقاتها بالشعراء العرب.

14 رسالة (1989 1993) غير منشورة من نزار الى المؤلف مع وثائقها والتعليق عليها.

شاعران في مرارة الغربة والبعاد عن الوطن، يتبادلان طقساً من السيرة الذاتية ونوستالجيا العودة وبالغضب على الذين أوصلوا البلد الى حيث بلغ وكأنه اليوم، ليس بعيداً عن أيام النفي والنأي عن النفس والإحباط والكآبة.

رسائل جنيف ولندن، ليست شخصية بالتأكيد، نزار قباني شخصية شعرية ليست عادية مطلقاً، رسائله تعكس هموماً ومتابعة ورأياً وبوحاً وحنيناً، ما يجعلها آثاراً شعرية ونثرية، وصفحات أخرى من نبض الشاعر الدمشقي الذي أحب بيروت “ست الدنيا” كما لم يحبها شاعر ليس متناثراً، بل طائراً في الفضاء الواسع نثراً شعرياً يكسر البوابات والتابوات الى الحرية.

هنا مقتطفات من تلك الرسائل وحتى ذلك اللجوء السياسي والإنساني المتجدد الى نزار قباني شاعر المدينة وشاعر الحب الذي تفرقع وتناثر عنفاً وغضباً وكآبة وبكاء.. لكن تمرداً مطلقاً بطعم الحرية.

يقظان التقي

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى