صفحات الثقافة

سوريا.. عدسة الجوّال في مواجهة ماكينة النظام

 

ثائر الزعزوع()

لعل أكثر ما ميز الثورة السورية عن سواها من ثورات الربيع العربي الأخرى، هو الكمّ الهائلُ من مقاطع الفيديو التي انتشرت ومنذ الأيام الأولى للثورة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تلقفتها القنوات الفضائية العربية والعالمية على حد سواء لتحولها إلى مادة دسمة وسبق صحفي، من دون التثبت من صدقيتها في الكثير من الأحيان، وتحول الكثير من حاملي أجهزة الموبايل إلى ناشطين إعلاميين، نقلوا تفاصيل ما يحدث في سوريا، في ظل التضييق الخانق الذي تفرضه أدوات النظام المختلفة على وسائل الإعلام كافة، فلم يسمح لأي من قنوات االتلفزة التي كانت تمتلك مكاتب في سوريا، بأن تحرك مراسليها وكاميراتها لملاحقة الأحداث، على غرار ما حدث في مصر وتونس واليمن، بل وحتى في ليبيا، التي تسلّل إليها بعض المراسلين وقدموا تقارير حية من أرض المعركة.

وتمكنت وسائل الإعلام المختلفة من رسم صورة لما يحدث في سوريا متنقلة من مقطع فيديو إلى مقطع آخر، هنا مظاهرات هنا إطلاق نار، وهناك شهداء، بينما دأب النظام على نفي كل ما تبثه تلك القنوات مستفيداً من عدم وجود سواه على الأرض، حتى أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم استعان بما يصفه الناشطون بـ”الفبركات” ليثبت صحة نظرية “المؤامرة” التي تستهدف النيل من سوريا، وقد فشل وقتها فشلاً ذريعاً، وتحوّل الرجل الهادئ إلى أضحوكة، بعد أن عرض المقاطع في مؤتمر صحفي وتبين أنها وقعت في زمان ومكان مختلفين عما كان يتحدث عنه، وكان تبريره أشدّ إثارة للسخرية حين قال إن المقاطع صحيحة ولكن الإخراج كان سيئاً!

وفيما بدا أنه سباق مع الزمن بين ما يطلق عليه، من وجهة نظر النظام طبعاً، “الإعلام المشارك في المؤامرة” من جهة و”الإعلام الوطني الممانع” ازدحمت الشاشات بمقاطع الفيديو، بين إثبات ونفي، وجهد كلا الطرفين، إن صح التعبير، على عرض أكبر عدد من الأفلام التي تثبت صحة ما يقوله، ففيما كان الإعلام الأول يستند بشكل شبه كلي على ما يصله عبر شبكة الانترنت، اعتماداً على الناشطين، كان الإعلام الثاني ينشر مراسليه في مختلف الأصقاع ليصور شوارع خاوية إلا من حركة المارة الاعتيادية، وخروج المصلين من المساجد، بل وذهبت الإخبارية السورية مذهباً لم يذهب إليه أحد سواها في محاولة منها لنفي خبر خروج مظاهرة في حي الميدان الدمشقي، لتقول إن المصلين خرجوا من المسجد، وإن المطر قد انهمر من السماء، وإن المصلين هتفوا ورفعوا أيديهم ابتهاجاً وفرحاً بنعمة السماء.

ويمكن القول إن إعلام النظام سقط سقوطاً مروعاً، على خلاف قواته الأمنية التي استطاعت أن تنفذ مخطط “الحرب” كما يجب، فضربت بقوة من دون أن تكترث بالصور التي كانت تبث عبر الفضائيات، وحمّلت الإعلام الحكومي مسؤولية نفي ما تفعله، ما دفعه للبحث عن وسائل أكثر قدرة على إقناع العالم بأن ما يراه على “الشاشات المغرضة” ليس سوى أوهام وأكاذيب لا أساس لها من الصحة، فاستعان بشهود مزيفين، وأجبر المعتقلين على سرد روايات تؤكد تورطهم في المؤامرة وتلقيهم أموالاً ودعماً من دول بعينها كي يفعلوا ما فعلوه.

والغريب أنه إعلام النظام- اكتفى بإظهار بعض المجرمين والقتلة المحترفين، بل والأميين ليعترفوا بما فعلت أيديهم فيما الثورة كانت فعلاً تقنياً بامتياز، وكانت الدعوة إليها تتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أي عبر الانترنت، فظهر شهود النظام المزيفون طبعاً، ليتحدثوا عن فلان وفلان، ولم يذكر واحداً منهم على الإطلاق، أنه قرأ خبراً، أو أرسل رسالة عبر البريد الالكتروني.

حتى أن إعلام النظام اضطر في بعض الأحيان إلى إخراج الموتى من قبورهم، كما حدث مع “زينب الحصني” الفتاة الحمصية التي قتلتها قوات الأمن، وتمّ عرض صور تشييعها ودفنها على جميع الفضائيات العربية والعالمية، ما دفع المنظمات الدولية لمطالبة النظام بالكشف عن هوية قاتليها، فما كان منه إلا أن أحضر فتاة تشبهها لتسرد قصتها، وتقول إنها لم تمت وإن كل ما قيل هو تزييف، بل لتسرد حكاية غريبة أقرب إلى قصص المسلسلات عن تعرّضها للاضطهاد من أخوتها الذكور، وفرارها من البيت وصولاً إلى إذاعة خبر مقتلها، لكن إعلام النظام لم يستطع أن يقول من هي الفتاة التي تم دفنها، ولا أن يذهب إلى القبر ويخرج الجثة ليكشف الحقيقة حقاً، ولم يظهر أخوة الفتاة ولا أمها ليؤكدوا أنها ابنتهم التي قتلت فعلاً.

وقد لا يكون هذا مستغرباً على الإطلاق، إذ إن إعلام النظام فوجئ بـ”الحرب الإعلامية” عليه، فكان مطلوباً منه أن ينتقل من إعلام “استقبل سيادته وودع” إلى إعلام قادر على مواجهة فضائيات محترفة، لا تكترث كثيراً لأمر “سيادته” بل كلُّ ما يهمها هو تحقيق أكبر نسبة من المشاهدين، عبر سرعتها وانفرادها بنقل الأخبار.

ولعلّ المستغرب بعد سنتين على اندلاع الثورة، وحتى بعد أن أصبح لكافة الفضائيات، تقريباً، مراسلون معتمدون في الداخل السوري، وفقد النظام سيطرته على ثلثي أراضي سوريا، أن تظل “ظاهرة” مقاطع الفيديو التي يبثها الناشطون تجد سوقاً رائجة لدى تلك الفضائيات، طبعاً، وبالمقابل، فإن آلة النظام الإعلامية، ما زالت تواصل سعيها الحثيث في نفي تلك المقاطع، وتكذيبها والوقوع كل مرة في أخطاء كارثية، وفي إظهار شهادات مفبركة وغبية، ولعل آخرها كان مقطع الفيديو الذي تم عرضه لفتاة قال الإعلام الرسمي، في وقت سابق، إنها تعرضت لمحاولة الاغتصاب على أيدي من قالت إنهم عصابات مسلحة، ليتبين فيما بعد أن الفتاة تم تلقينها في أروقة التلفزيون الرسمي الحكومي.

() كاتب سوري مقيم في مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى