سوريا وخطة العمل العربية
عبد الاله بلقزيز
حسناً فعلت سوريا حين وافقت على مبادرة جامعة الدول العربية . لم يكن يَسَعُها أن ترفض مبادرة من هذا النوع بعد أن طالت أزمتُها وامتدت حتى بلغت من الاستفحال مبلغاً . كانت تستطيع، قبل شهرين، ألا تتجاوب معها لو أنها باشرت بنفسها حلّ أزمتها من طريق الحوار مع المعارضة الوطنية الديمقراطية التي ائتلفت، في أواسط سبتمبر/ أيلول الماضي، في جبهة سياسية هي “هيئة التنسيق الوطنية” . وكان يمكن، حينها، أن يقال إن مبادرة الجامعة تنتمي إلى محاولة للوصاية أو للتدخل في شأن داخلي سيادي يناقشه النظام والمعارضة . أما ألا يكون شيء من ذلك قد حصل، وبقيت دار لقمان على حالها، ودائرة الأزمة والنزيف تدور من دون توقف، فلم يكن لسوريا من حل آخر سوى توسيط الدور العربي، أو قُل القبول به ولو على مضض .
ولأن سوريا تأخرت كثيراً في معالجة أزمتها بنفسها، فغلّبت وصفة العلاج الأمني على السياسي، لم يعد في مُكْنِهَا أن تفرض شروطاً على القرار العربي أو تناقش مضمونه وعناصره، بما في ذلك مكان الحوار وأطرافه . أخطأت حين تأخرت فأصبح على سوريا أن تحاور مواطنيها في القاهرة بدلاً من دمشق أو حلب أو اللاذقية أو حمص، وأخطأت حين تأخرت فأصبح عليها أن تحاور من تعيّنهم لها الجامعة العربية محاورين، بدلاً من أن تحاور المعارضة الوطنية الديمقراطية التي مدت اليد طويلاً من دون جدوى . وها قد بات عليها أن تسمع شروطاً أخرى من بعض المعارضة بدأت باسم معادلة التفاوض بدل الحوار، ولم تنته باسم تكريس التفاوض لتنفيذ هدفٍ واحد هو نقل السلطة، وما خفي أعظم! ولقد قلنا في مقالات سابقة إن الشاطر من يعرف كيف يتنازل، ومتى يتنازل، وأن يفعل ذلك مبكراً قبل أن تكرّ سبحة تنازلاته فتصير، هي نفسها، عديمة الجدوى أمام مطالب مقابلة تعلو وتزيد ويفيض معدّلها عن التوقّع!
مع ذلك، في وسع سوريا، إن أحسنت التصرّف، أن تستفيد من عناصر الإيجاب في المبادرة العربية، وهي كثيرة، وأن تعمل على تعظيمها من أجل كسب الاعتراف بصدق التزامها بالحوار الوطني وبالرعاية العربية له، وإضعاف موقف الداعين إلى خيارات أخرى قصوى خارج نطاق أحكام المبادرة العربية . ويمكن إحصاء ثلاث إيجابيات لخيار الحل العربي، سيكون في مصلحة دمشق اغتنامها:
* الأولى أن التدخل العربي يتحرك تحت سقف حماية استقرار سوريا ووحدتها الوطنية وصون سيادتها من استباحة خارجية ما . وهو يطمئن فريقي النزاع داخلها: النظام والمعارضة على السواء، ويعرض عليهما تسوية عادلة ومتكافئة، فهو يسلّم باستمرارية النظام القائم ولا يُشايع مطلب إسقاطه من جهة، وهو يشدّد، من جهة ثانية، على وجوب تجاوبه مع مطالب الإصلاحات السياسية والديمقراطية على النحو الذي يغيّر من علاقات احتكار السلطة فيه، ويفتحه على المشاركة السياسية، ويرضي حقوق الشعب والمعارضة . وتبدو هذه التسوية المتكافئة واضحة في حديث المبادرة عن العنف حديثاً متوازناً، وذلك من طريق إدانته والمطالبة بإيقافه من الجانبين .
* والثانية أن التدخل العربي في الأزمة السورية، من خلال جدول الأعمال هذا، يقطع الطريق ولو مرحلياً على تدخل دولي تسعى فيه تركيا وفرنسا والولايات المتحدة بجدول أعمال سياسي آخر لا يلحظ فيه مكانة للنظام القائم، وتتوسل فيه أدوات قانونية “القانون الدولي”، وأدوات “تمثيلية” داخلية، ومطالبات سورية معارضة ب “الحماية الدولية” . وإذا كان مشروع التدخل الدولي قد انكفأ، مرحلياً، بإطلاق المبادرة العربية وموافقة سوريا عليها، فإن انكفاءته قد تكون مؤقتة إذا لم ينجح الحل العربي للأزمة السورية، وإذا لم يستفد النظام السوري من الفرصة الأخيرة التي وفرها له الحل العربي لإسقاط مشروع التدخل الأجنبي .
* أما الثالثة، فهي أن المبادرة العربية تضع بعض المعارضة السورية في موقف حرج، بين أن ترفض الحوار مع النظام وتتمسك بشعار إسقاطه، أو أن تحاوره مرغمة فتسقط شعارها القُصوويّ . وهي ستكون، في الحالين، أمام امتحان عسير: امتحان أمام المنظومة العربية إن امتنعت عن التجاوب معها بالمشاركة في حوار القاهرة، وامتحان أمام جمهورها الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين في حال خذلانهم والدخول في حوار مع النظام . وقد يكون الكاسب من المبادرة العربية فريقان سوريان: النظام و”هيئة التنسيق الوطنية” المعارضة، اللذان سيتجاوزان عقدتي التدخل الأجنبي وإسقاط النظام: الذي يعني عندها حرباً أهلية .
إن مبادرة من هذا النوع ينبغي القبض عليها بالأسنان والأظافر لئلا تضيع أو تتبدّد، فقد تكون الفرصة الأخيرة المتاحة أمام سوريا لإنجاز توافق وطني هادئ على برنامج الإصلاحات، قبل أن ينقضّ عليها التدخل الدولي الذي تسعى فيه فرنسا وتركيا بشكل محموم . لن تخسر سوريا كثيراً إن استقبلت المراقبين العرب ومكّنتهم من العمل الحرّ على أراضيها، لأن ذلك شرط من شروط تطبيق المبادرة قد تتعثر هذه بعدم تنفيذه . وإذا كانت سوريا تعاني عنفاً مسلحاً لجماعات معارضة، مثلما تقول، فهذه فرصتها لإشهاد العرب والعالم على ذلك العنف المسلح، وإقامة الحجة عليه، وتبديد الاعتقاد السائد عند العرب والعالم بأن جنودها يطلقون النار على المتظاهرين المدنيين العزل .
لقد حان الوقت ليرتفع صوت السياسة على صوت الأمن في سوريا بعد زمن طويل هُدر في أوهام الحسم الأمني .
وإذا كان قرار مجلس الجامعة في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 شديد القسوة في حق النظام السوري، وشديد الحزم تجاه تلكؤه في وقف قتل المدنيين والوفاء بالتزاماته حيال المبادرة العربية، فإن إبطال مفعوله بيد النظام في سوريا، فالنظام هذا وحده يملك أن يحمل الجامعة العربية على العودة عن قرار تعليق عضوية سوريا، وعلى عدم تنفيذ العقوبات الاقتصادية، وعلى عدم سحب السفراء العرب من دمشق، وعلى عدم الاعتراف بممثل آخر للشعب السوري . وهو لا يملك أن يفعل ذلك بمزيد من المماطلة ووهم كسب الوقت، بل بالوقف الفوري للقمع، وسحب الجيش من المدن، والسماح للمراقبين العرب بحرية الحركة . أي من طريق الالتزام الكامل ببنود خطة العمل العربية .
ثمة كثيرون في العالم، وفي البلاد العربية، يريدون رأس سوريا . ينبغي عليها ألا تقدمه لهم على طبق من ذهب بأخطائها الفادحة التي أودت نظيرتها بنظام ليبيا السابق . تصرفت سوريا بذكاء سياسي في أزمات سابقة، فما بالها اليوم تستهين بالموقف الرسمي العربي؟ نعم إنه موقف ضعيف، مثلما كان منذ أربعين عاماً، لكنه قد يؤذي دمشق أشد الأذى إن فرض عليها العزلة من محيطها القريب، وقد يكون أذاه أقْتَل إن تصرف معها بمثل ما تصرف مع العراق وليبيا حين سوغ للعقاب الدولي .
الخليج