سوري على الحدود/ مالك ونوس
لعملية وصول المواطن السوري إلى حدود بلاده، وحدود البلدان الأخرى، قصة تذكّر ببيت الشعر عن ظلم ذوي القربى، لكنه معكوس، لأن الظلم الذي يتعرض له المرء في وطنه من المقدار الذي تهون معه كل المظالم التي يواجهها في البلدان الأخرى. وتنطوي تلك العملية على عذاباتٍ تذهب أدراج الرياح، إذ لا يقف، عندها، مراقب مارٌّ بين هذا الجحيم المنتشر على طول الأرض السورية وعرضها. ففي ظل الحرب الدائرة في سورية، وفي ظل توسع نطاق سيطرة داعش، وتثبيت جذور خلافتها في العراق والشام، والقصف بالبراميل المتفجرة، والذبح الشرعي عقب محاكماتٍ تدوم دقائق. وفي ظل الخراب الذي يتمدد يومياً، فيأخذ في طريقه مدناً إثر أخرى، وفي ظل قصص النزوح واللجوء. في ذلك الظل، تكمن تفاصيل صغيرة كثيرة، منها الخوف الذي يعيشه من يسافر من أبناء الشعب السوري، أو حتى من يفكر بالسفر إلى الخارج.
ويعتبر توجه المواطن السوري إلى الحدود، لعبورها خروجاً من بلاده، أشبه بتوجهه إلى المحكمة، لسماعه النطق بالحكم عليه. فإن أغفلت الأجهزة الأمنية العاملة داخل البلاد، أو أجَّلت استدعاءه، أو احتجازه، الاحتجاز الذي ترى هي أسبابه موجبة، ولا يراها هو كافية، فإن المفارز المنتشرة على الحدود تتكفل بإبلاغه بذلك الحكم، وتقوم مقامها بكل شيء. وعلى الحدود، يتعرف كل مواطن إلى نفسه، وإلى ما أخفت، ويعرف ما اقترفت يداه، بقصد أو بغير قصد، طالما أن تلك الأجهزة تعرف عنه أكثر مما يعرف هو. ولطالما أجَّل كثيرون عبورهم الحدود، خوفَ تلقيهم ذلك الحكم، خوفٌ مرده هاجس أزلي، يحمله كل مواطن في داخله، فيلازمه طوال حياته، هاجس أنه مدان (من دون أن يدري لماذا)، حتى يثبت العكس. فهو يظل يعتقد، في سره، أنه سيصبح، يوماً ما، نزيل أقبية تلك الأجهزة، لسبب لا يعرفه.
وإن قيد للسوري عبور حدود بلاده، والوصول إلى حدود البلدان الأخرى، فإن جنسيته تصبح عندها اتهاماً، يوجب التدقيق بحاملها لاستجلائه والإحاطة به، ويصبح بذلك موضع تفرسٍ وقياسٍ، طوال الوقت الذي يلزم لإنهاء إجراءات التدقيق بجواز السفر وتأشيرة الدخول، وهو وقت يطول أكثر في حالته. فحتى إن كنت عابراً، كما حال من يقصد مطار بيروت للمغادرة، كون مطارات البلاد أصبحت جميعها خارج الخدمة، للوصول إلى مطارٍ آخر، تنطبق عليك هذه الإجراءات. ولن أنسى مشهد الموظفة التي كنت أرقبها في مطار بيروت، وهي تنهي إجراءات التدقيق والوزن لمن سبقوني بكل سلاسة، لن أنسى ذلك المشهد حين تسلّمت جواز سفري، فأرجعت كرسيها إلى الخلف على الفور متفحصة الجوازات تارة، ناقلة نظرها نحوي، ونحو عائلتي تارة أخرى، كأنني قادم من كوكب آخر. ولن أنسى كيف غادرت مكان عملها، وتكلمت مع موظفة أخرى، وهما تنظران نحونا. ثم دخلت غرفة ما، وعادت مع موظف آخر، رمقني من بعيد، ثم توجه نحوي، وطلب مني أن أقدم له كل ما أملك من وثائق، أي نوع من الوثائق كانت، ولو فاتورة ماء أو كهرباء. وحين تنتهي من هذا القسم، يسألك موظف آخر من أين أتيت بالفيزا، سؤال يدفعك للضحك وللبكاء، في الوقت عينه.
في مطارات أخرى، يرمقونك كأنك قنبلة موقوتة، ستنفجر بهم في أية لحظة، أو كأنك وباء يخشون الاقتراب منك، خوف العدوى. وتنزل الأسئلة عليك، يمطرونك بها، كأنك في غرفة استجواب: لماذا اخترت بلادنا؟ كيف قُدِّرَ لك الحصول على سمة الدخول؟ كم ستمضي لدينا؟ إن قيد لك الحصول على جنسية بلادنا، والبقاء فيها، هل ستفعل؟ تسألني زوجتي: لماذا يفعلون بنا هكذا؟ ولماذا نحن من بين كل البشر؟ أجيبها: لأن كل سبل الدنيا سدّت في وجهنا، نحن السوريين. ولأننا أصبحنا كالصراصير، يتعجبون كيف نجونا من آخر عملية مكافحة لنا؟ لماذا بقينا على قيد الحياة حتى الآن؟ وكيف؟
العربي الجديد