شيطان في عيادة الطبيب النفسيّ/ عروة الأحمد
ربّما كان السبب الأول الذي دفعني ذلك اليوم إلى زيارة “مُراد” في عيادته هو الفضول، فأنا لم أذهب إلى عيادة طبيبٍ نفسيّ من قبل، كما أني في ذات الوقت أريدُ حلاً لكلّ هذا العبث!
“مراد” رجلٌ تجاوزَ الأربعين من عمره، وقد تعرّفت إليه في تجمّعٍ أقامه السوريون في دبي، ثمّ توطّدت صداقتنا أكثر بعد معرفتي بأنه مولعٌ بالمسرح.
حتى أننا كنا نفكر جديّاً في إطلاق مشروع “سايكودراما مسرحيّة” من إعداده، وإخراجي، وأداء شابّ مصاب باكتئابٍ مزمن.
كنتُ أجلس في غرفة الانتظار يومها منتظراً خروج المُراجع الأخير من عيادة مراد، ولمّا خرج رافقه “مراد” إلى الباب ثمّ قال لي مبتسماً: تفضّل لنرى!
دخلتُ العيادة، وآثرتُ الجلوسَ على كرسيّ الاستماع المريح كأيّ مُراجعٍ آخر بدلاً من الجلوس على أريكة المكتب كما طلب. كانت الغرفة مُريحةً في كلّ تفاصيلها: الطلاء الليمونيّ الفاتح. المكتبةٍ الخشبيّة البنيّة الداكنة التي تعجّ بالكتب. الأريكة ذات اللون البيج، ومخدّات التركواز.
هات ما عندك لنرى ما مشكلتك؟
هذا تماماً هو السبب الذي دفعني إلى القدوم إليك. عجزي عن تحديد المشكلة!
ابتسم مراد، ثم فتح النافذة وأشعل كلّ منا سيجارته
هل التدخين مسموح في العيادة؟
في أي مكان عملٍ هو ممنوع باستثناء عيادات الطبّ النفسي. على المريض أن يكون مرتاحاً ولا سيّما إذا كان مدخناً شرهاً كي لا يعيق بوحه شيء.
لم أستطع تجاهل مصطلح “مريض” فسألت مُراد: وكيف يحكم الطبيب النفسيّ على المراجع بأنه مريض قبل أن يستمع إليه؟
ضحك مراد: الكلّ على هذا الكوكب مريض. حتى الأطباء النفسيون الذين يقصدهم باقي المرضى، ولكن تستطيع أن تقول بأننا نستطيع تحديد ماهيّته نوعاً ما فنعالج أنفسنا قدر المستطاع.
نوعاً ما؟
لا شيء حتميّ في الطبّ النفسيّ.
دعنا الآن من تحديد ماهيّة المشكلة فذلك سابقٌ لأوانه، وأخبرني: بمَ تشعر؟
أشعر بأني أطوف فوق بحرٍ من الفوضى.
أشعر بأني كسولٌ يجلس على حافة الطريق يحتسي القهوة ويدخن السجائر في الوقت الذي ينبغي عليه العَدْو!
لقد أوشكت على فقدان الشغف تجاه أيّ شيء في هذه الحياة، ولم يعد هناك ما يسعدني.
في المقابل لستُ مصاباً بالاكتئاب، فليس هناك أيضاً ما يُحزنني أو يشلّ قدرتي على الحركة. تستطيعُ القول بأني غارقٌ في العدم!
غارقٌ أم تطفو فوق بحر؟ اعتمد!
أتعلم؟ لا فرق بين الاثنين! كلاهما غرق!
حسناً. ما هي الأشياء التي تُسعدك؟ أو تبعث في نفسك البهجة؟
سعادةُ الآخرين، وراحتهم.
لا بأس. لكني أسألك عن نفسك؛ لا عن الآخرين.
أعلم ذلك. كلّ ما يبعث في نفسي البهجة يجب أن يمرّ عن طريق الآخَر.
على سبيل المثال حين تقول لي فتاةٌ تعجبني: أحبّك.
أكون سعيداً حين ألحظُ الراحة في نفسها.
ذلك حقاً ما يسعدني، وليس سماع الكلمة كشيء يخصّني.
ما الذي تريده، أو دعنا نقول ما الذي ينقصك؟
أريد ألا أكون مُطالباً يا مُراد.
مُطالباً بماذا؟
مُطالباً بأي شيء: بالتعاطف، أو الحزن، أو الفرح. بالوعود، أو التذكّر، أو السؤال، بالاطمئنان. بالحديث، بالامتنان، بأي شيء! لا أريد أن أكون مُطالباً بشيء!
هل تشعر بالحزن الآن؟
أتمنى ذلك. أشعرُ باللاجدوى من أي شيء في هذه الحياة.
هل فكرت سابقاً بالانتحار؟
لا. بل فكّرت “في” الانتحار بحدّ ذاته كظاهرة مثل غيرها من الظواهر، ولم أجد أيّ جدوى منها!
قهقه “مراد” ضاحكاً، ثمّ أردف: إذا قلنا بأنّ كل إنسانٍ في هذه الحياة يبحث عن شيء ما؛ فما الذي تبحث عنه أنت؟
أبحثُ عن شيء أجهله يا مراد. تارةً أشعر بأني أبحث عن ذاتي، وتارةً أشعر بأني أبحث عن المغزى من وجودنا، وتارةً أخرى أبحث فينا عن الله!
تتنقّل ما بين العبثيّة، والوجوديّة ببراعة، ولو لم أكن أعرفك لقلت بأنك هنا لتختبر مقدرتي على العلاج النفسيّ.
قالها “مُراد” ممازحاً، وهو يشعل سيجارته الثانية ويقف بالقرب من النافذة، ولا أنكرُ بأني قبل اتخاذ القرار بزيارة “مراد” في عيادته كطبيبٍ لا كصديق انتابني شعورٌ باللاجدوى أيضاً من هذه الزيارة لكنّ تحدٍّ ما خفيّ هو ما دفعني إلى القدوم هنا.
هل فقدت الشغف تجاه المسرح أيضاً؟
لا، ولكن المسرح هنا شبه ميّت، وكلّ المحاولات التي نقوم بها بمثابة جلسات إنعاشٍ لجثّة هامدة.
حسناً. دعنا من السعادة، وأخبرني ما الذي يحقّق لك المتعة؟
أشياءُ بسيطة جداً. فنجانٌ من القهوة أوّل المساء مرفقٌ بقطعة شوكولا داكنة قد تجاوزت فيها نسبة الكاكاو 60%، أو سيجارة “كينغ سايز” بعد بروفا مسرحية مُتعِبة. قدحٌ من “الشاردونيه” البارد في منتصف الليل ترافقه ساعةٌ من الزمن لأرمسترونغ وهو يحلّق في سماء الجاز. موعدٌ جنونيّ غير مرتّب له قرب ماء البحر، وبعد ساعاتٍ مضنيةٍ من السّهر. صحنٌ من الفوتتشيني المغموس بصلصة ألفريدو مع قطع صدور الدجاج التي تعلوها وُريقات الحبق، ورذاذ الفلفل الأسود، وينبعث منه رحيق البارميزان الشهيّ الذي بدأ يذوب مستسلماً لحرارة الطبق على أنغامِ فيفالدي!
قاطعني مراد: مهلاً؛ فأنا بلا طعامٍ حتى الآن!
أشعلتُ سيجارةً أخرى بينما همّ “مراد” بتحضير كوبين من الاسبريسو
هل تظنّ بأن لما يحدث في سورية سيطرةٌ على مزاجك العام؟
اوه؛ أفضل عدم الخوض في تفاصيل الملفّ الأعقد، ولكن بالطبع هو المتحكّم بمزاجي اليومي.
لن أخوض في التفاصيل، ولكن قل لي ما الذي يحقق لك الرضا على هذا الصعيد؟
السلام بالطبع يا مراد.
وماذا عن القصاص؟
القصاص ممّن؟ الجميع بات متورطاً يا مراد.
أتعلم شيئاً لقد آمنتُ في هذه الحرب بأن الدّم السوريّ بات واحداً، ولكن ليس لأننا شعبٌ واحد. بل لأن دماءنا اختلطت ببعضها بعضاً حتى غدونا جميعاً إما مجرمين، أو ضحايا للإجرام.
تفضّل لنتناول شيئاً. لقد انتهينا.
بهذه السرعة؟
كانت دردشةً يا صديقي.
والنتيجة؟
لا نتيجة، ولكن على الأقل ليس تصنيف ما تشعر به مرضاً. إنه تماهٍ مع الآخرـ وربطٌ لمغزى الحياة به، ولهذا من الطبيعيّ ألا ترتاح إلا بارتياحه، والآخر هنا هم أشباهك، وخصومك من الطرفين!
والحل؟
حبّة من اللامبالاة كل صباح!
هل أصبحت اللامبالاة هي الحلّ يا مراد؟
لا تقلق. حبّة من اللامبالاة لن تجعلك عديم الاكتراث.
كل ما ستفعله بأنها ستجعل دماغك يتفرغ إلى شؤونك بضعاً من الوقت كي لا يبقى الآخر هاجساً دائماً.
خرجنا من العيادة، وأقفل مراد الباب، ثم التفت إليّ قائلاً:
الآن نحن خارج العيادة. أريد أن أنصحك بأمرٍ كصديق لا كطبيب.
تفضل يا صديقي.
أليس من الإجحاف الاكتراث بالآخرين الغرباء، وجعلهم هاجساً على حساب الأقرباء؟
أنت مثلاً لا تردّ على مكالمات الهاتف، ومصير الرسائل التي تصلك من الأصدقاء هو الإهمال، ثم إنك لا تتواصل معهم للسؤال عن أحدهم!
دائرتي الضيقة يا “مراد” هي الأنا، وليست الآخر، وأفرادها لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وأفضّل أن يقبلوني كما أنا لأنني قبلت كلّ من فيهم على طبيعته، ودون أية شروط مسبقة.
لا أريد أن أكون مُطالباً بشيء كما قلتُ لك في العيادة لأنني لا أنتظرُ شيئاً من أحد، وكشخصٍ يرفضُ الفروض سأمتنع عن تقديم أي شيء مطلوب.
نعم لا أنكر بأني أفضّل التواصل عبر الملاحظات الصوتية بدلاً من الرسائل النصية أو المكالمات الصوتية، وأعترف بأني أفضّل أن تكون الملاحظة الصوتية أقل من دقيقةٍ واحدة، ولا مانع لديّ من إمضاء الساعات وأنا صامتٌ بدلاً من الكلامِ عن أشياء لا تعنيني.
أما الآخر يا صديقي فأتعاملُ معه بسلاسةٍ أكثر لأنه ما زال غريباً عليّ، ومجهولاً بالنسبة لي، وأبذل جهداً كبيراً بعدها كي أمنعه من الدخول إلى دائرتي الضيقة كي لا يصبح مألوفاً فألحظُ أنه كباقي البشر شيطانٌ خفيّ يحاول أن يتأنّق، وعند أوّل امتحانٍ حقيقيّ لإنسانيته سيكشّر عن ضعفه، ويمتهنُ الأذى سعياً وراء العديد من المكاسب بدءاً من استحواذه على السُّلطة والوصاية، وليس انتهاءً بغريزة البقاء التي يربطها بفناء غيره من الكائنات.
أترى نفسك شيطاناً خفيّاً إذاً؟
ما دمتُ أعلم بأني شيطان فذلك يعني بأني لستُ خفياً على نفسي على الأقل.
ولكنك تستطيعُ القول بأني: شيطانٌ يطهّر نفسه بالعُزلة.
إذا كان المسيح قد طهّر الإنسان ذات يومٍ بالألم، فربما علينا اليوم تطهير أنفسنا بالعُزلة لأننا ألفنا الألم حتى بات ركناً راسخاً من أركان حياتنا التي لن يطهّر الوجع ما لحقها من دَنَس.
العربي الجديد