صعود أوروبي جديد؟/ بدر الراشد
يُدشّن هذه الأيام “أثر ترامب” لتفسير كثير مما يحدث على المسرح الدولي. وما سينعكس على العالم في المستقبل البعيد.
يتجاوز أثر الرجل الأقوى في العالم، والأكثر إثارة للجدل، مسألة تغريداته أو مطالباته أو سياساته، أو حتى سلوكياته الفظّة، ليصل إلى إعادة صياغة علاقة الولايات المتحدة بدول العالم أجمع، حلفاء وأعداء.
سيرتبط أثر ترامب بمسألة الثقة، وهو عامل من الصعب ترميمه إذا خدش. ويبدو أن الرئيس الأميركي القادم من خلفيات تجارية، والذي، بحسب مستشاره الاقتصادي، غاري كوهن، “يتعلم ويصبح أكثر ذكياً. وآراؤه تتطوّر”، يقوم بأسوأ ما يمكن لسياسي القيام به، وهو تغيير العلاقات مع الحلفاء والأعداء.
أوروبا أول الجانحين عن الخط الأميركي في عهد ترامب. نجد هذا جلياً في التصريحات الألمانية، أخيراً، حول ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها، وعدم الركون إلى واشنطن. الأمر الذي سيعني تغيراً في صياغة العلاقات الأميركية الأوروبية، حتى بعد عبور حقبة ترامب، وتغير حضور أوروبا العالمية، والتي قد تصبح أكثر فاعليةً على المسرح الدولي.
يقول الرئيس الأميركي للعالم، إن سياسات أميركا ليست مستقرّة بالقدر الذي يظنونه، وإن المزاج الأميركي يتغير، بصورة حادة، ويمكن أن يحدث أي شيء. وحدوث أي شيء في دولةٍ مثل اليونان أو ساحل العاج سيعني دمار هذه الدولة أو تلك، أما إذا حدث هذا التغير في أميركا، فالعالم كله يتداعى.
لفهم ما يحدث في العلاقات الأوروبية الأميركية، علينا فهم سياقات تشكيل الاتحاد الأوروبي وأسسه، فالعلاقات الأوروبية – الأوروبية تمت صياغتها على ركام أوروبا مدمرة، وعشرات الملايين من الجثث، وانهيار كبير أنتج عدميةً هائلة، والقليل من الأمل.
إلا أن الأمل كان أقوى، فتمت صياغة اتحاد أوروبي، هدفه الأساسي بناء علاقاتٍ مصيريةٍ لا تحتفي بالقوة، بل بالقانون، وتجعل الحرب بين فرنسا وألمانيا، أو بلجيكا وهولندا، مستحيلة، لا بسبب الاستقرار السياسي، وإنما بسبب الشراكات الاقتصادية العميقة، والقيم المشتركة المؤسسة لعلاقات هذه الدول في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وضع السياسي الأميركي والمنظّر، جوزيف ناي، مفهومه للهيمنة الأميركية القائمة على “القوة الناعمة والقوة الصلبة”، باعتبار القوة الناعمة تتمثل في الثقافة الشعبية الأميركية التي انتشرت عالمياً على صهوة العولمة. وتتمثل القوة الصلبة بالقدرات القتالية المباشرة القادرة على حسم أي معركة عسكرية.
إلا أننا اكتشفنا، بدايات القرن الواحد والعشرين، أن القوة الصلبة الأميركية ليست قادرة على حسم كل معركة، فالإرهاب ما زال شبحاً يحوم في الأفق، ولا تستطيع طائرات B52 القضاء عليه. أما انتشار الثقافة الشعبية الأميركية، فالعولمة فعلت الشيء ونقيضه، ساهمت في “أمركة” مساحات واسعة من العالم، لكنها، في الوقت نفسه، سمحت للجميع، ليعبّروا عن ثقافتهم وفرادتهم، ما جعل السوق الثقافية مفتوحةً أكثر من أي وقت مضى.
في كتابه “لماذا سيكون القرن 21 أوروبياً” يكتب مارك ليونارد “لا تهتم أوروبا بالجغرافيا السياسية التقليدية، عندما تتخاطب مع دولةٍ أخرى. بل تبدأ من الطرف الآخر للمعادلة: ما القيم التي تدين بها الدولة؟ ما إطارها القانوني والدستوري؟ هوس أوروبا بالأطر القانونية يعني أنها قادرة على تغيير الدول التي تحتكّ بها من الجوهر، بدلاً من العامل مع القشور”.
يضيف “قد تكون الولايات المتحدة استطاعت تغيير النظام في أفغانستان، لكن أوروبا تغير المجتمع البولندي كله بدءاً من سياساته الاقتصادية، مرورا بقوانين الملكية، وبأسس التعامل مع الأقليات، وانتهاء بما يقدم على موائدها من طعام”.
اليوم نجد أثر هذه المقارنة (المكتوبة في 2005) بادياً للعيان، ففي وقتٍ ما تزال فيه أفغانستان تحت سطوة العنف والصراعات الأهلية وعدم الاستقرار، تبدو بولندا دولةً أكثر استقراراً، وأقوى اجتماعياً واقتصادياً.
جميع حقوق النشر محفوظة 2017