عن سوريا التي ذهبت/ أيمن الشوفي
طفلٌ يزرع دبابة. دبابةً كثيرة البكاء، هناك عند السور الرخامي الواطئ لمنزله، بين أزهار عباد الشمس، والأمُ تهرع حافيةً لسقايتها قبل أن تجفّ.
طفلٌ يقدّم زجاجة عطرٍ من ماركة “لابيدوس” إلى مقاتلٍ حافٍ، ويستعيد من بين يديه قطعة سكّر، هناك عند الأشواك المعدنية المدبّبة لسياج الحيّ. يعدّ الطفل أسماء الله في جيبه الطرّي قبل أن تجفّ.
طفلٌ يتنزّه في الفناء الخلّفي لبرميلٍ متفجّر، وبيده قطعة هاون لها مذاق “آيس كريم بكداش”. قلبه يتدحرج أمامه بلا خجل، هناك أمام ظلّ السور القديم، حول دمشق القديمة، يجسّ قلبهُ السور من أطرافه قبل أن يجفّ.
لكن، لا علاقةَ للطفل هنا بأي “نوستالجيا” منمّقة محتمل تصديقها. على السوريين خارج الحدود أن يكفّوا عن إيقاظ الطفل، مناماته تخصّه، كما تخصّهم مناماتهم. سيقولون له ماذا تبقّى من سوريا إذاً وهم خارجها: ألبوم صورٍ ملونة يعود إلى التسعينيات، منديلٌ مطرّز الزوايا برسومٍ متعبة لطائر الكنار، بطاقةٌ مقصوصةٌ من أحد أطرافها مكتوبٌ عليها “المؤسسة العامة للنقل الداخلي بدمشق 10 ليرات”، جهاز نوكيا 3310 اقتنوه عام 2006 وصار كأحد المقتنيات الأثرية، حجر فيروزي أزرق مقلّد على عجل اشتروه بمئة ليرة من سوق الخيّاطين وهم في طريقهم إلى “الحريقة”، فيديو حديث لمظاهرة شاركوا فيها تطالب برحيل الأسد.
حلب أمّ الفقراء
لا تتحفّظ ياسمين عيد كثيراً على حنينها. تجعله يشبهُ حديثها. تصرُّ على معرفته، وكأنها التقته للتو. لقد استقرت في دبي منذ العام 2009. تجيد الانكليزية، وتعمل لدى شركة سياحية هناك. ما يحزُّ قلبها، هو الخطّ الذي يحزّ مدينة حلب ويقسمها نصفين: واحد يخضع لسيطرة النظام، والآخر يخضع لسيطرة المعارضة. تقول: “أتواصل مع أهلي بصورة يومية. غالباً ما أتحدّث إلى أبي، ومن خلال ثنايا صوته أطمئن على الجميع، أو أقلق عليهم. يتحدث أبي كثيراً عن جلد الدبابة الأخضر الباهت. يتحدث عن الموت الذي يخرج من فمها، أو ذاك الذي يطير من البراميل المتفجّرة، ويتحدث قليلاً عن فونوغراف جدّي، وعن أزهار عباد الشمس التي يحبّ، وأحب أنا”.
في دبي، لا تملّ ياسمين من الإطلال على ساحة سعد الله الجابري. في الحقيقة هي تطلّ على صور الساحة وغيرها في “ألبوم” صور قديم يعود إلى التسعينيات، كانت قد أحضرته معها من سوريا. أفزعها خبر تفجيرٍ طال الساحة مطلع تشرين الأول من العام 2012 فأهلها معتادون على عبورها مراتٍ عديدة في اليوم. تقول أيضاً: “كنت متحمّسة للثورة منذ بدأت، فحلب أحد معاقل المعارضة السورية في التاريخ الحديث. كما أنها أمّ الفقراء، فأسعار المعيشة والسكن فيها أقل مما هي عليه في دمشق، وسائر المدن السورية”.
صور ياسمين تجعلها تهتدي من بعيدها إلى مذاق الأمكنة: حي الأرمن، المقاهي خفيفة الظلّ حول القلعة، طعم الفول المتبّل بالفلفل الحار، و”الكبّة” بصنوفٍ لا تنتهي.
تخاف ياسمين من حياة الصور. تخاف أن يطلَّ عليها يومٌ لا يبقى فيه من المكان.. إلا الصور.
الحبّ والحزب
تفرج ذاكرة فراس المتني عن خمسٍ وعشرين سنة هي حياته المعتقلة في سوريا منذ وصل مدينة “أوبسالا” السويدية قبل عامٍ ونصف العام. أخته المتزوجة هناك، أرسلت له دعوةً كانت بمثابة اجتيازه الآمن لعتبات الموت وطقوسه دفعةً واحدة. وراءه جحيم “دانتي” في كوميدياه الإلهية، خلّف جورة الشيّاح والقرابيص وحيّ الوعر، حيث الموت هناك كطاعونٍ لا شفاء منه، والبشر يخرجون فجأة من تخومه أول الليل، يمشون في صفوفٍ غير منتظمة، أطفالٌ بعيونٍ محمرّة، زائغة من التعب، ونسوةٌ متشابهات الهيئة، والكثير من كبار السن يقصدون المجهول غالب الأمر، باعتباره وصّفة أقل كلفة من الموت.
البرد، حيث يعيش فراس اليوم، يتلّبس بالجسد جيداً. يكاد لا يفارقه. يقول: “السوريون عاطفيون جداً. إما أن يحبّوا كثيراً، أو أن يكرهوا كثيراً. إما أن يعيشوا خانعين لعقودٍ طويلة، أو ينتفضوا وكأنهم يحاربون العالم أجمع”.
أحبَّ فراس أوّل مرّة وقتَ كان عطر “لابيدوس” هو الأكثر شهرة، أحبَّ قطرةً، قطرةً، وهو يحضر الاجتماعات الأسبوعية لـ”حزب البعث” في مقرٍ مستأجر في أحد الأبنية السكنية، على هامش إيديولوجيا البعث المضجرة، أو في عمقها. كان بمقدورِ حبٍّ أن ينبت، مستهيناً بالمتمّمات العقائدية للحياة اليومية. يتذكر ذلك بوّدٍ، لكنّهُ ودٌّ يعيش على مسافةٍ آمنة من جذره المتعب. يستعيد أيضاً مشاركته في الحراك من خلال “فيديوهاتٍ” قليلة لا تزال على هاتفه المحمول.
تتشبّث قناعات فراس، في الفاصل الزمني القصير بين كل موتٍ وموت تبثّه شاشات التلفاز، بأن طريق الدمار في سوريا صار باتجاهٍ واحد. اتجاهٌ لا عودة منه على الإطلاق.
تذكرة للإياب
لم يبتعد وفيق سلامة غير عشراتِ الكيلومترات فقط عن الحدود السوريّة. استقر في لبنان، ويحاول منذ عامٍ أن يصطاد طريدة لجوءٍ إلى بلدٍ أوروبي من دون طائل. فإخراج قيده صادر عن دمشق الهادئة نسبياً، وهذا لم يساعده كثيراً في مقاصده. كما أنه لا يمتلك المتطلّبات المادية الكافية لمتابعة موضوع اللجوء. ودمشق لا تغازله إلا من باب الموت المفاجئ، الأشبه بالصدفة العَثِرَة. يتذكّر حواجزها الكثيرة، واكتظاظ شوارعها الرئيسية بأرتالٍ دبقة من السيارات. يقول: “حياتي كانت عادية، لست مع النظام، كما أني لست مع المعارضة، ربما أنا رماديٌّ، كما يصفني فقهُ الطرفين. خرجت من سوريا لأنقّب عن الحياة، لم أجدها في لبنان، لكني أرغب في مواصلة البحث عنها”.
مقتنيات “النوستالجيا” عند وفيق قليلة: حجر فيروزٍ مقلّد اشتراه من سوق الخياطين، ليجلب له الحظ وهو في طريقه إلى الحريقة حيث كان يعمل، كما لا يزال يحتفظ بأول هاتفٍ جوالٍّ اشتراه عام 2006 وكان من طراز نوكيا 3310. هو الآن لا يعمل، صار “ذكرى تكنولوجية” لا يضير اقتناؤها، على حدِّ قوله. والأمكنة التي تمتحن حديث وفيق عند ذِكْرِ دمشق يمكن تنفّسها في نكهة فلافل المصري في شارع 29 أيار، وابتسامة أبو شاكر الممتلئة في محلّه الشهير عند بوابة الصالحية، والهراوات الخشبية التي تنهال على الحليب المجمّد في “بوظة بكداش”.
في قعر محفظته من الجلد الصناعي ترقد تذكرة صغيرة مكتوبٌ عليها: “المؤسسة العامة للنقل الداخلي بدمشق”، مقطوعةٌ من إحدى زواياها، لكنها تكفي للقيامِ برحلةٍ واحدة فقط بين باب توما، وجسر الرئيس شكري القوتلي.
(دمشق
السفير