في أحوال المعارضة السورية
مها بدر الدين
حتى وقت قريب لم تكن المعارضة السورية تحظى بساحة آمنة ومساحة ديموقراطية تسمح لها بالتعبير الحر عن تطلعاتها الوطنية وتوجهاتها الفكرية ومبادئها السياسية، ومرت خلال العقود الأربعة الماضية من تاريخ سورية المعاصر بتجارب أليمة وقاسية مع نظام الأسد الأب الذي استبد وغالا بقمعها للدرجة التي دفعته لارتكاب مجزرة حماة الشهيرة التي استهدفت القضاء على المعارضة بكل رموزها ومكوناتها ونجحت فعلاً بتفكيكها وفرط عقدها بعد أن نالت من القتل الهمجي والاعتقال الممنهج والتهجير المتعمد ما كان كفيلاً بإغلاق فمها وكبح جماح غضبها والدخول في سبات سياسي عميق امتد لأربعين سنة من عمر الشعب السوري الذي سكنه الخوف وأسكته شبح حماة المستباحة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت المعارضة تفصل معارضتها بما يتناسب مع مقاس النظام، فخلال هذه الأربعين ورغم ما شابها من أوجه الفساد السياسي والثقافي والاقتصادي الذي يندى له الجبين وتعجز عن تحمله الجبال، لم نسمع صوتاً جهوراً واضحاً يصدح في أنحاء البلاد ليوقظ في أبنائه تلك الغيرة الوطنية والكرامة الإنسانية والإرداة الحرة التي حقنت بمخدر طويل الأجل، قوي المفعول جعل من الوطن النائم مرتعاً خصباً لإقامة حكم شمولي يسيطر على مفاصل الدولة، ولم ينجح جسد المعارضة السورية المكلوم والمتهالك في الوقوف بوجه النظام المستأسد، ولم تستطع همهماته العليلة التي كان يزفرها بين الحين والآخر أن تعيد الروح للشارع السياسي أو أن تضغط على النظام السوري للسماح بمرور الهواء النقي إلى رئته المتورمة، إلى أن استطاع أطفال درعا أن يعطوا قلب سورية المتعب صدمة إنسانية عنيفة أعادت له الروح فنبضت أوردته غضباً وسرى في عروق الوطن دماء الثورة التي تفوح برائحة الكرامة والحرية والإنسانية، فانطلقت أصوات المعارضة السورية تصدح في أرجاء المعمورة.
وأصبح للمعارضة السورية وجود وكيان يكبران كل يوم مع اتساع رقعة الثورة وازدياد أحداثها وتداعياتها، فتمثلت في بداية الثورة وبشكل فطري بالمعارضة الشعبية التي كانت قاعدتها تضم جماهير الشعب الثائر في كل المدن السورية الذي عارض فطرياً ممارسات النظام الفاسد، وانطلق بلا أجندات خاصة أو خطوات موجهة أو قيادات معروفة ليلقي بوجه النظام السوري المتعنت لائحة مطالبه الشرعية والمشروعة بشكل سلمي وحضاري، ولكن مع تطور الموقف واتساع رقعة المواجهات القمعية وارتفاع وتيرة التصدي للاحتجاجات السلمية وتحولها إلى مواجهات مسلحة من طرف واضح، أصبح من الضروري أن يكون للمعارضة السورية صوت مسموع داخلياً وخارجياً يكون له تأثيره على مجريات الأحداث ويمثل الشباب الثوري ويعكس تطلعاته ومتطلباته، فبدأت رموز المعارضة بالظهور على الساحة لتشكل نواة المعارضة السورية المنوط بها حماية الثورة وإيصالها لبر الأمان والتي انقسمت جغرافياً إلى المعارضة في الخارج ومعارضة في الداخل.
لقد كان هذا الإنقسام الجغرافي للمعارضة مقبولاً في ظل القمع السياسي الذي ينتهجه النظام الأسدي في الداخل السوري، وكان منطقياً أن يكون لمعارضي المنفى الفاعلية الأكثر في إيصال صوت الثورة، لبعدهم عن بطش النظام وحرية الحركة والتنقل والتجمع، وأصبحت الحاجة ملحة ليكون رموز المعارضة في الخارج على كلمة رجل واحد، لكن تفاجأ الشعب السوري عند تشكيل المجلس الوطني السوري بتغلب الطموح الشخصي وحب التفرد على بعض الشخصيات المهمة المعول عليها من جهة، وعلى تمكن الأمن السوري من اختراق هذه المعارضة وتشكيل جناح معارض يحاكي النظام ويسايره من جهة أخرى، وهكذا أنقسمت المعارضة في الخارج إلى معارَضة معارضة ومعارضة مؤيدة، وأصبح هذا الإنقسام المشجب الذي يعلق عليه المجتمع الدولي في كل مناسبة، تخاذله عن نجدة الشعب السوري وتقاعسه عن إيقاف جرائم بشار الأسد بحقه.
أما المعارضة في الداخل فقد انقسمت أيضاً وبشكل طبيعي إلى معارضة مدنية تشكلها القاعدة العريضة من الشعب السوري الثائر وبعض النخب السياسية التي تراوحت درجة معارضتها بتراوح الخطر الأمني المحدق بها من جهة وطموحها وتطلعاتها المستقبلية من جهة أخرى، وإلى معارضة مسلحة تكونت من جموع الجنود والضباط المنشقين عن الجيش السوري النظامي وكتائب المقاومة الشعبية التي تشكلت لحماية الأهالي والممتلكات من بطش شبيحة الأسد، وتم الإعلان عن تأسيس الجيش السوري الحر الذي أخذ على عاتقه مواجهة القوات الأسدية والدفاع عن الشعب السوري ضد ممارسات الأسد المشينة، لكن هذا الإعلان لم يكن كافياً لضم جميع الكتائب المسلحة المتطوعة منها أو المنشقة تحت لواء الجيش الحر فظهر انقسام جديد في صفوف المعارضة المسلحة بين الجيش الحر وكتائب الثوار من جهة وبين الكتائب نفسها من جهة أخرى، وكان هذا الانقسام المشجب الثاني الذي وجده المجتمع الدولي ليعلق عليه تهاونه وتردده في مساعدة الشعب السوري على التخلص من ديكتاتور دمشق.
هذه الإنقسامات المتعددة في المعارضة السورية أصبحت الشريان الذي يمد النظام السوري بالحياة ويطيل من عمره، ففي الوقت الذي يطالب الشعب السوري المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته تجاه وضعه المأساوي، يطالب المجتمع الدولي المعارضة السورية في الخارج والداخل بضرورة التوحيد وتشكيل قيادة سياسية وعسكرية واحدة للاعتراف بها والتعامل معها، وبين الدعوتين تزهق أرواح المئات من أبناء الشعب السوري وتذبح الإنسانية في محراب الأسد بدم بارد يومياً، والدعوة للتدخل والتوحد لا زالت مستمرة.
فهل تتوحد المعارضة ليتدخل المجتمع الدولي؟ أم يتدخل المجتمع الدولي ليوحد المعارضة فيقضى على الاسد؟
أم يقضى على الشعب السوري فترتاح المعارضة ويستريح المجتمع الدولي؟
الراي