في السماء وعلى الأرض/ نهلة الشهال
… وهاتان، أي السماء والأرض، كانتا على الدوام موضع مقارنة/ تنافس/ تضاد/ مناشدة… لكن موضوعنا لا يخص هذه العلاقة المعقدة. نستعيرها هنا فحسب، لمحاولة فهم ما يجري مع اللاجئين السوريين في المنطقة، بينما تنفلت من عقالها «الحرب الكونية على الإرهاب» التي بدأت منذ وقت وتتجدد اليوم بقوة. ولا يمكن إعفاء الحيز الجغرافي لسورية (والعراق) من تجـــددها ذاك، وبالتالي من إعادة ربط السماء التي تخترقها الطائـــرات المقــاتلة من كل صنف، والصواريخ العابرة للقارات (وتلك الأكثر تواضعاً من دون أن تكون أقل فتكاً)، ربطها بالأرض، حيـــث يدب بحسب آخر تقارير مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحــــدة حوالى 3,6 مليون لاجئ سوري خارج بلادهم، في لبنان والأردن وتركيا بالأساس، ثم في العراق ومصر. والرقم بالتأكيد خَفِـــر، وهذه من جهة إحدى عادات الحذر في الأمم المتحدة، ومن جهة أخرى ما يتوافر لها بحكم من يُقْدم على تسجيل نفسه أو الإعلان عن وجوده، بينما لا شك في وجود أعداد لم تفعل لأسباب شتى. وهي قد لا تكون هائلة، وقد لا تكون في حال من العوز والضيق…
هـــو الشتـــاء يقترب، مع ما يعنيه من صعوبات مضاعَفة، لا سيـمـــا للفقـــراء، فمـــا بالكــم بالمشردين وأصحاب الأوضاع البالغة الهشاشة. وهي السنة الرابعة توشك على الاكتمال، بينما لا تبرر أيــة معطيات سياسية متوافرة إمكان التفاؤل بحل يُرجع هؤلاء النازحين إلى قراهم وإحيائهم. فالوعد هو بحرب تستمر لسنـــوات، لا يعرف سادتها وباروناتها عددها. وللحق، فهم بالتأكيد لا يعــرفون الآتي بكل ما يحمله من تعقيدات إن لم نقل مفاجآت. وبالطبع ما يجري ليس نيازك تقع من السماء بلا مسؤولية بشرية عنهــا، بل هي عملية حربية واسعـة تقرَّر إطلاقها لألف سبب، يشدها جميعــاً إلى بعضها تلك السهــولة (الخفة؟) في الإقدام على مخططات تتكشف فيما بعد كارثيتها ويــرتكب في أثناء جريانها فظائع، ثم يقـــول المهيمنون «غود باي»، وينسون ويتصرفون كما لو كان ما جرى غريباً عن قراراتهم وأفعالهم. وهذه من «سمات العصر»، حيـــث امّحاء الذاكرة والتاريخ، وتجهيل الفاعلين، وعدم التقييم، وعـــدم المحـــاسبــة على المسؤوليات، وتقطيع أوصال الأحداث كأن كل واحدة منها قائمة بذاتها بلا سياق… فلنعد إلى موضوعنا.
تقول تلك المفوضية التي عيّنت لنفسها أربعة حقول هي بترتيب الأولويات الإطعام والتطبيب والتعليم والإيواء، إن موازنتها الضرورية المقدرة لعام 2014، والتي لا تتضمن إلا ما هو الأكثر إلحاحاً، تبلغ 3.74 بليون دولار، وصل منها حتى الأول من تموز (يوليو) الماضي (أي عند انتصاف العام) 1.1 بليون دولار، وهو ثلث المطلوب.
وفي لبنان مثلاً الذي يستضيف أكبر عدد من النازحين، قد يصل مع انتهاء العام إلى ما يقرب من المليون ونصف المليون إنسان (كانوا في آب/ أغسطس 2013 بحسب المفوضية، 700 ألف لاجئ مسجل، وأحصي في مطلع الشهر الجاري مليون و142 ألفاً)… في لبنان إذاً يتوافر 43 في المئة من الموازنة المطلوبة وهي بليون ونصف البليون دولار (646 مليون دولار موجودة والعجز 868 مليوناً)، مما عنى أن البدل الغذائي الذي يناله كل لاجئ قُلِّص من 30 دولاراً شهرياً للفرد إلى 20 دولاراً: 66 سنتاً من الدولار، أو أقل من ألف ليرة لبنانية يومياً للفرد! وهو ما كانت مفوضية اللاجئين قد حذرت منه قبل أشهر، لا حياة لمن تنادي. وكل هذا من دون التطرق إلى الوضع الكارثي لجهة الصحة أو «السكن»، حيث تقتلع الرياح الخيام هنا أو تغرقها الأمطار.
السادة والبارونات المحاربون لا يريدون توفير 4 بليون دولار نادت بتوفيرها مفوضية اللاجئين و100 منظمة إنسانية عالمية. وهي كانت لتغطي كل حاجات كل اللاجئين في كل المنطقة على امتداد العام: الحاجات «الأساسية» لبقاء هؤلاء على قيد الحياة، وهي بعيدة عما هو لائق في الشرط الإنساني.
لكن السادة والبارونات ينفقون على الحرب. مليوناً و600 ألف دولار هو ثمن كل صاروخ توماهوك (كل واحد!) من تلك التي يُستسهل إطلاقها من البوارج الراسية في البحر الأحمر باتجاه… الرقة مثلاً. ويقدر ما أنفق في الحرب الجارية حالياً، خلال الأربعين يوماً الأولى لها (أي بدءاً من 22 آب الفائت، حين اتخذ القرار بإعلانها وحتى مطلع الشهر الجاري) ببليون و300 مليون دولار. وللعلم، فإن كلفة تزويد طائرة واحدة بالوقود في الجو تبلغ مئة ألف دولار. ومن بين حوالى 4 آلاف طلعة جوية نُفذت حتى الأول من الشهر الجاري في «الحرب على الإرهاب» الدائرة حالياً، هناك 1400 طلعة جرى فيها تزويد الطائرات بالوقود في الجو. والـ140 مليون دولار تلك أصغر تفصيل في بنود الإنفاق العسكري، والذي سيستمر لسنوات كما بُشِّرنا.
يقول جوزيف ستغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في كتاب له مع ليندا بيلمز الأستاذة في جامعة هارفارد، صدر عام 2008 وعنوانه «حرب الثلاثة تريليون دولار ـ الكلفة الحقيقية للحرب في العراق»، أن ذلك المبلغ لكان غطى كلفة 15 مليون بروفيسور وحاجات 530 مليون طفل ومنح دراسية لـ43 مليون طالب… ولكان غطى نفقات الضمان الاجتماعي لكل الأميركيين على مدى 50 عاماً. ويلاحظ الباحثان أن مجمل قيمة ما تنفقه الولايات المتحدة لتمويل التنمية في أفريقيا لا يتجاوز 5 بليون دولار، وهي تعادل كلفة عشرة أيام من القتال للجيش الأميركي. ويقدِّران أن كلفة تلك الحرب ستبلغ فعلياً ما بين 5 و7 تريليون دولار، إذ لا يتعلق الأمر بالذخائر المبذولة فحسب بل بمصاريف العناية بالمصابين وبأصحاب العاهات الدائمة من الجنود.
ويقول معهد واتسون للدراسات الدولية التابع لجامعة براون الأميركية أن المبلغ هو ما بين 3.7 و4.4 تريليون دولار، بينما يعترف الكونغرس الأميركي والرئيس أوباما (في 2012) بأن كلفة الحرب في العراق بلغت تريليوناً واحداً. والتريليون هو على أية حال ألف بليون!
لا حاجة إلى استعراض التقديرات الحالية الرائجة حول كلفة الحرب الجارية. فحسابات الإدارة الأميركية المسبقة لما ستكلفها حرب العراق تثير السخرية لو قورنت بالكلفة الفعلية، وهذا يتعلق بالكذب لتسهيل مرور القرار، كما بأنهم… لا يعلمون.
الحياة