في انتظار القاتل/ أحمد جابر
ماذا يفعل المواطن العربي العادي اليوم؟ يشاهد صور القتلى، ويساهم في جمع أعداد الضحايا، وينتظر أن يكون صورة قادمة وجثة تدخل في عداد الإحصاء. هو ذلُّ عارم وبؤس غامر ومهانة ساحقة، أن يُصرف العرب من ميدان إنسانيتهم فيصبحون عاطلين من الكرامة، ومنزوعي عصب الغضب، ومجردين من حماسة التحضير لرد الفعل، أو للثأر لذواتهم المهدورة، وللتسلح بشيء من قانون “العين بالعين والسن بالسن”، طالما أن الوحشية باتت وسيلة تخاطب، وطالما أن القتل على اللغة والعرق والدين صار رسالة “تمدين ودمقرطة وحضارة”، يصدرها إلى البلاد الغريبة “الرجل الأبيض”، ويطبع على قنابلها ورصاصها وغازها السام، من لم يمت “برسالة” العولمة الرأسمالية المتوحشة مات بغيرها، وعليه تتعدد الأسباب والقاتل واحد.
وماذا فعل الفرد العادي في سوريا أو في ليبيا أو في العراق؟ هل اغترب عن ذاته عندما زُيِّن له أن الاغتراب– الاقتلاع هو ممره إلى الاندماج في حضارة كونية لا تعترف به؟ وهل خلق الفرد العربي هذا عالماً حقيقياً من العالم الافتراضي الذي وفَّره له فضاء الإنترنت، ليصير بعد ذلك مواطناً افتراضياً عالمياً؟ وهل قاوم الفرد العربي محاولة النزوع الحضاري البديلة التي فُصّلت له من معطيات هويّات غيره؟ الأرجح، أن العقل الذي يفرض على العربي أن يسميه عقل الـ”هُمْ”، عاجز عن الإحاطة بالعقل الذي نسميه عقل الـ”نحن”، وبعد الأرجح، يصير اليقيني هو أن الـ”نحن” تدفع ثمن قصور فهم الـ”هم”، وأن موضوع التجربة الذي هو الأغيار العرب، واستطراداً المسلمين، يصبح حقل تجارب النمطية الفلسفية الغربية التي تفترض فهماً بدئياً محدداً لمقاربتها لمغايرتنا، ومن ثم تبدأ بإزالة النتوءات المفاهيمية والقيمية والأخلاقية التي تتعارض مع خطها النمطي المستقيم، أو خطها الدوغمائي والأحادي الجانب، الذي ينتقل بعد إزالة العثرات المفاهيمية المعيقة، إلى إزالة أصحابها.
لا شيء يفسر ما يتعرض له الفرد العربي أكثر من فلسفة الإهمال الغربية للفضاء الواقعي الذي يستظله سواها، والاستهداف الحقيقي للمجموعات البشرية التي تشغل الحيز المكاني البعيد عن حيز الفلسفة “التمدينية” المدججة بسلاح الفتك الحربي، وبأسلحة الإعلام والاقتصاد والتكنولوجيا المتفوقة.
لقد جرى الاستبشار “الحواري العقلاني” ذات يوم بمقولة “المخيال السياسي” الذي كان من شروطه توفر تكنولوجيا الطباعة والنقل الشامل للأخبار والحوادث… بحيث يُمَّكن الأفراد حيث هم زمانياً ومكانياً، من اعتبار ذواتهم جزءاً من هوية مشتركة، هذه الهوية التي قد تكون قومية خاصة، أو منفتحة على هوية “عالمية” أوسع، تتصل بها وتتواصل معها، وتتفاعل مع أسئلتها ومع محاولة الإجابة عن معضلاتها وعن قضاياها. لقد تراكمت الوقائع التي تشهد أن الفرد العربي مازال منفياً من رحاب الهوية الواسعة، بسبب من الإخفاق في دمجه حيث هو أولاً، وبسبب من ردود الفعل العربية الذاتية، التي نجمت عن حالة التمييز والإقصاء والتهميش الذي مارسته أنظمة المجتمعات التي تحتكر راية العالمية، وتصرّ على أنها تدافع عن قيم حضارتها الجديدة.
ليست تبرئة للفرد العربي، بل هي محاولة لفهم الفرد هذا في تحولاته، وليست تبرئة للأنظمة العربية، بل إن الاتهام بالعجز والفشل عالق بأردانها، لكن الأمرين السالفين لا ينفيان حقيقة الجريمة المروِّعة التي ترتكب يومياً من قبل الذين أعلنوا أن العالم بات “قرية كونية”، وبأن “الكوني صار محلياً.. وأن اختزال الوقت قد قضى على المكان/ الحيِّز، مما سمح بتكتل المجتمعات حول مصالح مشتركة في الفضاء الافتراضي”. الثابت، أن المصالح المشتركة تلك مازال تشكلها غير طوعي في الديار العربية، وأن الآلة السياسية والحربية الغربية تتدخل لفرضها بالقهر المادي المباشر حيناً، أو بالسماح بممارسة القهر والقتل من قبل أهل الديار ذاتها، في أحيان أخرى، أي مما نشهده حالياً وعلى نحو مكثف في سوريا وفي العراق، ومما قد نشهده أيضاً في بلاد عربية تنتظر على طريقتها وصول قافلة القتل إليها، فتتعرف إلى إسم القاتل وهويته، وإلى شروط حياته التي هي في الوقت ذاته شروط موت فردية وجمعية لكل المستهدفين بشروطه.
لا رغبة حاضرة للحديث عن المسؤولية الذاتية، لأن من شأن ذلك التهوين من فداحة جريمة القاتل، والتخفيف من حدَّة سقوطه الأخلاقي المروع، وأمام صور الضحايا الذين صدقوا أكاذيب المتحضرين. لا نيَّة جاهزة للإفصاح عن طيب نوايا أولئك الذين ماتوا وبقيت أعينهم مفتوحة دهشةً أو استغراباً، من فعل القاتل الأسود الذي انتظروا بياض صنيع يديه. مرةً أخرى صدق الكاتب العربي القتيل، ابن المقفع، إذ قال: لا تنظر إلى عينيه، بل أنظر إلى فعل يديه. ولا تبكي عيونهم إذ تذبح أيديهم. لا تصدقوهم. لا تنتظروا القاتل.
المدن