كتاب “وجوه من زمن النهضة”: دروس تاريخية حول العقل والتسامح والواقعية
أحمد ياسين
يعلن الباحث والناقد والإعلامي اللبناني إبراهيم العريس في كتابه الجديد “وجوه من زمن النهضة” ان اكتشاف مفكرينا لعصر النهضة أو عصر التنوير العربي، هو الطريقة الفضلى للعودة إلى اكتشاف التراث والتاريخ الإسلاميين. فاكتشاف تراثنا وتاريخنا عبر الفكر النهضوي، هو الوسيلة الفضلى التي تمكننا من إدراك حقيقة الدين الإسلامي العظيم الذي يشع بأنوار العقل على الدوام.
ويلفت العريس الى ان تاريخنا وتراثنا الحضاري يعلمنا دروساً ثلاثة هي: درس في اللجوء إلى العقل، لأنّ الله سبحانه وتعالى سيتجلّى للإنسان العاقل إن هو استخدم عقله وسيلة وضّاءة للوصول إلى الله. ودرس في الديموقراطية والتسامح. ودرس في مفهوم السلطة.. من منطلق إدراك وضع المجتمع ولعبة الأكثرية والأقلية فيه، أي درس في العقل، ودرس في التسامح، ودرس في الواقعية. ويقول العريس هنا “وفي يقيننا ان الاسلام (الصحيح) يكمن ها هنا”، ويوضح ان الفكر النهضوي العربي هو في حقيقته بحث متعدد الأصوات حول العقل والتسامح والواقعية، بحث كتب برسم أصحاب القرار.. سواء أكانوا أصحاب سلطة فعلية ومباشرة يقفون في قمة الهرم السياسي، أم أصحاب سلطة نظرية غير مباشرة من الذين يشتغلون على العقول والأفئدة. بحث كتب، بأصوات متعددة، ليكون برنامج عمل من خلال غوصه عميقاً في تفسير تاريخ الاسلام وجوهره، وتاريخ المسلمين وممارستهم للحياة وللسلطة، وليكون سلاحاً عزيزاً، والافضل أن يكون وحيداً، في الصراع الذي يخوضه المسلم، كل مسلم، كفرد، ليس ضدّ القوى الأجنبية المحتلة فحسب، وليس ضدّ القابضين على السلطة من الجائرين فحسب، بل ضدّ غرائز الفرد نفسه، وضدّ تسلط اناس يعينون انفسهم أوصياء باسم قوة إلهيّة نشك كثيراً في أنها راغبة في تكليف احد بمثل هذه الوصاية.
من هذا المنطلق، إذاً، يضيء “وجوه من زمن النهضة” توثيقياً ومن زوايا نظر نقدية معاصرة/ حديثة ـ خاصة وشخصية – انعطافات عقلانية جوهرية حادة وجذرية/ جادة وتأسيسية في مسار العقل الاسلامي العربي النهضوي، انعطافات صنعتها عقول شخصيات نخبوية عروبية في المقام الأول والأخير رائدة على الصعيدين الثقافي والانساني وعلى سوية واحدة في النظر والممارسة، على اتساع الفترة الممتدة من أواسط القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، إذ يشكل هذا الكتاب وهو الكتاب السادس في سلسلة كتب “معارف” التي تصدرها “مؤسسة الفكر العربي” شهرياً إضافة نوعية تسد حاجة ضرورية وملحة في افق الدراسات النهضوية العربية من خلال تعريفه برموز ورجالات النهضة الاسلامية العربية الثقات. إذ يتضمن هذا الكتاب تحليلات للأعمال البارزة لكبار نهضويينا في ملاحق ملحقة بالتحليل للدوافع والخلفيات والاتجاهات البارزة لهذه الشخصيات التقدمية والتوعوية ومن خلال التبحر والغوص العميقين في البحث في سيرها الذاتية، التي يسردها المؤلف هنا، والتي بدون معرفتها، معرفة دقيقة، لا يمكن فهم ما قدمته من انجازات معرفية تنويرية وثوروية على الصعيد الاصلاحي في زمنها هي التي تكمن عظمة اهميتها التاريخية في تأثيراتها الخلاقة. وكل ذلك جاء في مضمونية يضعها هذا الكتاب في خدمة “أجيال فاتها ويفوتها الآن جزء كبير وأساس من تاريخها وتاريخ نهضتها وكبار تلك النهضة”، وذلك من خلال استخدام الباحث هنا المنهج الاستقرائي النقدي في تناوله لنتاج ومواقف وأفكار هذه الشخصيات ورؤاها العامة وما قيل بحقها من ايجابيات واضحة، وما جوبه به اغلبها من مواقف وأفعال سلبية بدوافع تشكيكية لما أحاط بحياة هذا الأغلب من غموض وما رافقه من التباسات ملغزة، اعتباران ما زالا قائمين الى اليوم، وربما سيبقيان كذلك إلى زمن طويل أيضاً. إذ يتناول هذا الكتاب، ومن خلال شمولية هذا المنظور، حياة وإبداع وحركية كل من: رفاعة رافع الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، عبدالرحمن الكواكبي، علي مبارك، محمد رشيد رضا، خير الدين التونسي، جرجي زيدان، شكيب أرسلان، أمين الريحاني، جبران خليل جبران، محمد كرد علي، طه حسين، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، فاطمة اليوسف، يحيى حقّي ونجيب محفوظ.
فتحت عنوان: “رفاعة رافع الطهطاوي عينٌ ترصد وعقلٌ ضد الإنغلاق على الذات” يعتبر العريس ان الطهطاوي هو مؤسس عصر النهضة الاسلامية العربية بكل ما عرفه ذلك العصر من تقدّم علمي ورغبة في تعليم المرأة، وانفتاح على كل ما هو صالح ومفيد في الحضارة الغربية وفهم لضروب الحداثة، من نظريات التحرر الى الدساتير الوضعية، ومن حرية الصحافة إلى تطوير اللغة وصولاً إلى تطوير الفنون وبزوغ المثقف العضوي الحقيقي. إذ ان كل هذا صار جزءاً من حياة الطهطاوي وفكره خلال سنوات إقامته القصيرة في فرنسا.
كذلك أصبح جزءاً أساسياً من نشاطه وكفاحه الفكري، بعد عودته الى مصر وقد أصبح شخصاً آخر، من دون أن يفقد إيمانه وحبّه لدينه وأمته، لقد اكتشف المعادلة الذهبية فأسس لتلك النهضة التي أضيف إليها ورثة ومتابعون، نهضة يرى العريس انه من المؤسف اليوم ان نلاحظ اننا فقدناها.
ويعتبر العريس ان الكتاب الاساسي للطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي كتبه بعد عودته من إقامته الباريسية، ويمثل هذا الكتاب نوعاً من الملخص التمهيدي لكل ما اشتغل عليه الطهطاوي وكتبه فيما بعد، وهو كتاب يختلف جذرياً، عن كل كتب الرحلات والانطباعات التي نعرفها، سواء أكانت كتباً وضعها غربيون عن زياراتهم الى الشرق ام كتباً وضعها شرقيون عن زياراتهم الى الغرب. ويقرر العريس ان الأهمية القصوى لنص “تخليص الإبريز…” في تاريخ الفكر العربي، تكمن في موقعه المتقدم، ليس بالمقارنة مع ما كان عليه الفكر العربي الاسلامي، في ذلك الحين، بل بالمقارنة حتى مع ما كان سائداً في الفكر الفرنسي، وربما بالمقارنة ايضاً مع الفكر العربي في ايامنا هذه. كما يمكن اعتبار رحلة الطهطاوي الباريسية نقطة تحوّل، ليس في حياة هذا الرجل ووعيه فقط، بل كذلك في الفكر العربي الحديث بأسره.
وعن جمال الدين الأفغاني يقول العريس إن هذا الرجل الذي عاش لغزاً ومات لغزاً وقد وجدت أفكاره طريقها إلى العقول، ويتساءل العريس: ولكن أي أفكار؟ وفي اي اتجاه؟ ويجيب: سؤالان سيظلان غامضي الإجابة كغموض شخصية هذا الرجل نفسه. لكنه يؤكد هنا ان صحيفة “العروة الوثقى” التي أصدرها الافغاني والشيخ محمد عبده في باريس، قد لعبت دوراً سياسياً ونهضوياً كبيراً بالرغم من أنها لم تصدر سوى لفترة قصيرة مع صعوبة إيصالها الى المعنيين بها.
وتحت عنوان: عبدالرحمن الكواكبي/ بين حب القاهرة واستبداد اسطنبول ولدت الفكرة العربية، نطلّ على الكواكبي وفكره الذي تميّز بالدمج الممنهج والمطلق بين القضيتين العربية والإسلامية. ونطلّ على أفكار علي مبارك المتمحورة حول أن الاسلام ليس سبب تخلفنا بل إن السبب يكمن في المسلمين أنفسهم، وبامكانهم تجاوزه من خلال النهل من العلوم الاوروبية الحديثة ومن أفكار التقدم والإصلاح التي كانت وراء نهضة الغرب. ويؤكد العريس أن الإنجاز الأساسي لعلي مبارك لم يكن في كتاباته النظرية أو الفكرية وحدها، بل في اشتغاله الميداني على الأرض من خلال المشروعات التربوية والهندسية العمرانية التي حققها حين قيّض له تحقيقها اثناء تواجده في السلطة.
على ان الإشتغالية الفكرية لمحمد رشيد رضا تمحورت حول ما يحقق العودة إلى الجذور، على ان ندرس علوم الغرب ونقتبس تقنياته.
ولدى خير الدين التونسي هناك شرطان أساسيان للتقدم هما: تحقيق مفهوم العدل في الحكم، وتحسين حالة الأمة الاسلامية بتنمية أسباب تمدّنها.
والنزعة النهضوية لجرجي زيدان هي ذات اتجاهين كان يراهما متلازمين: الأول اتجاه إصلاحي تطويري يتطلع الى استعادة العرب مجدهم القديم، من دون تنكرهم لإسلامهم المتحلّق من حول الامبراطورية العثمانية، والثاني اتجاه موسوعي يرى في العلم والتربية والثقافة، الوسائل الفضلى لتمكين الجمهور من المشاركة في كل مسعى تقدمي، وفي أي توجه مستقبلي.
أما الاتجاهية النهضوية لشكيب ارسلان، فقد تجلّت في مسعاه “نحو حل أمثل لمشكلة العلاقة بين العروبة والإسلام”.
وفي حديثه عن أمين الريحاني يلفت العريس الى ان الريحاني في دعوته الوحدوية العربية، لم تكن في اطار استرجاع عصر ذهبي كانت فيه الأمة العربية موحدة (منذ فجر الاسلام وحتى أواسط مسار الدولة العباسية)، بل في اطار اتباع منهج الامم الأوروبية (المانيا وايطاليا بخاصة… ولاحقاً الولايات المتحدة الأميركية) في التوحّد والإرتقاء الذي يؤدي اليه هذا التوحّد. ويوضح العريس، هنا، طبعاً نحن لا نذكر هذا من باب كونه مأخذاً على أمين الريحاني، بل من باب توضيح الأمور فقط.
وفي حديثه عن جبران خليل جبران يتوقف العريس ملياً عند “اسطرة جبران” التي غيّبت من قصد أو من دونه إطلالة حقيقية على أدب جبران وكتاباته. إطلالة من شأنها إذا ما وُجدت تضع جبران في مكانه الإبداعي الحقيقي.
ولقد تمثلت نهضوية محمد كرد علي بالدعوة الصريحة إلى “الانفتاح على العالم، لأنها دواء لجمودنا وتخلّفنا”.
فيما اجتهد طه حسين، طيلة حياته الفكرية والأدبية في البحث العميق والمضني عن “نهضة تستوعب العصر، وتهضم الأصالة”.
أما العقاد فإنه مدافع عن اسلام تنويري، إذ انه كان دائم التأكيد على ان “التفكير هو فريضة اسلامية وان مزيّة القرآن الكريم الأولى هي التنويه بالعقل وأعماله”.
أما ريادة توفيق الحكيم التنويرية فقد تجلت بارتباط فكره وحياته جميعاً، بقيم لم يحد عنها مطلقاً، هو الذي كان مجدِّداً في كل المجالات: رائداً في المسرح وفي الرواية، وفي السيرة الذاتية، وفي التعبير عن دور الفن في تغيير المجتمع، ودور الحرية والديموقراطية”.
ويؤكد العريس في تقديمه لسيرة اللبنانية فاطمة اليوسف (الشهيرة بـ”روز اليوسف”)، انها عاشت حياة مليئة بالألغاز لمّا تزل دون أجوبة يقينية حتى الآن. وروز اليوسف، هي والدة الكاتب الشهير إحسان عبدالقدوس التي أصبحت سيدة من سيدات المسرح في مصر وقد لقبت بـ”سارة برنار الشرق”، ومن ثم كانت رائدة كبيرة من رائدات الصحافة السياسية والفنية وحتى من دون ان يؤثر عنها أنها تعرف القراءة والكتابة، وذلك بعدما اسست مجلة باسمها مجلة “روز اليوسف” المجلة التي تحولت الى مؤسسة صحافية كبيرة كانت نواة النهضة الصحافية العربية، إذ هي واحدة من أشهر وأعرق المجلات السياسية في مصر ولمّا تزل تصدر إلى اليوم، فالسيدة روز اليوسف “قد اقتحمت الصعاب وأسست لمجلات وخاضت الصراعات، في وقت كانت فيه المرأة لا تزال تطالب بحقها في أن تتعلم وتنزع الحجاب بخوف وحياء شديدين”.
أما عن يحيى حقّي فيطلعنا هذا الكتاب على سيرته تحت عنوان: يحيى حقّي/ عين ترصد التخلف وعين لمواكبة السير الى الامام، وهو التركي الاصل الذي تربّى في بيئة تترفع عن الشعب المصري، كتب حقّي عن هذا الشعب، وآمن به أكثر مما فعل اي كاتب أو فنان آخر من أبناء جيله، بل ان لغته التي كان يكتب بها كانت لغة مستقاة من التعابير الشعبية.
وأما عن عميد الرواية العربية نجيب محفوظ فيقول العريس مؤكداً على أن قراءة معمّقة لنجيب محفوظ تكشف عن وجود فلسفة متكاملة لدى محفوظ تصل ما بين عقلانية نهضوية وأصالة روحية شرقية.
ويشير العريس إلى أن محفوظ لم يكن مصلحاً دينياً, لكن مَن يستخلص مواقف دينية من أعماله، يمكن ان يضعه في مجال الإصلاح الديني الى جانب الإمام محمد عبده. ويعتبر العريس أن أدب نجيب محفوظ، هو واحد من أعظم الآداب العربية في القرن العشرين، وفي مكانة متقدمة في الأدب الاجتماعي في العالم كله.
[وجوه من زمن النهضة
[الكاتب: إبراهيم العريس
[مؤسسة الفكر العربي بيروت
[ ط. اولى 2011