لمن يتأهب هذا الأسد؟
عبد الباري عطوان
تزدحم المنطقة العربية هذه الأيام بالأساطيل العسكرية الغربية والشرقية على حد سواء، اكثرها يتمركز في الخليج العربي، وبعضها يتجول في مياه البحر المتوسط، ويتزامن كل هذا مع عقد صفقات ضخمة من الاسلحة الامريكية الحديثة تصل قيمتها الى 130 مليار دولار على الاقل.
معظم الأخبار المتعلقة بمنطقتنا محصورة دائما إما بشراء اسلحة او تهريبها في سفن، الى ميادين الحروب، او تفجيرات دموية، او أعمال قتل، او اجتماعات لقادة عسكريين، او تقارير منظمات دولية عن اعمال تعذيب وسجون ومعتقلات غير قانونية، لا شيء على الاطلاق عن التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والأبحاث العلمية.
بالأمس بدأت في الصحراء الاردنية مناورة ‘الأسد المتأهب’ التي تشارك فيها قوات يزيد تعدادها عن 11 الف جندي تمثل 19 دولة عربية واجنبية، وتعتبر الاكبر من نوعها منذ عشر سنوات على الاقل.
اللواء كين توفو قائد القوات الخاصة في الجيش الامريكي اوضح ان هذه المناورات هي عبارة عن تدريب شامل تشارك فيه آلاف المعدات العسكرية، حول سيناريوهات حروب غير تقليدية، بيولوجية وكيماوية، ومواقع ارهابية، وكيفية التعامل مع المدنيين واللاجئين، واعتراض السفن والضربات الجوية وغيرها.
إلقاء نظرة سريعة على نوعية هذه المناورات والسيناريوهات المتوقعة التي تتدرب عليها، وتوقيتها الزمني، وموقعها الجغرافي قرب الحدود السورية مع الاردن، يجعل المرء يخرج بانطباع شبه مؤكد أنها استعداد لتدخل عسكري ضد سورية وايران، او الاثنتين معا، تماما مثلما حدث في العراق وافغانستان واخيرا ليبيا.
الأمر المؤكد ان هذه المناورات العسكرية ليست في اطار الاستعدادات لغزو اسرائيل وتغيير نظامها، عقابا لها على انتهاك حقوق الانسان الفلسطيني وسحق كرامته واحتلال ارضه ونهب ثرواته وبناء الحوائط العنصرية لخنقه وخنق عاصمته القدس المحتلة بالمستوطنات وطمس هويتها العربية!
من الطبيعي ان ينفي اللواء الركن عوني العدوان، رئيس هيئة العمليات والتدريب في القوات المسلحة الاردنية، ان تكون هذه المناورات تحمل اي رسالة تحذيرية الى سورية او اي دولة اخرى، ولكنه، اي اللواء العدوان، لم يقل لنا لماذا اقيمت قرب الحدود السورية الجنوبية اذن، وليس بالقرب من الحدود الاردنية الفلسطينية، او الحدود الاردنية ـ السعودية مثلا؟
‘ ‘ ‘
عارضنا النظام السوري وانتهاكاته لحقوق الانسان وسحقه لكرامة شعبه ومصادرة حرياته، وصودرت صحيفتنا وحُجب موقعنا منذ 15 عاما عندما كان معظم معارضيه يشيدون به ويتمسحون بأعتابه، ويسطّرون قصائد المديح في ممانعته وقوميته، وعانينا الكثير بسبب ذلك، وما زلنا، ونعيد التأكيد بأن مطالب الشعب السوري من اجل التغيير مشروعة وعادلة، ويجب ان تتحقق دون أي نقصان، ولكن من حقنا في الوقت نفسه أن نطرح سؤالا على القوى التي تخطط للتدخل عما اذا كانت تملك بدائل جاهزة تبرر سقوط عشرات وربما مئات الآلاف من القتلى في المرحلة اللاحقة؟
هناك مدرستان لتغيير الانظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية، الاولى امريكية غربية تجسدت في العراق وافغانستان وليبيا، وربما قريبا في سورية، والمدرسة العربية التي رأينا ثمارها في تونس ومصر واليمن.
المدرسة الامريكية استخدمت الاساطيل وقاذفات ‘بي 52’، وطائرات بدون طيار وآلاف الدبابات والآلاف من المرتزقة والطابور الخامس لتغيير الانظمة، فماذا جاءت النتيجة؟ مقتل مليون انسان في العراق، واكثر من ستين الفا في افغانستان، ونصف هذا الرقم في ليبيا، وجرى استبدال ديكتاتور بآخر طائفي في العراق، ودولة فاشلة بدولة مستقرة في افغانستان، وفوضى كاملة في ليبيا، وما زالت الديمقراطية والحكم الرشيد من الاشياء الغائبة كليا في قاموس هذه الدول ونخبها الحاكمة.
التدخل العسكري الاجنبي استبدل الفوضى والبعثرة بالديكتاتورية، علاوة على تفتيت الدولة القطرية جغرافيا وديموغرافيا، وبذر بذور الحروب الاهلية. اما الثورات العربية السلمية مثل تلك التي رأيناها في تونس ومصر فقد ادت الى ديمقراطية وبرلمانات ورئاسة منتخبة ودون اراقة دماء، مع اعترافنا بوجود بعض الصعوبات والأخطاء، ولكنها تظل ثانوية.
في مقالته التي نشرها في عدد امس في صحيفة ‘الغارديان’ البريطانية المحترفة قال شيموس مايلن انه كان من المفترض ان تكون ليبيا مختلفة عن العراق وافغانستان، مثلما اصرّ كل من نيكولا ساركوزي (فرنسا) وديفيد كاميرون (بريطانيا)، لان التدخل العسكري سيكون لأهداف انسانية بحتة، ولن تكون هناك ‘بساطير’ على الارض، وانما غارات جوية ‘نظيفة’. بعد سبعة اشهر من القتل الوحشي للقذافي بدأت ثمار التدخل الليبرالي تظهر للعيان في ليبيا، 8000 معتقل دون محاكمات، تعذيب على نطاق واسع في معتقلات غير شرعية، تطهير عرقي في مدينة تاورغاء وسكانها سود البشرة، ترتقي الى مستوى جرائم الحرب.
مسؤول يعمل في احدى منظمات حقوق الانسان العالمية ابلغني ان مجموعة من المحسوبين على حكام ليبيا الجدد نبشوا قبر والدة القذافي، واخرجوا رفاتها، واخذوا اجزاء منها الى احد المعامل لاجراء فحص (D.N.A) لمعرفة ما اذا كان معمر القذافي ابنها او اابن حرامب.. هل هذا معقول، وهل هذا هو الحكم الرشيد الذي قامت الثورات العربية من اجل تحقيقه؟!
الانظمة الديكتاتورية القمعية التي حكمت المنطقة طوال العقود الماضية بالحديد والنار، ونهبت ثرواتها، واغرقتها في التخلف، وحولتها الى مزرعة خاصة لأبناء طوائفها او المقربين منها، هذه الانظمة يجب ان تتغير فعلا، بغض النظر عمن سيأتي بعدها، ولكن هذا التغيير يجب ان يكون من قبل الشعب، وبعيدا عن التدخلات العسكرية الخارجية، وبطرق سلمية، ولنا في الشعوب المصرية والتونسية واليمنية قدوة حسنة.
‘ ‘ ‘
ربما يختلف المتعجلون للتدخل الخارجي مع هذا الرأي، ويرون فيه سذاجة، وهذا من حقهم، ولكن ما يهمنا دائما هو الحفاظ على الدولة القطرية موحدة، متماسكة، متعايشة، بعد ان فشلنا في تحقيق الوحدة القومية، وان نتمسك ونحمي مبدأ التعايش بين الطوائف والأعراق، او الحد الادنى منه على الاقل، من خلال ايجاد البديل الديمقراطي الذي يكفل الحريات ويجسّد الحكم الرشيد.
الامريكان يريدون التدخل عسكريا لتغيير انظمة ديكتاتورية ظالمة، وتدمير المنشآت النووية الايرانية، وبدأوا بتكوين تحالف عسكري عربي لمشاركتهم في هذه المهمة وتغطية نفقاتها، فهل حصلت الدول العربية على ضمانات بأن البديل سيكون استقرارا وأمنا ورخاء وحكومات ديمقراطية حقيقية، ووضع حد للعربدة الاسرائيلية وفكّ أسر المقدسات؟
الإجابة قطعا بالنفي. فالدول العربية باتت تقدم خدمات جليلة لأمريكا مجانا ثم تدفع الثمن لاحقا، ألم تندم السعودية ـ على لسان الامير تركي الفيصل ـ على احتلال العراق وإطاحة النظام فيه، ووقوعه في دائرة النفوذ الايراني، وحدوث خلل في الميزان الاستراتيجي في المنطقة لصالح النظام الايراني؟
آمل ان لا نندم بعد عشرين عاما عندما نرى وضعا لم نتصوره في كل من ليبيا، وربما سورية، وهذا لا يعني معارضة التغيير الديمقراطي في الأخيرة وتجاهل جرائم نظامها في حق شعبه.
القدس العربي