إلى أين تأخذهم يا سيّد؟
بيسان الشيخ *
يحكى عن 17 نعشاً أحضرت إلى الضاحية الجنوبية لبيروت في يوم واحد من الأسبوع المنصرم. ويقال إن العدد الفعلي الذي وصل الى مستشفى الرسول الأعظم، ذلك اليوم، ناهز الستين. وتذهب تقديرات إلى أن العدد قارب الـ 80 في أكبر ضربة توجه الى مقاتلي «حزب الله» في سورية في كمين للجيش الحر استهدفهم. ولا يمكن تأكيد تلك الارقام أو نفيها، ولن يتاح ذلك ما لم يقرر الحزب الكشف عن خسائره، وهو ما لن يحدث بدوره وسط التعتيم الاعلامي المطبق. صحيح أن مشاركته في القتال الى جانب الجيش السوري ضمن ما اصطلح على تسميته «اللجان الشعبية»، ما عادت سراً، إلا انها تبقى مسألة يلفها غموض وتكتم ومواربة.
لكن عملياً، ما قيمة الارقام والقرى الجنوبية اعتادت ان تشيّع أسبوعياً بين أربعة وثمانية من شبانها؟ بات الامر أشبه بالروتين. تخرج الجثامين المقرر الإفراج عنها من مستشفى في النبطية، فيعبر الموكب الجنائزي المدينة. يغلق السوق ويصطف المارة على الجانبين يراقبون بصمت وذهول، فيما ترتفع الصور والهتافات الحزبية المرافقة للنعوش. «هتاف» الموكب يصرخ عبر مكبر الصوت «مقاومة»، فيرد الجمع الذي بدا ضئيلاً مقارنة بجنازات الشهداء السابقة، «حسينية». «مقاومة، حسينية». «مقاومة، حسينية» وهكذا، إلى أن يتوارى الموكب وتوزع الجثامين على قراها. إنها جنازة شبه رسمية تعكس شيئاً من أزمة الحزب. لا احتفال بالشهادة ولا مديح لإنجازات الشهيد.
هنا، لا أحد يبكي على الشباب. يمضون بصمت الى مثواهم كما إلى معركة الدفاع عن مقام السيدة زينب. أو هكذا قيل لهم قبل أن يعودوا جثثاً هامدة قضى أغلبها بطلقة في الرأس على ما يهمس الاهالي. فهؤلاء لا يثقون حتى بالجيش السوري الذي يقاتل أبناؤهم الى جانبه، لكنهم مقتنعون بـ «الواجب الجهادي» الذي أطلقه «السيد». فالقول إن التململ بدأ يتسلل الى بيئة الحزب قد يكون صحيحاً لكنه لا يرقى الى انشقاق فعلي عن قرار الحزب. بعض الاصوات التي علت متذمرة من ارسال المقاتلين الى سورية، اعترضت على توسيع رقعة المشاركة الى مناطق وبلدات ليست فيها مقامات دينية، لكنها لم تعترض على جوهر المشاركة. وهذا مفهوم ضمن البيئة الشيعية «الحزب–اللهية»، لأنها، بالنسبة اليهم، معركة وجود. وثمة خوف حقيقي تغذيه الآلة الإعلامية الحزبية من فكّي كماشة تطبق على الجنوب اللبناني اذا سقط نظام بشار، ليبقى الأهالي بين اسرائيل وسورية الثورة. أما الدفع بهذه المخاوف خطوة أبعد فيذهب بالبعض الى التوجس من مؤامرة لطرد الشيعة من لبنان وسورية الى العراق وإيران!
«لن تُسبى زينب مرتين»، يردد الشباب المؤيدون لـ «حزب الله» ويتبادلون على هواتفهم صوراً ومواقع الكترونية تعزز تبنيهم هذا «الواجب الجهادي» الذي لا يقل، بنظرهم، عن قتال اسرائيل.
بهذا لا يبقى من جدوى للمقارنة التي شاعت أخيراً وسط منتقدي حزب الله بأن «الأبطال» الذين حاربوا في 2006 لا يمكن ان يتورطوا بالدم السوري. تنتفي المقارنة لأن «مجاهدي» الحزب لا يرونها تورطاً بدم السوريين «الأبرياء» وإنما دحراً لـ «جهاديين» مُوازين عازمين على تدمير رموزهم الدينية. هذا عدا عن أن تلك «البطولات» وحرب تموز نفسها كانت موضع انقسام لبناني عميق، فلماذا يستعان بها اليوم لمقارعة «حزب الله»؟
تلك هي البيئة المشحونة والخائفة التي تستحق البحث بجدية في مستقبلها ومستقبل علاقتها ببقية اللبنانيين بعد سقوط الأسد. فالشماتة لا تفيد والجميع يعلم، قيادة الحزب كما خصومه، أن حماية المقامات الدينية ليست إلا ذريعة لشحذ همم شباب في مقتبل العمر بينما القرار الفعلي في مكان آخر. وإذا كان الجهاديون «السنّة» يتوجهون للقتال الى جانب الثورة السورية بدافع ذاتي، فمجاهدو الحزب يذهبون بقرار مركزي. هنا الفرق كله.
* صحافية من أسرة «الحياة»
الحياة