مجزرةٌ عن مجزرةٍ تفرق.. في سورية/ مالك ونوس
طغى، في الأيام القليلة الماضية، حديث المجازر على الشارع السوري، وشغل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بعد مجزرة قرية الزارة في حماه. لكنه لم يكن حديثَ اشمئزاز وإدانة، بقدر ما كان، وللأسف الشديد، حديثا برز فيه تفريقٌ للمجازر، وتصنيفٌ لها وترجيع، مع أن السوريين هم، في كل الحالات، ضحاياها. وككل حدث يرخي بظلاله على اهتمام أبناء الشعب السوري، جاء هذا الحديث، ليكرّس التفرقة الفاضحة، والشقاق الكبير، التي استطاعت سنوات الحرب الخمس، وفاعلوها، تكريسهما بجدارة، وتجذيرهما بين تلافيف أدمغة السوريين وقلوبهم ووعيهم ولا وعيهم. حتى باتت المجازر حاملةً الإمكانية على الحلول محل الدراسات الاستقصائية واستطلاعات الرأي، في قدرتها على إظهار مدى التشظي والاستقطاب اللذيْن بات يعانيهما المجتمع السوري، ومدى استحكامهما بحياته ورؤية أبنائه لمستقبل بلادهم وشكلها.
فبعد مشاعر التشفي والشماتة التي عادة ما تعتمل بين جماهير أحد أطراف الصراع في سورية، لمقتل هذا العنصر أو ذاك الضابط أو القائد لدى الطرف المقابل، وغرق هذا الطرف، بطبيعة الأحوال، في الحزن والأسى، ثم توالي هذه المشاعر، وتبادل الأدوار فيها، حين تنعكس الآية؛ صارت الأحاديث التي ترافق المجاز المفجعة نسخةً عن تلك المشاعر والأحاديث. فنرى التشفّي، وفي أحسن الأحوال، صمت هذا الطرف، لدى وقوع مجزرةٍ لدى الطرف الآخر. وهو ما شهدناه لدى وقوع المجازر في حلب، إثر تصعيد الأعمال العسكرية والقصف على أحيائها منذ أكثر من شهر، حيث لاذ كثيرون بالصمت بعد تلك المجازر. ثم عادوا وأخذوا في التفجّع والندب، وهذا حقهم، حين وقعت المجزرة في قرية الزارة الموالية للنظام في 12 من مايو/ أيار الجاري، وراح ضحيتها 15 مدنياً، بينهم أطفال ونساء.
وككل مجزرة تقع في سورية، يخيم الغموض على حيثيات المجزرة الجديدة، ولم يكن قد انقشع بعد عن مجزرة سبقتها. وتبدأ الأصوات نفسها بلعن الثورة السورية وكل ثورة، والخراب الذي جلبته للبلاد، على الرغم من أنها هي الأصوات نفسها التي كانت تحلم بالثورات التي تعمّ العالم، قبل أن تضرب في بلداننا العربية ويصنفونها في قائمة المؤامرة. وعادةً ما تستبق هذه الأصوات، حتى التقاط أهالي المجزورين أنفاسهم، كي يسوّق أصحابها اتهاماتهم، نائين بأنفسهم عن تحليل بعض الوقائع التي تحيط بحادثٍ كهذا، وقائعَ توفر لهم، ولغيرهم، الدلائل على تورّط جهات فيه، وإنْ تعذّر هذا، تدل على تسهيلها وقوعه، على أقل تقدير، وهم الذين يبرعون بتحليل ما بين السطور، وما وراء حركات الأيادي وإيماءات الرؤوس وإشارات العيون، حين يريدون التدليل على المؤامرة والمتآمرين.
“ككل مجزرة تقع في سورية، يخيم الغموض على حيثيات المجزرة الجديدة، ولم يكن قد انقشع بعد عن مجزرة سبقتها”
غير أن هؤلاء النادبين اللاعنين، لم يجرؤوا على التساؤل عن الكيفية التي دخل فيها منفذو المجزرة، ولم يرتقوا إلى مصاف موالين كثيرين تجرأوا وأخذوا يتهمون جهاتٍ في النظام بعدم الدفاع عن القرية، وتركِها، وأهلها، لقمة سائغة للمسلحين الذين لم يكتفوا بقتل المدنيين، بل التقطت لهم صور وهم يدوسون على جثث النساء والأطفال المتكومة أمامهم. كما غاب عن بالهم ما استغربه هؤلاء الموالون من سهولة دخول المسلحين القرية، وغياب الجيش عن الزارة ومحيطها وقت الحادثة. بل إن تعجبهم وحشية عمليات القتل، والتقاط فاعليها الصور دوساً على الجثث، أنساهم صور سيلفي المتبرّجات مع الجثث وراءها، والابتسامة التي أشرقت فيها مذيعة قناة سما الفضائية منذ فترة قريبة، تلك الصورة التي تساويها مع أولئك القتلة وساديتهم، وهي التي بقيت في عملها بعد كل الإدانات لها.
ولا ينجو علمانيون كثيرون، مثقفين كانوا أم أكاديميين، من الوقوع في بكائياتٍ إثر كل مجزرةٍ تنفذ بحق أبناء طائفتهم، هم الذين يكون لافتاً لوذهم بالصمت، عندما تضرب مجزرةٌ أبناء طائفة أخرى. ولئنْ دخلت هذه الجرثومة إليهم حتى استحكمت، وهم ليسوا في الحالة السورية طائفةً أو جماعة، بل أفرادا متنافرين، وفي أحسن الأحوال متباعدين، بفعل سياسات ضرب الأقطاب في ساحاتهم، فلا لوم لمن حالت الظروف دون إكماله تعليمه، أو أحياناً الحصول عليه، في إبدائه ما يبدي، أو الذهاب فيه أعمق مما ذهبوا. ولعل مجازر كهذه تكشف أن شعور انتماء كثيرين من هؤلاء العلمانيين تقلص حتى تساوى وحجم طائفتهم، وأقل، بعد أن كانت تضيق عليهم البلدان وحدودها، ولا يكاد يكفي اتساع الآفاق لحجم أحلامهم.
كنا نحلم، في أوقاتٍ سابقةٍ، بأزمنةٍ يتعمّق الاختلاف فيها بين خيمةٍ وخيمة، فتسمو خيمة المقاومين، كما تأملنا مع الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وتكبر على حساب خيمة اللاجئين، لتصبح كل البلاد خيمة مقاومين. لكننا لم نتصوّر أن نصل إلى وقتٍ يؤمن فيه بعضنا ويأمل، بمجيء زمنٍ تتساوى فيه المواقف، أو تكون على مستوى الفجيعة تجاه هذه المجزرة، كما كانت تجاه التي سبقتها، وألا يزيد الخلاف والاختلاف لدينا بين مجزرةٍ وأخرى في سورية، ما دام السوريون، وليس غيرهم، هم الضحايا في كل المجازر التي تُرتكب على أرض هذه البلاد. كما لم نتصوّر أن نصل إلى وقتٍ، يؤمن فيه بعضنا، ويأمل بمجيء زمنٍ تتعمّق فيه فكرة الانتماء إلى وطنٍ على فكرة الانتماء إلى حزبٍ أو مجموعة، فما بالك بالانتماء إلى طائفة أو مذهب.
العربي الجديد