مطاعن “الهمج الثقافي” بالثورة السورية تسويغ لها
وسام سعادة
ما الذي يقوله، بالمحصلة، معشر “الهمج الثقافي” المناهض للثورة السورية؟ إنّها ليست ثورة حقيقية، بل سراب ووهم، بدليل أن داعميها ليس لهم باع عريق في الثوريّة، في حين أن أعداءها والمشككين بها ينتمون الى نخبة من الأصناف الثورية الفاخرة.
ثمة بعض من الحقيقة في ما يقوله هذا “الهمج الثقافي” المتراوح بين تسويغ أو إنكار فظائع النظام البعثي الفئوي وبين إظهار الحماسة لها والتحريض على المزيد.
فالثورة السورية، كما سائر الثورات الشعبية الربيعية، خرجت على أنظمة كانت تنقصها الشرعية الدستورية، وتستعيض عنها بـ”شرعية ثورية” ذات طابع انقلابيّ، ولا يقارن الحدث الانقلابي المؤسس لها بأي شكل من الأشكال مع تجذّر ومدى الثورة الايرانية، كي لا نذهب بعيداً.
وإذا كانت الحالة المصرية أكثر تركيباً، كون حرب شكلت بمعنى من المعاني حدثاً مؤسساً للسردية الثورية ولو بعد سنوات على انقلاب الضباط الأحرار، فانه في النموذجين البعثيين العراقي والسوري، كان الانقلاب عارياً من أي شبهة “ثورة”، ومع ذلك لم يكتف بأن ينسب لنفسه الثورية، بل أطلق اسم الثورة على كل شيء، فالحزب طليعي وثوري، والجيش عقائدي وثوري، والقائد الرمز هو كذلك لأنه قائد ثورة، والشباب يتربون في عهدة “اتحاد شبيبة الثورة”، و”الثورة” أيضاً اسم لجريدة رسمية.
الثورة السورية هي ثورة على كل هذا، وكذلك الثورة الليبية على “الجماهيرية” و”الكتاب الأخضر”، و”ثورة الفاتح”. لا مكان هنا، لـ”ثورة من داخل الثورة على الثورة”، كما كانت “الثورة الخضراء” الايرانية ضد تزوير انتخابات في بعد منها، كونها قدّمت نفسها كاستمرار وتصحيح للثورة الايرانية الأساسية، تلك التي أطاحت بنظام الشاه. ولا مكان هنا، لـ”الثورة” المتعايشة مع سابقتها، على قاعدة إحالة سابقتها إلى الكينونة المتحفية، كما هي حال “ثورة يناير” المصرية في شكل تعاملها مع “ثورة يناير “، إذ تلغي مرجعيتها الرمزية إلى حد كبير من دون أن تنقلب عليها بشكل قاطع وواضح، والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبث للثورة اليمنية.
أما في سوريا وليبيا، فالثورة الربيعية جذرية وجماهيرية ومسلّحة، لكنها وبشكل واضح ثورة ضدّ النظام “الثوري” بصيغتيه “الجماهيرية” و”البعثية”، وتصميم على قبره هو وكل سرديته، وكل رمزيته، ومن هنا أأهمية تعريف الثورة السورية لنفسها كثورة الاستقلال، انسجاماً مع نظرة الشعب الثائر لما يقوم به على أنه عملية تحرر شاقة ومريرة من “الاحتلال”.
بهذا المعنى، نعم، الثورة السورية هي ثورة مضادة، ثورة للتخلص من “النظام الثوري”، “التقدمي”، “الديموقراطي الشعبي”، العريق في علاقات صداقته مع “الأنظمة الثورية” في العالم.
كذلك، الثورة السورية لا تشبه نموذج الثورات “العالمثالثية” المحببة الى هذا “الهمج الثقافي الممانع”. الثورة كما يفهمونها ينبغي أن يقودها قائد “فولاذي”، يتوعّد الاستعمار بالثأر منه ولو بعد عاشر جيل، وينعش بين الفينة والفينة الأمل لدى يعاسيب “مناهضة الرأسمالية” و”مقاومة الليبرالية المتوحشة” بأنه في وارد “إعادة توزيع الثورات”. والثورة هي عندهم ثورة تتعرّف على نفسها في الثورات الأخرى السابقة لها. وبما أنّه ليس هناك أي كتيبة في “الجيش السوري الحرّ” تحمل اسم باتريس لومومبا، أو ارنستو تشي غيفارا، أو مانغستو هايلي ميريام، أو بول بوت، يخلص هذا الرهط الى انها طبعاً ليست ثورة.
نقول هذا طبعاً، مع إبداء أكثر من التحفظ على التسميات الماضوية الرائجة بين المقاتلين الثوريين السوريين، والتي تكتفي بمناقضة النظرية “البعثية” في الفتوحات العربية كفتوحات “قومية”، بإعادة الاعتبار إلى الفتوحات بمرجعية دينية، وبصدى مذهبي أكيد.. لكن هذا شيء، ونظرة “الهمج الثقافي” للثورة الحقيقية المنشودة كـ”حفلة تنكرية معادية للامبريالية” شيء مختلف تماماً، بل شيء نقيض.
ثم إن الثورة المتطورة إلى حرب استقلال سورية بسبب من تطور “شبيحة بشار الأسد” إلى حالة “نصف فاشية – نصف شيوعية” تذكّر بـ”الخمير الحمر” في كمبوديا، هذه الثورة علاقتها “معقدة” فعلاً تجاه الخارج. العالم الخارجي، والغرب تحديداً، تمنعه أشياء كثيرة من دعمها. من جملة هذه الأشياء، النقد الذي مورس بشكل منهجي ضد مقولة “حرب التدخل الانساني”، والذي استفاد من المردود السيئ لحرب العراق، ثم من ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، ليفرض سطوته. ومن جملة هذه الأشياء أيضاً، رُهاب الإسلام، علماً أنّ ربط عملية قمع شعب بهذا الشكل تحت شعار “العلمانية” هو أسرع الطرق لنبذ هذا الشعار للأبد من المجتمعات الإسلامية.
ورغم كل ذلك، ليس هناك أي ثورة أساسية في التاريخ الحديث إلا ويدرس تطور موقف الحكومات الأجنبية منها يوماً بيوم. الثورة اليونانية الاستقلالية على السلطنة العثمانية كان عليها أن تنتظر أشهراً عديدة ومريرة قبل أن تلتفت إليها روسيا وفرنسا وبريطانيا. لكن في نهاية المطاف لعب التدخل المباشر لهذه الدول دوراً حاسماً لمصلحة الثورة اليونانية، هذه الثورة – المدرسة بالنسبة لكل من يريد أن يخرج من سذاجة الحكم على السياقات بحسب البعد أو القرب من السياسات الاستعمارية للدول الغربية ليس إلا.
أما ثالث ما لا يستطيع “الهمج الثقافي للممانعة” فهمه، فهو أن مثلهم وجد على هامش كل الثورات، ولفظته كل الثورات، وما عاد يذكره أحد. إبان كل ثورة أساسية في التاريخ الحديث كان ينهض من يقول إنها ليست الثورة الحقيقية، وإنه يمثل الثورة الحقيقية، وإنه الحقيقة، والواقع كذبة، لأن العالم الحقيقي موجود بين ثنايا شتائمه وافتراءاته وتخويناته فقط.
ما لا يفهمه هؤلاء أن “الثورة” هي تماماً كـ”المسيح المنتظر” كما نظر إيه فرانتس كافكا ووالتر بنجامين: يمكن أن يأتي في أي لحظة، وتحديداً على بغتة في اللحظة التي نغفل عن انتظاره فيها.
هكذا الثورة السورية، ثورة “مهدوية” على الأيديولوجيا “المهدوية” وعلى “النظام الثوري”. لم تنتظر “قانون الثورات”، ولا تأمين “الشروط الموضوعية” لها، ولا أمنت شرعيتها بمعايير ثورات سابقة عليها، ولم يتوعد أهلها الرأسمالية بالدمار والاستعمار بالندم. وهي ثورة لأجل كل ذلك، والرعب منها، عند “الهمج الثقافي” للممانعة، هو المؤشر الأساسي إلى أنها ثورة، وأكثر من ثورة: إنها تاريخ جديد.
المستقبل