مقالات لكتاب عرب تناولت الحرب على “داعش”
الحرب على «داعش» أطاحت المالكي فماذا عن سورية؟/ جورج سمعان
الحملة «الكونية» هزمت نوري المالكي أخيراً. لكن الضربة القاضية جاءت من الخليفة أبو بكر البغدادي. لولا تنظيم «داعش» لما شهدت المنطقة مثل هذه «الصحوة» العراقية والإقليمية والدولية. كأن الصراع بين أهل «المشروعين» إياهما توقف فجأة بعد عقد أو أكثر من العبث بشؤون الإقليم وأهله وحروب مكوناته وطوائفه ومذاهبه وعرقياته وحدوده. ولادة «الدولة الإسلامية» في مساحة واسعة من بلاد الشام لم تكن حدثاً عادياً. لكنها لم تكن ولادة مفاجئة. لم يأتِ جنودها من عدم أو سقطوا فجأة من فضاء خارجي. لم يصطنعهم الأميركيون في أحد مختبرات أفلام هوليوود، كما نسب بعضهم زوراً إلى هيلاري كلينتون. ولم تخرجهم إيران من تحت عباءتها. ولم يطلقهم حلفاؤها في بغداد ودمشق من سجونهما. ولم يذخّرهم أهل الخليج ويخرجوهم من القمقم. هم صنيعة معظم هؤلاء. جاؤوا من كل هذه النواحي التي وفرت لهم الظروف والمقدمات والسياسات… والأرض والحواضن.
لم تكن إزاحة المالكي سهلة. بدت شبه مستحيلة. استغرقت وقتاً طويلاً. بدأت من سنتين وأكثر عندما بدأ حملاته على كل الجبهات، وعلى معظم القوى السياسية في العراق. استلزم إخراج رجل فرد من مكتبه في رئاسة الوزراء حشد الأضداد المتصارعين طاقاتهم وضغوطهم وكل أساليب الترهيب والترغيب! فكم سينتظر أهل الإقليم لإزاحة أبو بكر البغدادي؟ الكرة الصخرة الآن في ملعب حيدر العبادي الذي لاقى اختياره موجة ترحيب واسعة في الداخل والخارج. لكن الترحيب وحده لا يكفي سلاحاً لإسقاط دولة «داعش». لا الولايات المتحدة ولا حتى إيران ولا أي قوة أخرى تبدي حتى الآن استعداداً للموت دفاعاً عن العراقيين والسوريين. على هؤلاء إذاً، يقع عبء المنازلة الكبرى. نجح الرئيس باراك أوباما في تجاهل الحدث العراقي طوال شهرين. وعندما تقدم قرر أن يكون انخراط بلاده محدوداً كما بات معروفاً. وكذلك الأهداف: الدفاع عن الأميركيين المقيمين في أربيل، وحماية إقليم كردستان، ووقف حرب الإبادة التي تحوق بالأقليات. لن يتحرك أبعد من ذلك. ويشاركه الأوروبيون هذا الموقف. أما مسؤولية المجتمع الدولي فعبر عنها مجلس الأمن بقرار تحت البند السابع لقطع مصادر التمويل عن «داعش» و «جبهة النصرة»، ووقف تدفق المتطرفين إلى ساحات الشام. أي أن استخدام القوة وارد، إذا تطور الوضع، وتعاظمت هواجس الدول الغربية من عودة الإرهابيين الذين التحقوا بساحات القتال إلى أراضيها ومدنها. أما الآخرون من أهل المنطقة الذين تنفسوا الصعداء مع اختيار رئيس جديد للحكومة في بغداد بعدما هالهم الاجتياح البربري لمناطق شاسعة في العراق وسورية، فلا يملكون ترف الانتظار فيما العالم عازف عن التدخل الميداني المباشر، أقله في المدى المنظور.
عرف الرئيس الأميركي كيف يفرض شروطه على الجميع أمام هول ما حدث. رسم خطاً أحمر هذه المرة. حذر من التقدم نحو كردستان ونفذ وعيده. لم يعد في بغداد شريكاً ضعيفاً لإيران. وتصرفت هذه بتعقل. استجابت لرغبة شركائها من القوى الشيعية. واستجابت أولاً وأخيراً لرغبة المرجع الأعلى في النجف. ثمنت له هبته عندما أطلق النفير لمواجهة الهجمة البربرية. إلى كل ذلك وفرت على نفسها مزيداً من الخسائر سياسياً وميدانياً بسبب عناد زعيم «دولة القانون». وحدت من التصدعات التي أصابت بناءً صرفت عقداً في إنشائه ورعايته. فهل رضخت في ظل كل هذه الاعتبارات، أم أبدت طوعاً استعدادها لشق سياسة مختلفة تترجم رغبتها في الحوار ونهج خط أكثر توازناً وعقلانية؟
الجواب في جعبة الدكتور العبادي. فالرجل ليس بعيداً من طهران. هو زميل سلفه في حزب الدعوة. لكنه أعلن صراحة أنه سينتهج سياسة مختلفة داخلياً وخارجياً. يعرف أسباب الأزمة. ويعرف بدقة مستلزمات هذه السياسة التي يعد بها. وترجمتها ملحة لبدء الحملة المضادة لمواجهة «دولة الخلافة». المطلوب أولاً أن يخرج من «حزب الدعوة» ليقدم نفسه ممثلاً لجميع مواطنيه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وقواهم السياسية. عليه أن يلاقي سريعاً أهل السّنّة وقواهم السياسية وأبناء العشائر الذين باشروا سريعاً مواجهة الإرهابيين كبادرة حسن نية. وأعد له هؤلاء ورقة شاملة بمطالبهم. وهو يعرفها سلفاً منذ أن رفعها الحراك في المحافظات السنّية قبل سنتين. وفتح باب إلى مصالحة سياسية ووطنية حقيقية، تترجمه حكومة متوازنة لا تقصي أحداً، بل تشرك الجميع في القرارات المصيرية. وترسي توزيعاً عادلاً للوزارات السيادية. وهنا المحك الأساس كأن يحصل أهل الحراك على وزارة الداخلية إذا كان التحالف الشيعي لن يتخلى عن الدفاع والأجهزة الأخرى. وهنا، لا بد من إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية على أسس وطنية لا فئوية. أي لا يمكن تحويل الميليشيات التي استنهضها المالكي وغيره جيشاً بديلاً من الجيش الذي انهار وتقهقر أمام «داعش». ولا بد أيضاً من إعادة النظر في الدستور، خصوصاً قانون «اجتثاث البعث».
ولعل من مستلزمات «السياسة المختلفة» قيام لجنة تحقيق لفحص الأداء السياسي والعسكري وتحديد المسؤوليات عن الإخفاقات أمام تحدي «داعش» لأخذ الدروس والعبر ومحاسبة المسؤولين بدل الاكتفاء بالإشادة بمكرمة السيد المالكي وتنازله عن المطالبة بالعرش وما جرت على العراقيين من ويلات! فهل تقدم الحكومة المنتظرة على خطوة جريئة في هذا المجال لعلها تشجع اللبنانيين الذين يحتاجون أيضاً إلى مثل هذه اللجنة لفحص الأداء السياسي والعسكري بعد الامتحان «الداعشي» في عرسال. من بدهيات الواجب الوطني، خصوصاً في هذه الظروف، الوقوف إلى جانب المؤسسة العسكرية. لكن هذا الموقف يجب ألا يغيب السؤال عن نتائج ما حصل في عرسال. يتذكر اللبنانيون هذه الأيام نتائج «لجنة فينو غراد» الإسرائيلية بعد حرب تموز (يوليو) 2006، في ظل الجدل الدائر في تل أبيب عن لجنة مماثلة لفحص ما جرى ويجري في الحرب على قطاع غزة. ألا يستحق الحدثان الموصلي والعرسالي لجنة فحصٍ وتقصٍّ؟
التوافق الداخلي العراقي خطوة أساسية بالطبع، لكنها لن تكون كافية. لا بد من مواكبة إقليمية، وبالتحديد عربية – إيرانية – تركية. لن يتدخل مجلس الأمن غداً. ولن تنزلق الإدارة الأميركية، خصوصاً إلى مسرح العمليات بقوات على الأرض. ستترك أمر معالجة الأزمة للقوى الإقليمية الكبرى. هذا الموقف يتماشى مع السياسة الخارجية التي نهجها الرئيس أوباما منذ دخوله البيت الأبيض. أي أن يستعين بمثل هذه القوى لمواجهة أزماتها. وعزز هذه السياسة بتحول استراتيجي أعلنه في 2009. وأكده وزير خارجيته جون كيري في ختام جولته الأخيرة على آسيا. كرر لمن لم يقتنع بعد في الشرق الأوسط: «أن الولايات المتحدة بلد ينتمي إلى آسيا – المحيط الهادئ… نعلم أن أمن أميركا وازدهارها مرتبطان بالمنطقة ارتباطاً وثيقاً أكثر من أي يوم مضى». طوت واشنطن صفحة استراتيجية قديمة في المنطقة تماهت مع أولويات وسياسات كثير من الحكومات والقوى العربية. وليس انخراطها في حوار مع طهران سوى أحد أبرز تجليات هذا التحول. وهو ما أثار ويثير حفيظة حلفاء وشركاء ويفاقم الصراعات الإقليمية.
وآخر تجليات هذا التحول الصمتُ، بل «الحيادُ» الذي لزمته إدارة أوباما وهي تراقب الزلزال الموصلي وتمدد «الدولة الإسلامية» من الحدود مع إيران إلى الحدود مع تركيا عبر سورية، وحتى قلب عرسال اللبنانية. ودفعت بذلك الآخرين إلى إعادة النظر في حساباتهم واستراتيجياتهم. لا يمكنها أن تخوض حرباً واسعة على «داعش» في العراق وتتجاهل وجود التنظيم مع «جبهة النصرة» في سورية. سيكون عليها أن توسع حملتها إلى هذا البلد حيث أراضٍ واسعة تشكل جزءاً من دولة «الخليفة أبو بكر البغدادي». لكنها تدرك أن عناصر الأزمة في دمشق تختلف عنها في بغداد، وعناصر التسوية مختلفة تالياً. ومثلما تصرفت حيال الحدث الموصلي ودفعت أهل المنطقة والمجتمع الدولي إلى المشاركة فعلياً في مواجهة الإرهاب «الداعشي» في العراق، ستدفع كل هؤلاء إلى إكمال المهمة بشقها السوري. وهنا لا مفر ولا مناص أمامهم جميعاً من إعادة النظر في سياساتهم حيال الأزمة السورية. وإذا كان المالكي الضحية الأولى في الساحة العراقية، لئلا نتحدث عن التحولات المتوقعة وتبدل السياسات والمواقف، من هي الضحية الثانية في الساحة السورية؟ إلا إذا كان ما يصح في العراق لا يصح في غيره، أو أن الحرب على «داعش» ستقف عند حدود كردستان أو حدود العراق من دون غيره.
إن تخلي طهران عن المالكي مؤشر إلى إعادة تموضع. وفي السياق نفسه يمكن إدراج الموقف العنيف الذي شنه الرئيس حسن روحاني قبل أيام على خصومه في تيار المتشددين. استخدم خطاباً «نجادياً» غير مألوف. وصفهم بالأغبياء وذكرهم بأن الشعب الإيراني مل سياسة التطرف. ومؤشر آخر إلى اندفاع الرياض في خطوات عملية واسعة لمواجهة الإرهاب. ثم ترحيبها بالدكتور العبادي. إنها طليعة رسائل متبادلة على طريق بناء الثقة. وما لم تنتهِ إلى حوار بناء سيكون من الصعب تقويض «الدولة الإسلامية». أن تلتقي مصالح اللاعبين الإقليميين على مواجهة عدو مشترك قد يكون عاملاً مساعداً لحكومة بغداد لمواجهة «داعش». لكن هذا التلاقي لن يكون كافياً. التنظيم سيبقى ما دامت هناك حواضن في كل أرجاء الإقليم. تحتم المواجهة الشاملة للإرهاب تحولاً جذرياً في كل السياسات التي أدت إلى نشوء «داعش» و «النصرة». ولا شك في أن تسوية الأزمة في العراق سيؤشر إلى بداية انفراج إقليمي، مثلما يؤشر تقسيم بلاد الرافدين إلى انطلاق قطار التقسيم في كل المنطقة.
الحياة
“الخليفة” والأعشاب السامة/ غسان شربل
في جبل سنجار أحصت الإيزيدية المذعورة أفراد عائلتها. كسرت الحصيلة قلبها. من لم يصلوا معها لن يصلوا أبداً. فرت على عجل وتوهمت أنهم فعلوا. لم يصلوا. ابناها. وابنتها. تركتهم في عهدة «داعش». والتنظيم رقيق القلب. يحز رؤوس الكفار. أو يصلبهم. أو يدفنهم أحياء. تركتهم في عهدة «الخليفة». وهو يحب دولته نظيفة. ناصعة. وليس من عادته ترك الأعشاب السامة تقيم في حديقته.
بمن تستغيث الإيزيدية المذعورة؟ لن تنادي نبيل العربي لأن شركته أشهرت إفلاسها. ولن تنادي بان كي مون فهو لا يملك غير دموعه. لن تستجير بالجيش العراقي فقد تداعى أمام «داعش» وأهداه أفضل أسلحته. ولن تنادي البيشمركة فأسلحتهم أقل من حجم المعركة. لم يبق إلا جهة وحيدة. فتحت يديها وقالت: «أين أميركا؟ أين أوباما؟» .
جيمس الهارب من الموصل يغطي دموعه بغضبه. قال إن الموصل أرض أجداده وأجداد أجداده. وإن جذورهم عميقة هناك. وإن عواصف كثيرة عبرت ولم تسرق منهم سقف منزلهم والحديقة الصغيرة. تساءل كيف يحق لـ»أبو هريرة الأميركي» و»أبو أحمد البلجيكي» و»أبو بلال الأسترالي» أن يقتلعوه من أرضه. غاب عن باله أن «الخليفة» يُحب الموصل خالية من الأعشاب السامة. تزعجه الأجراس. وتغضبه الأديرة. وتستفزه المخطوطات. «الخليفة» حساس وصاحب مزاج. لا يطيق طائفة الشبك. ولا الروافض. وأخطر أعدائه سني معتدل يقول إن التعدد ثروة. وإن الإسلام دين التسامح. وإن فرض الزي الموحد جريمة.
لم يقل جيمس إنه يريد العودة إلى الموصل. قال إنه يريد ممراً إلى بلاد بعيدة. يريد الابتعاد عن «الخليفة» ودولته. يريد ممراً إلى الغربة. لهذا قال: «أين أميركا؟ أين أوباما؟».
«الخليفة» جدي لا يمزح. يحتقر الحدود الدولية. والدساتير. والقوانين الوضعية. والانتخابات. وحقوق الإنسان. والمجتمع المدني. وحق الاختلاف. في دولته لا يحق لك أن تشرب من نبع آخر. وأن يكون لك تراث. وأغنية. وكمان. وزي مخالف. وأمام كل هذه الأمراض يملك دواء وحيداً. الإعدام. اللون الآخر يعني عدم المبايعة. الاختلاف يعني التآمر. عدم التطابق يعني التهديد. إعدام.
من أين جاء «داعش»؟ كيف ولد وتحول وحشاً كاسراً؟ وخطراً وجودياً على الدول والمجموعات والأفراد؟ ومن أين هذه القدرات الهائلة؟ والبراعة في الإعلام؟ وإدارة معارك على مساحة آلاف الكيلومترات؟ وبيع النفط وتكديس الدولارات وتصنيع الانتحاريين والعبوات؟ من أين جاء هذا الوباء الأشد خطورة من ايبولا والأكثر قدرة على الانتشار؟.
من حق السيدة الإيزيدية أن تعتبر باراك أوباما مجرماً. سارع إلى الفرار بجنوده تاركاً العراق للموتورين عشاق الجثث المجهولة الهوية والاغتيالات. تناسى أن بلاده نفسها غزت العراق. وأن موظفاً تافهاً منها أمر بحل الجيش العراقي. تناسى المسؤولية الأخلاقية. أنقذ دم الأميركيين وتركنا في بحيرات الدم.
من حق أبناء عشيرة الشعيطات السورية الذين حصد «داعش» مئات منهم اعتبار أوباما مجرماً. تصرف بخفة وقلة مسؤولية في الحريق السوري. أوقع معارضي النظام في الآمال والأوهام. طالب رأس النظام أن يتنحى من دون التوقف عند طبيعة النظام وميزان القوى. وعد المعارضين بالدعم ثم راح يهرب من التزاماته. لم يدرك باكراً خطورة استباحة المقاتلين الأجانب المتشددين للأراضي السورية. لم يوظف ثقل بلاده لفرض حل واقعي. لو أخمد الحريق السوري باكراً لما أطل «داعش» ولما نجح «الخليفة» في اقتلاع الأعشاب السامة. الأسلحة التي بخل بها أوباما على المعارضة السورية وقعت في «الأيدي الخطأ» في العراق. ترسانة أميركية كاملة في تصرف «داعش» أظهرت فاعليتها ضد الأكراد وعلى الأرض السورية.
لا نريد التحامل على «الخليفة». منطقتنا منجم قساة قبل إطلالته. كان الديكتاتور يقتلع من يعارضه. ويقتلع معه عائلته وجيرانه. كان يُرعب الأقليات ليروضها. تبايعه فيمنحها حمايته.
«داعش» شيء آخر. لا يبغي ترويض المختلفين. يريد مسح ألوانهم مرة واحدة وإلى الأبد. لا يطيق منازلهم. ولا راياتهم. ولا نوافذهم. الأقليات أعشاب سامة. الأقليات خلايا نائمة. عيون أبنائها مفخخة. أحلامهم تقارير سرية في خدمة الأعداء. الحل هو الإعدام. والإعدام. والإعدام. الحل اقتلاع الأعشاب السامة.
يخطئ «الخليفة» حين يبالغ في الاحتفال بـ»فتوحاته». رمال هذه المنطقة متحركة ورجراجة وغدارة. لا يتسع المكان طويلاً للعواصف الوافدة من الكهوف. الدهر يومان.
الحياة
لماذا يُساعَد العراق والأكراد وليس سوريا؟ أميركا والغرب أمام افتضاح الإزدواجية مجدّداً/ روزانا بومنصف
بعد اشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية السلمية ضد النظام الذي انتقل بها سريعا الى مواجهة عسكرية عنيفة وكان التدخل الغربي في ليبيا من اجل الانتهاء من حكم معمر القذافي في اوجه، شعر المنتفضون السوريون وفق ما عبروا آنذاك بان التدخل الغربي لانقاذهم غير محتمل بناء على اعتقاد او اقتناع بانه لو كانت بلدهم تقوم اساسا على النفط كما هي الحال في ليبيا لكان تدخل الغرب مسرعا بذرائع مختلفة من اجل انهاء المواجهات القاتلة. ومع التطور الذي استجد اخيرا في العراق من خلال عودة التدخل الاميركي بتوجيه ضربات عسكرية او مساعدة الاكراد من اجل وقف تقدم تنظيم داعش نحو اربيل عاصمة كردستان العراقية، برز موضوع النفط مجددا والقلق من سيطرة التنظيم اكثر فاكثر على حقول النفط التي تعد من اكبر الحقول في العالم سببا من الاسباب التي دفعت الولايات المتحدة الى المبادرة الى توجيه ضربات عسكرية نوعية تزامنا مع استعداد الاتحاد الاوروبي للمساعدة، وهو لا يقل مصلحة في النفط الذي يبيعه الاكراد الى الدول الغربية عن مصلحة الاميركيين في هذا الاطار. وهذه الذريعة المتعلقة بالمصالح النفطية لم تبرز الى الواجهة في تبرير عودة التدخل الاميركي الذي ينسف كل منطق الرئيس الاميركي القاضي بالانسحاب من الازمات الخارجية وليس التدخل فيها، بل برزت الاعتبارات الانسانية المتصلة بتهجير داعش الاقليات المسيحية والايزيدية من مناطق سيطرتها، الامر الذي لا يمكن التهاون في شأنه. وهو تحديدا ما اثار تساؤلات عن اسباب مساعدة الغرب العراق والاكراد عسكريا وعدم مساعدة السوريين ان لجهة مواجهة توسع تنظيم داعش او لجهة الضغوط التي مورست من اجل الاتيان ببديل من نوري المالكي. بدا السوريون على هذا الصعيد اقل حظا من ليبيا على رغم غرق الاخيرة في الفوضى واقل حظا من العراق ايضا بغض النظر عما قد تؤول اليه الامور فيه والذي يشكك كثر في امكان نجاحه لاعتبارات مختلفة. لكن من السذاجة الاعتقاد في الوقت نفسه ان الاسباب الانسانية او الاخلاقية هي التي تحرك الدول فقط في اتجاه التدخل في منطقة ما وليس مصالحها ايا كان نوعها حين تلتقي مع الاعتبارات المذكورة كما كانت حال فرنسا في التدخل في مالي مثلا في احدث الامثلة على ذلك او كما قيادتها التدخل في ليبيا ايضا.
مساعدة الولايات المتحدة للاكراد العراقيين عبر التدخل العسكري ضد داعش ابرزت تناقضاً جوهرياً كبيراً في المنطق الذي استخدمه الرئيس الاميركي باراك اوباما في تبرير الامتناع عن توجيه ضربة عسكرية الى النظام السوري ردا على استخدامه السلاح الكيميائي ضد شعبه وفق ما يرى مراقبون ديبلوماسيون. فهو كرر في الاسابيع والاشهر القليلة التي تلت احجامه عن توجيه الضربة نتيجة تجاوز بشار الاسد خطاً أحمر كان وضعه الرئيس الاميركي نفسه لاستخدام السلاح الكيميائي “ان قدرات الولايات المتحدة لها حدود. واظن انه غير صحيح الاعتقاد باننا كنا في موقف نستطيع فيه من خلال توجيه ضربات محددة الاهداف ان نمنع حصول ما نراه اليوم حاصلا في سوريا “. وهو ربط فاعلية الضربات المحددة ونجاحها بانها “ما كانت لتفيد كثيرا ما لم يتورط الجيش الاميركي في تدخل عسكري طويل الامد في هذا البلد”. ولقيت تبريراته ولا تزال انتقادات كبيرة من خبراء سياسيين في الولايات المتحدة لانه جعل الامر يبدو وكأنه لا يمكن النجاح من دون انخراط فعلي على الارض وهو ما كان يسعى الى التجاوب في شأنه مع المزاج الاميركي الرافض لاي انخراط عسكري مباشر وكبير للقوات الاميركية في حروب خارجية، في حين ان انخراطا من هذا النوع لم يطرح في اي مرحلة.
ما تقوم به الولايات المتحدة في العراق وفي مساعدة الاكراد يسقط تبريرات الرئيس الاميركي ويظهر انه كان يمكن الولايات المتحدة ان توجه ضربات نوعية محددة من اجل تغيير منحى الامور في سوريا وانها تملك القدرة على تغيير اتجاه المد العسكري لو انها ارادت او لو ان مصالحها لم تتأمن بالاتفاق الذي اقترحته روسيا وقضى بنزع الاسلحة الكيميائية لدى النظام وتعاونه في تسليمها. والسيناريو الذي اعتمدته مع الاكراد كان ليصح مع معارضين سوريين اوفدت لهم واشنطن مستشارين عسكريين كما قالت انها اوفدت راهنا الى اربيل من اجل مساعدة الاكراد.
يقول المراقبون انه اذا صحت التبريرات القاضية بدحر داعش وضربها فان السؤال الذي يطرح هو ما اذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لتنفيذ عمليات مماثلة ضد هذا التنظيم في سوريا انطلاقا من ان المنطق نفسه ينسحب على البلدين الجارين علما ان اقتصار التبريرات على العراق محرج للغرب عموما ما دامت المبررات هي نفسها مع اختلاف تعاون ايران في العراق راهنا وعدم تعاونها في سوريا في اي مرحلة بعد. وقد عمد رئيس الائتلاف الوطني السوري الى مطالبة الولايات المتحدة بالتدخل في سوريا كما تدخلت في العراق من اجل انقاذه من التنظيم الارهابي داعش معتبرا ان عدم رحيل النظام يعني مزيدا من الارهاب، في الوقت الذي اعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الاستعداد للتعاون مع ايران ايضا في مواجهة تنظيم ما يسمى الدولة الاسلامية جنبا الى جنب مع التعاون مع الدول العربية.
هل تريد أمريكا القضاء على «داعش»؟
ترافق قرار مجلس الأمن ضد تنظيمي «داعش» و»جبهة النصرة» تحت الفصل السابع، مع قرار الاتحاد الأوروبي «تسليح الأكراد»، تبعه هجوم كردي بدعم جوّي أمريكي، كما تحدثت أنباء عن طلب الائتلاف السوري المعارض من الولايات المتحدة الأمريكية ضرب «داعش» داخل سوريا، وقد بدأت أمس طائرات حربية تحدث البعض عن أنها أمريكية بالهجوم على مواقع التنظيم المذكور في الرقة.
والقرار الأخير هو الثاني بعد قرار سابق وافقت فيه روسيا والصين على إدخال المساعدات للنازحين في سوريا، مما قد يؤشر الى تغيّر ما في الموقفين الروسي والصيني، على خلفية التقدّم العسكري الكبير الذي حققه تنظيم «داعش» داخل سوريا والعراق.
في المقابل تقوم روسيا بالتصعيد المدروس على جبهة أوكرانيا، وهو ما يدفع الحكومة الأوكرانية وحلفاءها الغربيين شيئاً فشيئاً نحو زاوية مظلمة يتردد «حلف الناتو» كثيرا قبل دخولها، فبعد قرار إدخال قافلة «مساعدات» كبيرة الى مناطق النزاع شرق أوكرانيا من دون موافقة الحكومة الأوكرانية او الغرب، جاءت أخبار أمس عن مدّ موسكو حلفاءها الإنفصاليين في أوكرانيا بطاريات صواريخ غراد إضافة الى إعلان هؤلاء عن إسقاط طائرة اوكرانية.
تبدو الرسالة غير المعلنة هي تأكيد التصلّب الروسي في أوكرانيا مقابل خطوات تراجع تكتيكية في الموضوع السوري، لكن الأدقّ القول أن روسيا تجد فائدة في تصدّي واشنطن لـ «داعش» في سوريا والعراق، فهي تعتبر الحكومتين في بغداد ودمشق حليفتين، وبالتالي فأمريكا تتدخّل، عملياً، في اتجاه لا يضرّ المصلحة الاستراتيجية الروسية، بل إن موسكو يسرّها بالتأكيد إعادة التورّط الأمريكي في العراق، وهو التدخّل الذي قلب المعادلة العالمية، بكلفته البشرية والمادية الباهظة لأمريكا، وبمنافعه الجلّى السياسية والمادية (مع ارتفاع أسعار النفط والانشغال الأمريكي عن الصعود المندفع للروس) على روسيا.
على الصعيد العربيّ تعمل المملكة العربية السعودية، من خلال حلفها المرتقب مع مصر السيسي، على إعادة رصّ الصفوف العربية وراء ما تعتبره الخطر الأكبر القادم عليها، أي تنظيم «داعش» وأخواته، وهو ما فهمه النظامان الإيراني والسوري، فسحة تكتيكية للحركة المشتركة لمواجهة «داعش»، بحيث لا يعود مهمّاً تبيان إن كان ضرب مواقع «الدولة الإسلامية» في الرقة وريف حلب، بطائرات سوخوي وميغ أم «إف 16».
تعكس السياسة الأمريكية الخارجية حالياً تقبّلاً لمنطق الغلبة الأمنية الذي فرضه المدّ المعارض للثورات، وخصوصاً في مصر، وابتعاداً عن النموذج المعتدل التركيّ (والتونسيّ الى حد ما)، لصالح سيادة «الدولة العميقة» والأنظمة التقليدية.
لكنّ الشيء الوحيد الذي لا يريد أحد الإعتراف به في موضوع «داعش» وأخواتها، هو أن غارات أمريكا، وحتى الهجمات الرديفة من الميليشيات الشيعية، ناهيك عن الحلف العربي الهزيل ضد «الإرهاب»، تصبّ كلّها النار على زيت المنطقة المشتعل، وتوسّع أكثر فأكثر الأسباب التي أطلقت «داعش» أصلاً وتعطي التنظيم أو أشباهه طاقة للتوالد والتكاثر والتوسع، لا العكس.
الحل العسكريّ ممكن لإسقاط أنظمة وكسر جيوش تقليدية، أما مع ظاهرة مثل «الدولة الإسلامية» فلا حلّ حقيقياً إلا بالعمل الدؤوب على أسباب نشوء الإرهاب، والأمثلة على ذلك كثيرة، بدءاً من أفغانستان أثناء الحكم الروسي، حيث انحسرت هجومات الأفغانيين على الروس مع انسحابهم، مروراً بالعراق نفسه، حين قدّمت للمكوّن السنّي خيارات المشاركة السياسية والأمنية، فتراجع تنظيم «القاعدة» (كما كان يعرف آنذاك) تراجعاً كبيراً، ووصولاً إلى أيرلندا (للتذكير بأن الإرهاب ليس خاصة بيولوجية بالمسلمين)، وصربيا وكرواتيا.
المجتمع الدولي، وعلى رأسه أمريكا وأوروبا وروسيا، والعالم العربي، لا يبديان إشارات الى أي رغبة بمعالجة الخلل الوجوديّ الكبير في هذه الجغرافيا الواسعة، من اليمن الى ليبيا، ولكن خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان… وفلسطين، وهو ما سيعيد إنتاج الأزمات ولكن على نطاق أكبر.
مواجهة «داعش» من دون معالجة أسبابه كفيلة بإعطائه رخصة أطول للحياة، ولعلّ ذلك أمر مقصود؟
القدس العربي
طائف عربي” بديلاً عن ثنائية الاستبداد والتخلف/ سعد كيوان
النار تلتهم العراق وسورية ولبنان (وغزة)، وإن بدرجاتٍ متفاوتةٍ في فظاعتها، وليس في دمارها. نار أصولية، إرهابية، وإنما، أيضاً، وبالأخص فتنوية، مذهبية وعرقية، همجية وقروسطية، تدمر السياسة والاقتصاد، وتقتلع المجتمعات والفرد-الإنسان والحياة البشرية، أين منها عصور الجاهلية، وغزوات تيمورلنك! نار تفتك بهذا الشرق العربي والإسلامي وتحوله إلى ركام، إلى جيف نتنة، إلى لا حياة، إلى عدم. وما أكثر عشاق الموت و”المجاهدين” في سبيل أن ينتصر الموت.
وحدهم الديكتاتوريون والمستبدون والجلادون، وعشاق السلطة ومغتصبوها، يعيشون في الماضي قابعين على كراسيهم، يتلذذون بمن أحالوهم جثثاً على طول هذه الرقعة الجغرافية وعرضها، في هذا اللامكان من العالم المتحضر. بشار الأسد ونوري المالكي وحسن نصر الله، وداعش و”النصرة” والقاعدة وحزب الله، أوجه متعددة لعملة واحدة.
فهل من سبيلٍ إلى إعادة الحياة الطبيعية، قبل التفكير في النظم والقوانين والآليات؟ هل من سبيلٍ إلى العيش والتعايش بأمان وسلام، بعيداً عن الأيديولوجيات والمعتقدات والموروثات على أنواعها، بعيداً عن المصالح والحسابات الضيقة؟ هل من سبيل للإفلات من كماشة “ثنائية الاستبداد والتخلف” التي تمسك بخناق شعوب هذه المنطقة منذ عقود؟ وهل من سبيلٍ إلى الخروج من مفهوم وعقلية “الأمة” والعقل الجمعي، والتعامل مع البشر بصفتهم أفراد، يحترم أحدهم الآخر، ويتقبله، ويتعامل معه كما هو، من دون أن يحاول فرض إرادته ونزواته عليه؟
نحاول، هنا، في هذه العجالة، أن نطرح فكرة “بسيطة”، علها تساهم في إطفاء هذا الحريق، وتشكل أساساً، وتضع إطارا للعيش أفراداً ومواطنين، في مجتمعات تحترم التعدد الثقافي والتنوع الطائفي والمذهبي، وتصون حقوق الجميع، وفي مقدمها حرية التعبير والمعتقد.
فكرة تبناها لبنان، المتعدد ثقافياً وطائفياً ومذهبياً (18 مذهب)، والذي يتمتع، في الأساس، بنظام ديموقراطي برلماني، غير مثالي بطبيعة الحال، وتشوبه عيوب كثيرة، إلا أنه يحافظ على مناخٍ من الحرية، وعلى التعايش بين مكوناته، بعد أن عرف وخبر ضروب الحروب والاقتتال.
ففي نهاية عام 1989، تمكن لبنان من طي صفحة الحرب، بالتوصل إلى ما يعرف بـ”اتفاق الطائف” (مدينة سعودية)، والذي أفضى إلى تخطي مسألة “التنافس الديموغرافي” (العدد) بين المسيحيين والمسلمين.
وأرسى قواعد المساواة، عبر المناصفة في التمثيل في البرلمان المنتخب مباشرة من المواطنين، وكذلك في مؤسسات الدولة وإداراتها، وثبّت (من خارج النص) طائفية المواقع الرئيسية الثلاث في البلاد، بين رئيس الجمهورية المسيحي، ورئيس البرلمان الشيعي، ورئيس الحكومة السني. كما أقر إنشاء مجلس شيوخٍ، يتم انتخابه من ممثلي الطوائف مباشرة.
عندها، يصبح التمثيل البرلماني على أساس غير طائفي. وهذا يعني أن “اتفاق الطائف” يعتبر أن الطوائف مصدر غنى وتنوع، ويجب المحافظة عليها، وصون حقوقها كطوائف، وليس كأحزاب، أو كتل سياسية بطبيعة الحال، فيما يبقى الأفراد أحراراً، في آرائهم وخياراتهم.
إلا أن هذه الصيغة الفريدة والحضارية، والتي لم تطبق بعد، بشكل كامل وسليم، في لبنان، هي، بطبيعة الحال، نقيض لكل ما هو سائد حالياً في المنطقة، فيما يعمل “اللاعبون الكبار”، منذ سنوات، على تقويض الدول القائمة، وتدمير أي صيغة تعايش وتفاهم بين مكوناتها.
إذ إن طرفي الصراع، الولايات المتحدة وإيران الملالي، يسعيان إلى السيطرة على هذه الدول الهشة، ويعملان على تفتيتها وتحويلها إلى كيانات طائفية “متجانسة”، وإلى بسط سيطرة القبائل (عرقية أو مذهبية، لا فرق)، المتناحرة فيما بينها، كما هو حاصل في العراق، وكما يبدو أنه سيحصل في سورية.
وهذا “الخليفة الجديد”، أبو بكر البغدادي، تمكن بقدرة قادر من الهروب من المعتقل الأميركي، ليصبح “الأمير المتوج” لتنظيم داعش الذي تمكن، في أشهر قليلة، من السيطرة على نصف العراق، والزحف نحو بغداد.
وهذا المالكي، رجل الحرس الثوري الإيراني الذي تحول إلى ما يشبه صدام حسين جديد، شن حرباً بلا هوادة على السنّة، ودفع بكثيرين منهم الى أحضان داعش. وهذا الأسد، ربيب طهران، يمارس عملية إبادة جماعية، ويستعمل السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري الذي شُرّد بالملايين في دول الجوار.
وما عجز عنه المالكي والأسد يقوم به الآن داعش الذي يريد أن يفرض نظام “الخلافة”، ويعيد شعوب المنطقة إلى مجاهل القرون الوسطى، إلى الجهل والتخلف، والقضاء على حضارة العرب الغابرة، وعلى أي فكرة للحياة والعيش الكريم.
اليوم، أصبح نوري المالكي وحيداً، تخلى عنه أسياده في طهران، بعد أن أصبح يشكل عبئأ عليهم، وكذلك الولايات المتحدة. فهل سيأتي دور الأسد، ومتى؟ أم أن داعش يشكل بديلاً للاثنين في حسابات الكبار، طالما أن مهمة تفكيك الدول، والقضاء على “الربيع العربي”، أي على طموحات الشعوب وإرادتها في الحرية والعيش الكريم، لم تنته بعد؟
لا بديل عن “طائف عربي”، من أجل أن يستعيد الإنسان في هذا الشرق حريته، وحقه في تقرير مصيره.
العربي الجديد
“داعش”…. الوليد غير الشرعي لـ”القاعدة” يواجه “الانتحار” السريع
دمشق ـ الأناضول ـ بعد 16 شهراً على إعلان ولادته رغم رفض التنظيم الأم “القاعدة” الذي يحمل فكره وإيديولوجيته، استطاع تنظيم “الدولة الإسلامية” السيطرة على حوالي نصف مساحة العراق وثلث مساحة سوريا، ليتحول إلى مصدر تهديد ورعب حقيقي على المستويين الإقليمي والدولي.
إلا أن بعض المراقبين والمتتبعين لمسيرة التنظيم الوليد، يرون أن تمدده الكبير والذي اعتمده شعاراً واستراتيجية خلال تلك الفترة القصيرة نسبياً، بالإضافة إلى كثرة خصومه واتساع التحالف الدولي المعارض له، وحالة الغرور بقوته وإمكاناته التي تعتريه، ينذرون جميعا بأنه يتوجه حتماً نحو “الانتحار” السريع.
– النشأة:
أعلن أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم ما كان يسمى “الدولة الإسلامية في العراق”، الذي نشأ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 كفرع لتنظيم القاعدة، في تسجيل صوتي له أبريل/ نيسان 2013 أن جبهة “النصرة” في سوريا هي جزء من التنظيم الناشط في العراق.
وأوضح البغدادي أن الهدف من هذا الضم هو إقامة دولة إسلامية في سوريا والعراق، وإعلان إقامة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو ما عرف إعلامياً وقتها بـ”داعش”.
فيما أعلن أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة، في اليوم التالي للإعلان المذكور مبايعته لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، ورفض قرار البغدادي، الأمر الذي تطور بين الرجلين إلى اشتباكات مسلحة بين تنظيميهما ما تزال مستمرة منذ نهاية العام الماضي، وأدت لمقتل المئات من الجانبين.
ولم تكن جبهة النصرة معروفة قبل بدء الاحتجاجات في سوريا في مارس/ آذار 2011، لكنها برزت كقوة قتالية ميدانية مع تبنيها تفجيرات استهدفت مراكز عسكرية وأمنية للنظام في الشهور الأولى للاحتجاجات.
الظواهري بدوره رفض قرار البغدادي بإعلان “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ودعاه في تسجيلات صوتية بهذا الخصوص كان آخرها مايو/أيار الماضي إلى التفرغ لما وصفه بـ”العراق الجريح”، والعودة إلى الأمير(الظواهري) بـ”السمع والطاعة”، وهو ما رفضه التنظيم الجديد سريعاً وشن هجوماً على الظواهري وطالبه بمبايعة البغدادي كأمير، وذلك في تسجيل لأبو محمد العدناني، الناطق باسم التنظيم.
ومع تنامي قوة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” وسيطرته على نحو نصف مساحة العراق وثلث مساحة سوريا، أعلن العدناني، نهاية يونيو/حزيران الماضي، عن تأسيس “دولة الخلافة”، في المناطق التي يتواجد فيها التنظيم في البلدين الجارين، وكذلك مبايعة زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي “خليفة للمسلمين” بعد مبايعته من قبل مجلس شورى التنظيم، وذلك بحسب تسجيل صوتي منسوب له بثته مواقع جهادية.
ودعا العدناني باقي التنظيمات الإسلامية في شتى أنحاء العالم لمبايعة “الدولة الإسلامية”، بعد شطب اسم العراق والشام من اسمه.
– مناطق السيطرة:-
يسيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق على معظم مساحة محافظة نينوى (شمال) التي سيطر عليها مع حلفائه من المقاتلين السنة في العاشر من يونيو/حزيران الماضي، وذلك بعد انسحاب قوات الجيش العراقي منها بدون مقاومة تاركين كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد.
كما سيطر أيضاً في الوقت نفسه، على مناطق واسعة في محافظة صلاح الدين (شمال) وخاصة مركزها مدينة تكريت وبدأ بتهديد بلدة سامراء ذات المكانة الدينية لدى الشيعة والاستراتيجية لقربها من بغداد، وأيضاً مناطق في محافظة ديالى (شرق) حيث سيطر مؤخراً على ناحية “جلولاء” القريبة من الحدود الإيرانية وأيضاً على أجزاء من محافظة كركوك(شمال) الغنية بالنفط.
وقبلها بأشهر سيطر “الدولة الإسلامية” والمتحالفون السنة على مدن بمحافظة الأنبار(غرب) الحدودية مع سوريا وأكبر محافظات العراق مساحة.
أما في سوريا فيسيطر “الدولة الإسلامية” على محافظة الرقة(شمال) بشكل شبه كامل منذ نحو عام والتي تعد المعقل الأساسي للتنظيم في البلاد، في حين سيطر مؤخراً على معظم مساحة محافظة دير الزور(شرق) الغنية بالنفط والتي تمتلك امتداداً جغرافياً مع المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في العراق، ويسيطر التنظيم أيضاً على مناطق في الريف الشمالي لمحافظة حلب(شمال) ويسعى للسيطرة على مناطق أوسع فيها.
– المرجعيات الإيديولوجية:-
لا توجد مرجعية فكرية أو دينية معلومة أو يعلن عنها تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أن بعض الباحثين في شؤون الجماعات الإسلامية، يرون أنه “يتبع الفكر السلفي الجهادي، كوسيلة وحيدة للتغيير، وبناء الدولة الإسلامية التي تطبق فيها تعاليم وأحكام الشريعة، ويسعى التنظيم لتطبيق ذلك بطريقة متشددة وبفرض العقاب وإقامة الحدود على من يخالفها عن طريق المحاكم الشرعية التي ينشئها”.
وأعربت العديد من المؤسسات الدينية الإسلامية كالأزهر والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين غير الحكوميتين وغيرهما، عن عدم اتفاقها ورفضها للمنهج الذي يتبعه التنظيم في تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية وتكفير الآخرين وتطبيق الحدود، حيث وصفته بعض تلك المؤسسات في بيانات أصدرتها مؤخراً بـ”الكيان الشيطاني.. التتار الجدد.. أعداء الإسلام.. خوارج العصر.. صنيعة المخابرات”.
– العقيدة القتالية:-
يعتمد تنظيم “الدولة الإسلامية” في معاركه التي يخوضها ضد خصومه في كل من سوريا والعراق على أسلوب فرض الرعب على الطرف الآخر، متخذا من “الانغماسيين” و”الذبِّيحة” ذراعين أساسيتين لتحقيق هذا الأسلوب.
ويحاول التنظيم الذي يقول مراقبون إن عدد مقاتليه لا يتجاوز 15 ألف عنصر دون عدد المتحالفين معه، تعويض النقص العددي لديه مقارنة بخصومه، حيث يعمل على تصوير مقاتليه على أنهم مستعدون للموت عبر القيام بما يسميها “عمليات استشهادية” ينفذها “الانغماسيون” ضد الأعداء.
كما يلّوح لأعدائه أيضاً بأن مصيرهم يتعدى الموت في المعارك معه، وإنما سيواجهون الذبح وقطع الرؤوس الذي ينفذه بعض العناصر المتخصصين لديه والذين يلقبهم العوام في كل من سوريا والعراق بـ”الذبِّيحة” بتشديد الباء وكسرها، بحسب المفردة العامية هناك التي تدل على كثرة القتل ذبحاً.
ويختلف “الانغماسيون” عن “الاستشهاديين” أو “الانتحاريين” كونه لا يشترط أن ينفذ “الانغماسي” عملية استشهادية أو انتحارية تودي بحياته، وحصل عدة مرات أن قام “انغماسيون” بقيادة عربة ملغومة إلى هدف تابع للعدو وتفجيرها عن بعد، بعد تمكنه من الانسحاب منها عقب ركنها في المنطقة المستهدفة، وذلك للقيام بعملية أخرى، بحسب ما صرّح عدد منهم في مقاطع الفيديو التي بثها تنظيم “الدولة الإسلامية” لتوثيق عملياته.
-الرايات والشعارات:-
يرفع عناصر التنظيم راية تنظيم القاعدة (العلم الأسود المكتوب عليه باللون الأبيض عبارة، لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ويطلق عناصره، وغالبيتهم من غير السوريين، هتافات إثر كل معركة أو انتصار يحققونه على قوات الأعداء مثل “قائدنا للأبد سيدنا محمد” و”الله أكبر” التي تتعالى بها أصواتهم أيضاً خلال الاشتباكات.
كما يرفع مقاتلو “الدولة الإسلامية” وأنصاره عبارة “باقية وتتمدد” شعاراً للتعبير عن فكر “دولتهم الإسلامية” التوسعي والتي تتعدى حدودها حدود سوريا والعراق، وكذلك بقائها على الرغم من معارضة خصومها وأعدائها الكثر.
– الأعداء والخصوم:-
يتخذ التنظيم كل من يخالفه في العقيدة خصماً له ويعتبره “مرتداً” وعقوبته القتل، ولا يقتصر إطلاق “الردة” على المسيحيين أو اليهود أو الإيزيديين وغيرها من الطوائف، وإنما يسبغ التنظيم هذا الحكم حتى على المسلمين من الشيعة وحتى السنة ممن لا يتبعون التعاليم التي يراها التنظيم أنها هي التعاليم الصحيحة والحقيقية للدين.
أما بالنسبة لأعداء التنظيم فإن الأخير يقاتل في العراق كل من الجيش العراقي والميليشيات الطائفية الموالية للأخير وقوات البيشمركة (جيش إقليم شمال العراق) وقوات عشائرية مناهضة للتنظيم، إضافة إلى مسلحين محليين ممن يرفضون سيطرة التنظيم على مناطقهم وآخرين متوحدين دينياً أو عرقياً مثل الإيزيديين والتركمان وغيرهم.
وتلقى كل تلك القوات دعماً لوجستياً أمريكياً وغربياً في مواجهة التنظيم خاصة بعد سيطرته قبل أسابيع، ،على مناطق قريبة من أربيل عاصمة إقليم شمال العراق، كما دخلت إلى معادلة الصراع المباشر ضد “الدولة الإسلامية” مؤخراً وبشكل محدود، القوات الأمريكية حيث أمر الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل أكثر من أسبوع بشن ضربات جوية ضد أهداف للتنظيم شمالي العراق بعد تهديده “المصالح الأمريكية وإقليم شمال العراق المستقر”، وكذلك “استهدافه للأقليات”.
أما في سوريا، فيقاتل التنظيم كلاً من جيش النظام والميليشيات الشيعية الموالية له، إضافة إلى قوات الدفاع الوطني(ميليشيات مسلحة غير نظامية)، إلى جانب حزب الله اللبناني الذي يقاتل إلى جانب النظام في عدد من المناطق السورية.
وإلى جانب هؤلاء يقاتل التنظيم قوات المعارضة من جيش حر وفصائل إسلامية معارضة للنظام مثل الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة وغيرهما، فضلاً عن ميليشيات كردية في بعض المناطق التي تسيطر عليها تلك الميليشيات شمالي البلاد.
-القيادة والتنظيم:-
لـ”الدولة الإسلامية” هيكل تنظيمي يرأسه زعيم التنظيم “الخليفة” أبو بكر البغدادي إضافة إلى أمراء للمناطق ومجالس شورى المجاهدين، إضافة إلى قيادات ميدانية، إلا أن تلك الأمور التنظيمية يكتنفها سرية تامة، في حين يشير باحثون في الشؤون الإسلامية إلى أن تبعية قادة “الدولة الإسلامية” في سوريا تعود لأمراء التنظيم في العراق.
أما “الخليفة” أبو بكر البغدادي واسمه الحقيقي “ابراهيم بن عواد”، فهو من مواليد مدينة سامراء ويبلغ من العمر 43 عاماً، وتولى منصبه كزعيم لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” بعد مقتل زعيمه السابق أبو عمر البغدادي عام 2010 بقصف جوي أمريكي، وذلك بحسب ما يعرف به التنظيم وما تذكره مواقع مقربة منه.
وتذكر المواقع المقربة من التنظيم على شبكات التواصل الاجتماعي، أن البغدادي تتلمذ على يد أبو مصعب الزرقاوي (أردني الجنسية) الزعيم السابق لتنظيم القاعدة في العراق الذي قتل في قصف أمريكي عام 2006، واعتقل من قبل القوات الأمريكية في العراق لمدة أربع سنوات قبل إطلاق سراحه عام 2009.
وأظهر البغدادي تمرده على قرارات زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، خاصة بعد اعتراض الأخير على قرار البغدادي بإعلان “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
ويدين التنظيم للبغدادي بتحقيق أكبر مساحة توسع منذ تأسيس تنظيم القاعدة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
الأذرع الإعلامية:-
على الرغم من الاتهامات التي تواجه التنظيم بالتشدد والتضييق على عمل وسائل الإعلام واعتبار بعض من يعمل فيها “مرتداً” ما لم “يبايع الدولة الإسلامية”، إلا أنه يمتلك آلة إعلامية متقدمة إلى حد كبير.
حيث أصدر التنظيم مؤخراً صحيفة رسمية ناطقة باسمه باللغتين العربية والإنكليزية تحت اسم “دابق”، إضافة إلى اعتزامه إصدار صحيفة أخرى مماثلة باسم “خلافة2″، بحسب بيانات أصدرها على صفحاته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعمل الصحيفتين على نقل أفكار التنظيم والتعريف بـ”دولة الخلافة” التي أعلنها مؤخراً.
كما أطلق التنظيم مؤخراً عدداً من الإذاعات المحلية باسمه تبث في المناطق الخاضعة لسيطرته في كل من سوريا والعراق مثل “البيان”، كما يملك التنظيم ما يسميها مؤسسات إعلامية ناطقة باسمه أبرزها “مؤسسة الفرقان”، وأيضاً يمتلك صفحات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي يخصص كل واحدة منها لكل “ولاية” وينشر عليها صوراً وفيديوات لما يسميها “تغطيات” إعلامية لنشاطاته والمعارك التي يخضوها مقاتلوه، وذلك عن طريق المكاتب الإعلامية التي ينشئها بكل ولاية.
– مصادر التمويل:-
في بداية نشأته اعتمد التنظيم على التمويل الخارجي، إلا أنه لا يعلن عادة عن مصادر ذلك التمويل، كما لا تعلن تلك المصادر عن تقديمها الدعم له خوفاً من العقوبات الدولية عليها خاصة أنه موضوع على لوائح “الإرهاب الدولية”.
إلا أنه خلال الفترة الماضية بدأ بالاعتماد على موارد ذاتية بعد سيطرته على حقول وآبار للنفط والغاز في كل من سوريا والعراق، وقيامه ببيع كميات منها عن طريق مهربين إلى بعض دول الجوار.
– العدد والعتاد:-
يرى متخصصون في شؤون الجماعات الإسلامية أن عدد مقاتلي “الدولة الإسلامية” لا يتجاوز 15 ألف مقاتل، أكثر من 80% منهم من جنسيات غير سورية أو عراقية، غالبيتهم حسب ما يعلن التنظيم من الشيشان والسعودية والأردن ودول المغرب العربي ومصر وليبيا وغيرها.
وهذا العدد مرجح للتزايد بسرعة بعد حملة المبايعات الكبيرة للتنظيم خاصة من بعض فصائل المعارضة المسلحة شرقي سوريا، وإعلان “دولة الخلافة” التي تستقطب مهاجرين إليها تلبية لدعوات أطلقها التنظيم.
أما بالنسبة للسلاح والعتاد فيمتلك التنظيم أسلحة ثقيلة ونوعية تصل إلى صواريخ بالستية من طراز “سكود” التي استعرض واحداً منها قبل فترة في شوارع مدينة الرقة شمالي سوريا استولى عليها من بعض مواقع النظام العسكرية التي سيطر عليها.
إضافة إلى مدافع ثقيلة ودبابات وعربات مصفحة أمريكية بكميات كبيرة استولى عليها من المواقع والفرق العسكرية التي فر منها الجيش العراقي قبل شهرين، وكذلك عربات ودبابات روسية الصنع التي كان يمتلكها النظام السوري قبل أن يستولي عليها مقاتلو التنظيم من بعض فرقه العسكرية التي سيطروا عليها.
ويعتمد مقاتلو التنظيم بالشكل الأبرز على القواذف الصاروخية (آر بي جي) وقذائف الهاون بعياراتها المختلفة فضلاً عن الأسلحة الفردية مثل بنادق “الكلاشينكوف” الروسية والرشاشات المتوسطة والثقيلة المثبتة على العربات رباعية الدفع، وذلك في معاركه ضد أعدائه على الجانبين السوري والعراقي.
– احتمال الانتحار:-
يرى مراقبون لمسيرة “الدولة الإسلامية” أن التوسع السريع لمناطق سيطرة التنظيم وانتشار مقاتليه فيها، وكثرة الخصوم والأعداء الذين يقاتلهم في نفس الوقت بكل من سوريا والعراق، والدعم الأمريكي والدولي لأولئك لوجستياً وعسكرياً، مع إثارة التنظيم نقمة سكان المناطق التي يسيطر عليها بقيامه بتطبيق الحدود الشرعية من جلد ورجم وذبح وقطع للرؤوس، وبدء “انتفاضات” شعبية مسلحة ضده خاصة في شرق سوريا، يوحي ذلك أن “دولة الخلافة” تتجه نحو “الانتحار” والزوال السريع بشكل يشابه نشأتها و”تمددها” السريع، في الوقت الذي لا يؤمن مقاتلو التنظيم بذلك ويصرون على أنها “باقية”.
القدس العربي
العراق: العبادي بعد المالكي.. ثم ماذا؟/ عبد الوهاب بدرخان
ليس هناك أكثر وضوحاً مما شاهدناه الأسبوع الماضي في العراق. عودة قوية للتفاهم الأميركي- الإيراني على شخصية رئيس الوزراء المقبل. وهي تثير تساؤلات كثيرة من أهمها: هل كان هذا التفاهم يقتصر حصرياً على الشخص من دون السياسات، وهل أن تجديده يشمل شخص حيدر العبادي والسياسات المتوقعة منه؟
بالنظر إلى تجربة نوري المالكي وتداعياتها الكارثية على بنية النظام العراقي، وطالما أن الجميع يعرف أن واشنطن وطهران هما اللتان تنصّبان رئيس الوزراء، لذلك يُفترض ألّا يبقى «تفاهمهما» سرّياً تُنسج حوله التأويلات والتكهّنات، بل يُستحسن ويتوجب أن يكون شفافاً وعلنيّاً. فهما دولتان مهمّتان دولياً وإقليمياً ولا يمكن الاعتقاد بأن تفاهمهما يتعلّق بمَن يكون في هذا المنصب وليس – أيضاً – بماذا يريد فلان أو فلان أن يفعل بالمنصب ومن خلال المنصب. أكثر من ذلك، هناك أطراف أخرى عراقية أولاً، وعربية تالياً، ودولية – إقليمية ثالثاً، معنية بالعراق ومؤثرة ومتأثرة بأحداثه، التي هزّت العالم أخيراً، وبالتالي لا يكفيها أن تتبلّغ بالإيماءات التي مفادها تغيير الشخص وإبقاء السياسات عائمة.
يقتضي التصارح القول بأن الولايات المتحدة وإيران، اللتين عيّنتا المالكي ودعمتاه في أخطائه وتجاوزاته حتى اللحظة الأخيرة، شريكتان في فشله. صحيح أنه يمكن الاستغناء عنه ولا سبيل إلى إقصائهما، إلّا أنهما مطالبتان بتصحيح ركائز تفاهمهما والمفاهيم المعتمدة لاستكمال بناء النظام العراقي «الجديد» الذي لم يتبلور بعد، وإن كان قطع شوطين كبيرين، أحدهما في دفع الفيدرالية نحو استقلال/ انفصال مرجّح للكرد، والآخر في تثبيت هيمنة «شيعية» ذات أذرع ميليشيوية على الدولة ومؤسساتها.
وإذا كان هذا الوضع يُعزى إلى «الأمر الواقع»، فكيف يستقيم في هذه الحال اعتراف الدستور بما يسمّى «التعددية»، وكيف يمكن تفسير الانهيار المتعاظم لاحترام الأقليات المسيحية والإيزيدية والتركمانية وغيرها منذ أعوام عدّة وتحت حكم المالكي؟ الواقع أن أي نقد أو «محاكمة» لتجربة هذا الأخير في الحكم لا بد أن يكونا أيضاً نقداً ومحاكمة لـ «التفاهم» الأميركي – الإيراني، الذي سلّم مصير بلد كبير ومعقّد لرجل استأثر بالحكم مستقوياً بحزب عقائدي لم تكن له تجربة في الحكم.
تساؤلات أخرى مشروعة، من بينها مثلاً: لماذا لم يستطع هذا «التفاهم» تجنيب العراق (وسوريا) كارثة «داعش» إذا كان الطرفان الأميركي والإيراني يعنيان قولهما إنهما ضد هذا التنظيم وضد إرهابه وانتشاره؟ فإيران طرحت نفسها محاربةً لـ «التكفيريين» في سوريا، وقدّمت «جهادها» (كما تسميه) هناك، بالاعتماد على «حزب الله» والميليشيات العراقية، «جهاداً» ضد الإرهاب، وتبيّن أنها في حقيقتها حرب ضد المعارضين السوريين ولم تحصل فيها أي مواجهات مع «داعش»، بل على العكس كان هناك شبه تنسيق ضمني بين هذا التنظيم الإرهابي وأجهزة النظام السوري في السيطرة على مناطق المعارضة، وفي الوقت نفسه يشتبه بأن الإيرانيين لعبوا أدواراً مباشرة وغير مباشرة في التسهيلات اللوجستية للمجموعات الإرهابية التي جرى تهريبها من سجن التاجي البغدادي قبل توجيهها إلى الأراضي السورية وبعض المناطق العراقية.
أما الولايات المتحدة التي لم تفوّت مناسبة دولية «لدعم الشعب السوري (!)» إلا تحدثت فيها عن الإرهاب ومجموعاته التي غزت سوريا وتنشط في العراق، لكن واشنطن تغاضت عن دور إيران وأتباعها في سوريا، وعن تهاون أمني تركي حيال تدفق المتطوّعين للقتال، ولم تقرّ في الوقت المناسب تسليحاً للمعارضة السورية يمكّنها من مواجهة «داعش» و«جبهة النصرة» وصدّهما (كما بيّنت هيلاري كلينتون في كتابها إذ تبنّت مع ديفيد بترايوس خطة للتسليح). لذلك يعتبر الكثير من الخبراء أن واشنطن تتحمّل مسؤولية (غير مباشرة؟) عن المساهمة في تضخّم قوة «داعش». وإذا أضفنا نقصاً استخبارياً فادحاً، فإن هذه المسؤولية تتضاعف، غير أنه يصعب تصديق فشل استخباري كهذا، تحديداً لأن العديد من العواصم الإقليمية أرسل إشارات إنذار إلى الأميركيين والأوروبيين، كما أن أربيل حذرت قبل شهور من سقوط الموصل، قائلة بأن «داعش» يتمدّد على نحو بالغ الخطورة، ولدى العديد من الأجهزة في المنطقة معلومات ملتقطة عن قنوات اتصال وروابط بين «داعش» وأجهزة غربية.
هناك تراشق بالاتهامات بعدما وقعت الواقعة. يصعب تأكيد أي معلومات خصوصاً أن دولاً متهمة بأدوار مريبة ومشتبه بها تتصدّر حالياً حملة التجييش ضد «داعش». ما يمكن تأكيده أن هناك تداخلاً وتشابكاً بين الأدوار، وأن أحد أبرز الأهداف كان ولا يزال الاستفادة من واقع أن العراق وسوريا صارتا بؤرتين جاذبتين للمتطرفين وساحتي صراع طائفي ومذهبي، وكلما طال هذا الصراع كلما كان ذلك أفضل بالنسبة إلى الدول الغربية. الأصعب سيكون إعادة تأهيل الجيش العراقي انضباطاً ومعنويات وتوفير الغطاء السياسي الأمثل كي تتمكّن قوات الجيش من ضرب «داعش» ودحره من دون أن تتهم بالفئوية الطائفية. ومن أهم العناصر لتأكيد هوية الجيش أن تكون هناك حكومة بحد أدنى من التوافق وبحد أقصى من التمثيل للمكوّنات.
الاتحاد
الدولة الإرهابية على مشارف المتوسط!/ طارق الحميد
قدّم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، في مقال، نشره أمس، في صحيفة «صنداي تلغراف»، مرافعة مهمة حول خطر «داعش» في العراق، وضرورة أن تقوم بلاده باستخدام قوتها العسكرية للتصدي لها هناك، وردعهم قبل أن يقيموا «دولة إرهابية على شواطئ البحر المتوسط».
وحذر كاميرون من أنه «إذا لم نتحرك للحد من هجوم هذه الحركة الإرهابية الخطيرة بشكل استثنائي، فإنها ستزداد قوة حتى تستهدفنا في شوارع بريطانيا. نعلم بالفعل أن لديها هذه النية الإجرامية». والأسئلة هنا تعليقا على مقال السيد كاميرون كثيرة، ومستحقة، فهل خطر «داعش» يتمثل بالعراق فقط؟ وهل يمكن أن يقيم التنظيم «دولة إرهابية على شواطئ البحر المتوسط» دون أن يتمكن في سوريا؟ وهل يمكن الاكتفاء بكسر «داعش» بالعراق وتجاهلها في سوريا؟ وكيف سيجري كسر «داعش» هناك دون دعم الجيش الحر، أو التدخل العسكري؟
أسئلة كثيرة ومهمة، خصوصا أن الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد تجاهلوا مطولا كل التحذيرات من خطورة تجاهل الأزمة السورية، وأنه كلما تأخر كسر بشار الأسد، فإن الإرهاب والطائفية بالمنطقة سينفجران، وسيدفع الجميع ثمن ذلك، وهذا ما حدث فعليا، حيث بات هناك «النصرة» و«داعش»، التي أطلق الأسد سراح ثلاثة من قياداتها لتصبح على ما هي عليه الآن، والضحية بالطبع هي الثورة السورية، والجيش الحر، بل وكل المنطقة، فهل لا يزال الغرب يكابر للآن حول ضرورة التدخل في سوريا؟
اللافت أنه عند اندلاع الثورة السورية، ولأن أوباما لا يريد التدخل هناك، تم إطلاق صفة «الحرب الأهلية» لتعقيد التدخل الدولي سياسيا وقانونيا، بينما اليوم في العراق يهرع الغرب لحماية الأقليات من «داعش»، ونوري المالكي، ولم يقل أحد إن ما يحدث في العراق حرب أهلية، وهي كذلك بالفعل، بينما يُقال ذلك عن سوريا التي يرتكب النظام فيها جرائم بحق الشعب، وبدعم إيراني مطلق، توازي ما تفعله «داعش» من جرائم! فهل حان الوقت ليعي الغرب خطورة تأخره، وتجاهله لما يحدث في سوريا، أم تستمر مكابرة الإدارة الأميركية؟
الحقيقة أنه طالما لم يدرك الغرب أن تجاهل الأزمة السورية خطأ قاتل فهذا يعني أن كل محاولاتهم لوأد «داعش»، وغيرها، والحيلولة ضد قيام «دولة إرهابية على شواطئ البحر المتوسط» ستبوء بالفشل، فمثلما كان رحيل المالكي إيذانا بانطلاق الحلول السياسية في العراق، فيجب أن يكون رحيل بشار الأسد الآن إيذانا بانطلاق الحلول السياسية والتصحيحية في المنطقة ككل. فما على الغرب إدراكه هو أن الأسد الراعي الأول للإرهاب في المنطقة، ولا بد من رحيله وإلا فإنه ستكون هناك فعليا «دولة إرهابية على شواطئ البحر المتوسط»، أو دول فاشلة، وهذا مدعاة لظهور ما هو أسوأ من «داعش».
صحافي سعودي عمل في صحيفة “المدينة” ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
من العراق إلى سورية … كيف يتنقل البغدادي سراً في مناطق «الخلافة»؟!/ عماد المرزوقي
كجزء من مهامه الرسمية باعتباره «خليفة للمسلمين» يبدو أن «أبو بكر البغدادي» على الرغم من الحصار الأمني المفروض عليه يقوم سرا ومع اخذ الحذر والحيطة بتفقد أحوال «الرعية» في مناطق خلافته التي يهيمن عليها تنظيم «الدولة الاسلامية» المعروف باسم «داعش» الذي بايع البغدادي أميرا للمؤمنين.
تنقلات البغدادي سربها بعض الشهود عيان لوسائل الاعلام منها التي ذكرت اخيرا أن البغدادي زار فعلا وسرا في موكب مهيب مناطق في الأنبار كما رجحت التقارير انه انتقل الى الرقة لأسباب أمنية وكذلك للاشراف على شؤون «خلافته» التي تتوسع كل يوم على الرغم من الحرب الدولية التي تستهدف «داعش».
وباعتباره رئيسا للسلطة التنفيذية لـ «تنظيم الدولة» فقد بدا بروتوكول «الخلافة الداعشية» لا يختلف كثيرا عن بروتوكول الدول الأخرى وذلك من خلال قيام البغدادي وفق ترجيحات تقارير اعلامية واستخباراتية بزيارات رسمية وغير رسمية الى مناطق سيطرة تنظيم «الدولة الاسلامية» ليطمئن على مناصريه ومريديه ومقاتليه وليشحذ هممهم ويؤازرهم في صراع دموي شديد يستبسل فيه عناصر «داعش».
وكان لا بد من دعم معنوي يقدمه البغدادي بنفسه ومباشرة لهم حتى لا يتسلل الى أنفسهم الشعور بالريبة أو الخذلان أو الهزيمة أو حتى مجرد التفكير بزوال «الخلافة» بعد إعلان الحرب عليها دوليا.
لكن بقي السؤال المهم كيف يتنقل البغدادي بين مناطق تشهد صراعات وقتال ارضا وجوا؟
وكيف يمكن له التنقل بين العراق وسورية في ظل القصف الجوي الأميركي والعراقي على مناطق سيطرة «الدولة الاسلامية» أو «داعش»؟ وهل بنى التنظيم أنفاقا تحت الأرض يتنقل من خلالها البغدادي سرا بين العراق وسورية ام انه يتنقل متنكرا ام انه يتنقل في مواكب ضخمة على غرار مواكب الرؤساء الحقيقيين.
يبدو الى الآن أن الحرس الخاص للبغدادي القائمين على حمايته وفق آخر تقارير شهود عيان عبر وسائل الاعلام اختاروا ان يتنقل «خليفتهم» في موكب مهيب مثل ذلك الذي شوهد أخيرا في مناطق في الأنبار، حيث أفاد الشهود انهم لمحوا موكباً ضخماً من السيارات وصل الى الأنبار لتأمين وصول البغدادي ليطمئن على مقاتليه هناك.
الا ان التنقل في مواكب ضخمة قد يكشف بسرعة من خلال الأقمار الصناعية ومن خلال رادارات المراقبة الجوية ومن خلال كاميرات طائرات التجسس من غير طيار. كل هذه التقنيات استعملها الجيش الأميركي لمراقبة تنقلات بن لادن وشخصيات مطلوبة اخرى منها تنقلات معمر القذافي ابان الحرب الليبية على ما رجحت بعض التقارير.
ويتنقل البغدادي بحسب شهود عيان في موكب لا يقل عن ثلاثين الى أكثر من خمسين سيارة مختلفة الأحجام والأنواع وسيارات شحن لكن حمولتها من الرجال المقاتلين والانتحاريين الذين يختارون عادة على غرار القاعدة من اشد المقاتلين لمهمة حماية الزعيم. ومعظم السيارات والاليات التي ترافق موكب البغدادي حسب التقارير المنشورة ايضا كان قد استولى عليها عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» من مخلفات الجيش العراقي وما يغنمه من معاركه المختلفة في محافظات العراق وكذلك في سورية.
ولكن اذا تم معرفة شكل الموكب فهل يعرف توقيت تنقل البغدادي؟
يبدو ان تنقل البغدادي يتم في سرية تامة حيث ان القليل على ما يبدو من عناصر التنظيم يعلمون موعد تنقله وحتى الطريق الذي يسلكه، وذلك في اطار الحفاظ على الكتمان وجعل تنقل البغدادي معلومات سرية لا يمكن البوح بها في اطار التحصن من اي محاولة اختراق بقصد التجسس او تسريب معلومات عن موقع البغدادي اكثر شخصية ارهابية مطلوبة في العالم حسب آخر التقارير الأميركية.
ويبدو ان «داعش» تتقن لعبة الاستخبارات والعمل في كنف السرية وحماية شخصياتها حيث ان الرجل الثاني في تنظيم الدولة بعد البغدادي حسب تقرير لصحيفة «التيلغراف» والذي يدعى ابو مسلم التركماني هو ضابط سابق في مخابرات جيش صدام حسين. وهذا ما قد عزز على ما يبدو أسلوب تأمين مسار تنقل القيادات «الداعشية».
وذكرت تقارير ان عناصر «داعش» قد يكونون مسلحين بأحدث الأسلحة الأميركية الصنع التي استولوا عليها من الجيش العراقي والتي قد يوظفونها في حربهم المندلعة على اكثر من جبهة كما يمكن توظيفها في تأمين حماية تنقلات البغدادي كاستخدام آليات مجهزة بقذائف مضادة للطائرات وغيرها. الى ذلك فإن المقاتلين المرافقين لموكب البغدادي يمثلون نخبة المقاتلين على غرار نهج «القاعدة» التي كانت توفر افضل الرجال لحماية تنقلات بن لادن وفق ما ذكرته تقارير استخباراتية نشرت سابقا على وسائل اعلام اميركية.
لكن هل يتنقل البغدادي نهارا ام ليلا؟
الاجابة عن هذا السؤال تبقى حيز الاحتمالات. لكن وفق دراسة تتبع القوات الأميركية لبن لادن سابقا الى حين قتله، فإن الزعماء على غرار بن لادن والبغدادي المطلوبين عادت ما تكون تنقلاتهم اكثر في الليل وذلك للاستفادة من العتمة وايضا للابتعاد عن العيون، وايضا لسهولة التخفي والتمويه. اما نهارا فيكون الوضع اصعب وتكون الخشية اكبر من أن يشي احد المارين والملاحظين لموكب البغدادي بمعلومات عن ذلك للأعداء وحينها قد يكون ذلك اكبر خطأ. إلا ان احتمال تنقل البغدادي ليلا يستند ايضا لدراسة تنقلات بن لادن المطلوب الأول سابقا للولايات المتحدة والتي رصدتها تقارير وكتب اميركية كثيرة حول مهمة قتل بن لادن، حيث ان عملية قتله كانت ليلا ومع فجر الصباح. كما أن تنفيذ عمليات خاصة او تنقل الشخصيات المطلوبة امنيا سرا يكون عادة في وقت متأخر لتقلص مخاطر المراقبة والتتبع.
الا ان هذا الاحتمال لتنقل البغدادي ليلا قد يضاف اليه احتمال تنقله نهارا ايضا وذلك من خلال نهج التمويه الذي اعتمده سابقا أيضا بن لادن في تنقلاته كأن يخرج في اكثر من موكب لتشتيت المراقبة وان يكون هناك موكب وهمي قد تلاحظه الناس اما موكبه الحقيقي قد يكون في اللحظة نفسها لكن مع تدابير امنية مختلفة لعدم اثارة انتباه الناس.
لكن اذا كان تنقل البغدادي في مناطق خلافته بين الموصل والرقة يكون بالاعتماد على ولاء مقاتليه له ووجود بعض الحاضنات الشعبية له، فإن الخطر الأكبر الذي قد يتهدد تنقل البغدادي يكون على طريق طوله حوالي 450 كيلومترا يفصل الموصل عن الرقة، حيث ان الوقت المطلوب لقطع هذه المسافة هو في حدود خمس ساعات ونصف الساعة وهذه المدة الطويلة قد تتطلب الكثير من الاجراءات الأمنية من قبل عناصر «داعش» لتأمين زعيمها.
ويبقى السؤال هل ان هذه الطريق غير مراقبة بالرادار او بالأقمار الصناعية الأميركية؟ وهل ان الجيش الأميركي يغض النظر عن موكب البغدادي ام انه لا يمكن التقاط اي صور تجسسية لمن يعبر هذه الطريق؟ ام ان «الدولة الإسلامية» بات لديها اجهزة تشويش للرادارات والأقمار الصناعية؟
الرأي
مجلس أمن البغدادي/ فادي الداهوك
يبدو بأن النزوح الجماعي للأيزيديين في العراق، كان الدافع وراء قرار مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع، الجمعة الماضي، ضد تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”جبهة النُصرة”. وذلك بعد وصول داعش إلى مناطق الإيزيديين، وإعدامها للمئات منهم. ولكن بالنّظر إلى نشاط تنظيم الدولة في سوريا، يفقد القرار دافعه الإنساني؛ فالدولة الإسلامية ذبحت في نفس الفترة 800 مدني من عشيرة الشعيطات السنّة في دير الزور السورية.
الإيزيديون هم أول أقلية دينية، طالها عنف المتشددين الإسلاميين الذين كان ميدانهم في سوريا هو مناطق السنة. ولم تتعرض أية أقلية إلى تهديد حقيقي من قبلهم. وبمعنى آخر لم يكن هدف تنظيم الدولة هو الأقليات في سوريا، بل هداية السنّة إلى “الإسلام الصحيح”، في حلب والرقة وإدلب ودير الزور. ووضع بعض الأقليات التي وجدت نفسها في مناطق نفوذ الدولة الإسلامية كالمسيحيين في الرقة، لم تنحو باتجاهات مأساوية عنفية.
قرار مجلس الأمن جاء متأخراً وهزيلاً، وربما لو طرح على مجلس الشعب السوري، لأثار سخرية النائب الذي قال يوماً للأسد: “أنت لازم تحكم العالم يا سيادة الرئيس”. فمن المضحك أن يصدر قرار دولي كهذا، بعد كل ما ارتكبه التنظيم من فظائع، ليدعو في الفقرة العاشرة منه “جميع الدول” إلى “الامتناع عن تقديم أي شكل من أشكال الدعم، الصريح أو الضمني، إلى الكيانات أو الأشخاص الضالعين في الأعمال الإرهابية”. فالتنظيم لا يجري عمليات تجارية أو دورة مالية واضحة، ومعظم ثرواته جناها بمفهوم الغنيمة والفيء. ويضيف القرار في البند السابع عشر، أن مجلس الأمن مستعد للنظر في إدراج أفراد وكيانات ومؤسسات في نظام قائمة العقوبات، بما في ذلك أولئك “الذين يعملون من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإنترنت والإعلام الاجتماعي، لصالح تنظيم داعش”. وهل سيلاحق القرار حسابات “أبو حفص الأثري”، و”ذبّاح الشمري”، أو حتى “المُريقب الشامي”، من بين آلاف أنصار التنظيم على موقع التواصل الإجتماعي “تويتر” فقط؟
الأسماء الستة التي ضمّتها قائمة العقوبات الدولية، تشي بأن المجتمع الدولي يتعامل مع “دولة الخلافة” بالطريقة التي تعامل بها مع “القاعدة” ورموزها على خلفية أحداث أيلول/سبتمبر 2001. متناسياً بأن الفرق بين القاعدة آنذاك والقاعدة اليوم، يكمن في أن المتشددين حققوا شرط “التمكين” لإقامة دولة الخلافة، بعد حقبة طويلة من الأحلام. والدولة الإسلامية لم تكن سوى مشروع يسعون إليه. وأبرز مراحل تحول المشروع إلى واقع قائم، هو إلغاؤها الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس-بيكو، إلى جانب هيمنة الدولة على مساحة شاسعة بين العراق وسوريا بما تحتويه تلك المساحة من مقدرات كافية لقيام الخلافة. وهذا يعني أن العراق وسوريا هي المستقر الأخير لحلم الدولة الإسلامية وللحالمين به.
وبالنظر إلى الأسماء الستة، تتكشف درجة “المكر” التي صيغ بها قرار مجلس الأمن، فالأسماء ليست من رعيل أيمن الظواهري وإلياس الكشميري وسيف العدل وأبو يحيى الليبي. بل هي لشخصيات طفت على السطح بسبب الحدث السوري؛ وهم المتحدث باسم داعش السوري أبو محمد العدناني، والضابط السابق في الجيش الجزائري سعيد عريف، الذي بدأ نشاطه في سوريا مع جبهة النصرة، والسعودي عبد الرحمن الجهني، أحد أبرز المطلوبين أمنياً في السعودية، وهو بمثابة ضابط الارتباط الذي كان يستقبل المنتسبين الجدد إلى القاعدة في أفغانستان وباكستان، وتولى أيضاً تعليم عناصر القاعدة أصول ما يعرف بـ”الأمنيات”، أي طرق التخفي وتجنب الملاحقة، ثم انتقل إلى سوريا منضماً إلى جبهة النصرة في العام 2012. وضمّت اللائحة أيضاً زعيم جبهة النصرة في اللاذقية السعودي عبد المحسن عبدالله إبراهيم الشارخ، المكنّى في أوساط القاعدة بسنافي النصر، إلى جانب الداعية الكويتي حامد حمد حامد العلي ورفيقه حجاج بن فهد العجمي، اللذان كانا يجمعان الأموال للقاعدة من تبرعات المسلمين حول العالم. أدرجت تلك الأسماء بدون أي إشارة إلى زعيم التنظيم نفسه، أبو بكر البغدادي، ربيب سجن بوكا في مدينة البصرة العراقية إبان الاحتلال الأميركي للعراق.
كان ينقص جلسة مجلس الأمن حضور البغدادي نفسه، عطفاً على أن المجلس مازال يسمح لمندوب النظام السوري حضور الجلسات المتعلقة ببلاده، ليتيح له عرض تظلّماته أمام مندوبي الدول. لكن القرار سيكون عاملاً إضافياً في تثبيت حكم الدولة الإسلامية وتمتينه، كما أن الحمية الزائدة على الأقليات في المنطقة ستضع المجتمعات السنيّة، المتروكة لاستبداد العسكر والمتشددين، أمام طريق إجباري: هو اتباع أمير المؤمنين ودولة الخلافة. وما أكثر دلالة على ذلك سوى بيان عشيرة الشعيطات في دير الزور، التي استسلمت أخيراً من قتال الدولة الإسلامية وبايعت البغدادي متبرئة من أفرادها الذين قاتلوا عناصره. وذلك لا شكّ أنه سيحوّل الأمير الغرّ إلى بطل شعبي، بمستوى “بابلو أسكوبر”، أغنى تاجر مخدرات كولومبي في العالم، وصاحب أشهر اسم ملاحق في تاريخنا. في صورة مشابهة لنشأة البغدادي، أو الجولاني، أو أي من أمثالهما، لكن على الضفة المقابلة. ضفة طريق الموبقات والمتع والمنكر.
المدن
أميركا و «داعش» بين الأخلاقي والسياسي/ خليل العناني
تثير الضربات الجوية الأميركية ضد معاقل «الدولة الإسلامية» -أو ما بات يعرف بتنظيم «داعش»- في العراق الكثير من الأسئلة، ليس فقط حول الدوافع الأميركية لها وما هو المتوقع منها، وإنما أيضاً حول المصالح الكامنة وراء هذا التحرك «المفاجئ» وقدرة الإدارة الأميركية على إقناع الرأي العام والكونغرس الأميركي بجدواه سياسياً وأخلاقياً. فمنذ ظهور تنظيم «داعش» بشكل قوي ورسمي قبل حوالى عام ودخوله على خط «الثورة» في سورية،م تأخذه الولايات المتحدة على محمل الجد، أو على الأقل لم يكن هناك تخوف منه ومما يمثله.
ولكن بعد أن «توحّش» داعش وتوغل في سورية والعراق قبل عدة شهور، ووصل الأمر إلى حدود إقليم كردستان وأكبر مدنه إربيل، فضلاً عن بداية ظهور التداعيات الإقليمية لـ «داعش»، بدأت أجراس الخطر تدق في واشنطن من قبل المحللين والمراقبين السياسيين. وقد كانت استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في التعاطي مع «داعش» قبل التطورات الأخيرة تستند الى أمرين:
أولهما الحرص على عدم التورط بشكل مباشر في أي صراع عسكري في العراق أو سورية. وكان الداخل الأميركي عنصراً مهماً في حسابات الإدارة الأميركية، خاصة أن أوباما كان هو المسؤول عن سحب القوات الأميركية من العراق خلال الأعوام الماضية. ثانيهما، استخدام «داعش» وتوظيفه في العلاقة مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والضغط عليه من خلاله كنوع من العقاب، وهو الأمر الذي تمكن قراءته في ثنايا اللقاء الذي جرى بين المالكي ووزير الخارجية الأميركي جون كيري أثناء زيارة الأخير لبغداد في شهر حزيران (يونيو) الماضي والتي أوضح خلالها حجم الاستياء الكبير في واشنطن من المالكي وسياسته الطائفية تجاه السنّة في العراق، بل وتم إلقاء اللوم عليه بشكل غير مباشر في ظهور «داعش» واستقوائها بالعشائر السنية في الأنبار والموصل وتكريت.
لذا لم يكن غريباً أن يتزامن التحرك الأميركي ضد «داعش» مع بداية التفاعلات السياسية في العراق حول خروج المالكي من السلطة وتعهد التحالف الداعم له بوقف السياسات الطائفية والعمل على تشكيل حكومة تضم الأطياف العراقية كافة. وقد ضغطت واشنطن بشدة على المالكي وبقية الأطراف الشيعية في العراق طيلة الأسبوع الماضي من أجل التنازل عن السلطة واختيار شخصية أخرى أكثر قبولاً، وتم الربط بين ذلك وبين إمكان التدخل لوقف تقدم «داعش» باتجاه بغداد. بكلمات أخرى، بد أن ثمة صفقة بين أميركا والمالكي ومن خلفه تحالفه السياسي، بأن أي تحرك أميركي عسكري تجاه «داعش» لا بد أن يرتبط بخروج المالكي من السلطة وإعادة تشكيل الحكومة العراقية بشكل يضمن تمثيل بقية المكونات السياسية، خاصة السنّة.
وقد وفرت وحشية «داعش» وتقدمه باتجاه إقليم كردستان، لإدارة أوباما غطاء سياسياً للتحرك ضده، كما حاولت إدارة أوباما استغلال ما يقوم به «داعش» ضد الأقليات الموجودة في المنطقة ما بين الموصل وإربيل خاصة الأيزيديين من أجل الحصول على غطاء أخلاقي لتحركها. وهو ما أشار إليه أوباما قبل أسبوع في حواره مع الصحافي الأميركي المعروف توماس فريدمان حين برر ضرباته الجوية ضد معاقل «داعش» بأنها محاولة لوقف ما أسماه «عملية إبادة محتملة».
قطعاً لم يكن البعد الأخلاقي هو المحدد الرئيسي للتحرك الأميركي الأخير تجاه «داعش»، ولم يكن الهدف هو حماية الأيزيديين الذين ربما لم يسمع عنهم أوباما إلا بعد ظهور «داعش»، ولكن كان من المهم البحث عن ذريعة «أخلاقية» يمكن تسويقها للرأي العام الأميركي من أجل قبول توجيه ضربات عسكرية أميركية في العراق، خاصة في ظل حساسية المجتمع الأميركي تجاه المسألة العراقية وما نجم عنها من خسائر كبيرة. من جهة أخرى، فإن التحرك الأميركي لا يمكن فصله عن المصالح الاستراتيجية في إقليم كردستان، والذي يعد بالنسبة الى أميركا والغرب نموذجاً اقتصادياً ملهماً في منطقة تعج بالصراعات وعدم الاستقرار، فمدينة إربيل تمثل ملتقى مهماً لكثير من الشركات العالمية الكبرى، ويصفها البعض بأنها «دبي العراق» أو على طريقها، من حيث الجاذبية السياحية والرخاء الاقتصادي. وقد لعبت حكومة كردستان على هذا الوتر من أجل طلب المساعدة العسكرية ودعم قوات «البيشمركة» التابعة لها من قبل واشنطن وغيرها من الدول الغربية، وهو ما حدث بالفعل. كذلك جاء تحرك أوباما ضد «داعش» من أجل حفظ ماء وجه إدارته أمام الانتقادات الداخلية التي تم توجيهها له، وكان آخرها من غريمته ووزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون قبل أسبوع، خاصة فى ظل انهيار الأوضاع في سورية وتخوف كثيرين داخل واشنطن من أن ينتهي العراق إلى المصير ذاته.
وقد جاء التحرك الأميركي ضد «داعش» في نسق مغاير لما كانت تتبعه إدارة أوباما طيلة العامين الأخيرين، والذي كان يقوم على «فك الارتباط» الجزئي بصراعات المنطقة، وعدم التورط فيها، خاصة في ظل إخفاقات «الربيع العربي» وارتفاع وتيرة الصراع الطائفي، وهي الاستراتيجية التي تم انتقادها كثيراً من قبل المحللين والمراقبين وبعض أعضاء الكونغرس الأميركي والمسؤولين.
بيد أن هذا التحرك، وبقدر نجاحه العسكري والاستراتيجي، كشف عن الازدواجية الأميركية المعهودة في التعاطي مع أزمات المنطقة، ليس فقط أخلاقياً، وإنما سياسياً أيضاً، فالتجاهل الأميركي لما يحدث في سورية ورفض واشنطن مراراً تسليح المعارضة السورية أو توجيه ضربات مماثلة للقوات النظامية، لا يمكن إغفالهما، وقد قارن كثيرون بين رد الفعل الأميركي السريع على جرائم «داعش» وبين عدم الفعل أو التحرك رداً على جرائم نظام بشار الأسد. وتصبح المقارنة أكثر وضوحاً وانكشافاً إذا ما تم استحضار الجرائم الإسرائيلية التي حدثت ضد الفلسطينيين في قطاع غزة طيلة الشهر الماضي، والتي لم تحصل ولو على إدانة من إدارة أوباما، هو ما يدحض أي دعاوى أو أطروحات أخلاقية أو إنسانية قد تتذرع بها إدارة أوباما وحلفائها الغربيين في التحرك ضد «داعش». استراتيجياً وسياسياً، فإن كثيراً من الأسئلة حول الحملة الأميركية على «داعش» لا تزال مطروحة، فإلى أي مدى، زمنياً وميدانياً، سوف تصل هذه الحملة؟ وهل يمكن أن تعيد أميركا إرسال جزء من قواتها الى العراق؟ وهل الهدف هو «التخلص من داعش» وهزيمته أم مجرد احتوائه؟ وهي أسئلة لا أعتقد أن ثمة إجابة واضحة عليها لدى إدارة أوباما، على الأقل حتى الآن، وهو ما يترك الباب مفتوحا على كل السيناريوات.
* كاتب وأكاديمي مصري
الحياة
التقسيم بسكّين “داعش” وتوقيع أوباما؟/ راجح الخوري
قبل ان ينهي باراك اوباما حديثه عن استعادة البشمركة سد الموصل، كانت “داعش” قد بثت على وسائل الاتصال فيديو يصوّر قطع رأس اميركي وينتهي بتهديد باللغة الانكليزية: “سنغرقكم جميعاً في الدم”.
يجيء هذا بعدما قطعت مسيرة الذبح مسافة كبيرة بين سوريا والعراق، بينما كانت اميركا والدول الغربية توغل في التعامي والصمت وربما التشجيع على اغراق الاقليم في الفظاعات، فالقتل في جميع الإتجاهات. النظام السوري يذبح معارضيه، وحكومة نوري المالكي تنكّل بمعارضيها، والإرهابيون يتقاطرون الى اراضي الدم وسط غليان من المشاعر المذهبية والأحقاد الدفينة التي تم إيقاظها.
قبل انهيار الجيش العراقي الكرتوني، كانت “داعش” التي أُخرِجت نواتها من السجون السورية ثم من سجن ابوغريب العراقي، قد مضت بعيداً في حز الرقاب وقطع الرؤوس. فعلت هذا في سوريا قبل العراق، وفي العراق سيبقى السؤال:
كيف يمكن ان ينهار جيش أنفق عليه ١٢٠ ملياراً من الدولارات امام آلاف من الارهابيين الذين استولوا على الودائع في المصرف المركزي في الموصل وكل المصارف في زحفهم الذي بات يسيطر على مئة ألف كيلومتر مربع بين العراق وسوريا، بما فيها من آبار للنفط الذي قيل ان النظام السوري كان يشتريه من “داعش”؟!
اين كان اوباما في ذلك الوقت، ولماذا استيقظ فجأة ليستند الى “قرار صلاحيات الحرب” ويأمر بشنّ غارات على “داعش” التي اقتربت من أربيل واتّجهت للسيطرة على سد الموصل؟
المراقبون المفجوعون بتغاضي الغرب ثلاثة اعوام عن المجازر، يجمعون على انه استيقظ بعدما اقتربت “داعش” من المصالح الاميركية النامية في اربيل بما يفتح امامها الطريق الى كركوك ايضاً!
لم تتدفق دماء الايزيديين المذبوحين وحدهم في جبل سنجار، قبلهم ذبح الكثيرون في طريق “داعش” الى الموصل، لكن اوباما الذي يخاف الآن من ان تغرق مياه سد الموصل السفارة الاميركية في بغداد، لا يتنبه الى ان سمعة اميركا الاخلاقية والسياسية قد غرقت في انفجار سدود الدماء منذ ثلاثة اعوام ونيف.
احد المسؤولين الكبار في اربيل يقول لو ان اوباما نفذ طلعة جوية واحدة ضد النظام السوري بعد مذبحة الغوطتين لما كنا في ما نحن عليه الآن!
على خلفية هذه المواقف الغربية المعيبة، لا يتردد الكثيرون في النظر الى الصراخ الاميركي والاوروبي الذي يتعالى الآن “سلّحوا البشمركة”، من زاوية الشكوك في ان الدافع في العمق ليس اخلاقياً بل انه تثبيت على الارض للدولة الكردية، يفتح الطريق امام الدولة السنية، والدليل ان اميركا تتجه الى تسليح العشائر والفصائل السنيّة في الأنبار، اما الدولة الشيعية فهي قائمة تقريباً في الجنوب!
النهار
هل من تفسير لما يجري في العراق وسوريا؟/ محمد كريشان
لغزمحير… كابوس مرعب… مؤامرة معقدة. عن أحد هذه الاحتمالات أو عنها مجتمعة لم يخرج تقييم ما يجري في العراق و سوريا من تمدد مخيف لتنظيم «الدولة الإسلامية» خاصة بعدما بات يسيطر وفق التقديرات على زهاء الـــ 35٪ من الأراضي العراقية و 30 ٪ من الأراضي السورية. و في كل الأحوال لا من تحدث عن لغز إستطاع أن يفكك بعض طلاسمه، و لا من ارتعب من الكابوس أفلح في التبيان العملي لما يمكن أن يحدث جرّاءه، و لا من يؤمن بالمؤامرة نجح في فضح مقنع لخيوطها.
المشكل هنا أن المراقب كلما أمعن في محاولة فهم الظاهرة ازداد تشوّشه خاصة عندما ينتقل في رحلة بحثه عما يشفي الغليل بين التفسيرات التاريخية و الاجتماعية والثقافية لظاهرة التطرف الدموي باسم الدين، وبين شروح الخبراء والمحللين السياسيين للواقع على الأرض و بين المواقف الرسمية الإقليمية و الدولية تجاهه. مع ذلك، هذه المسالك كلها تجمع على ثلاث نقاط رئيسية سيقت كالتالي:
أولا: أن المعركة مع هذا التنظيم طويلة و لا ينتظر حسمها في القريب.
ثانيا: التنظيم لا يشكل خطرا على العراق و سوريا فقط بل يهدد العالم أجمع.
ثالثا: لا مجال للقضاء على هذا التنظيم دون أوسع تحالف دولي ممكن.
الملفت أن لا نقطة من هذه النقاط تبدو الآن محل معالجة جادة، أقله من وجهة نظر الرأي العام المرعوب مما يجري. فيما يتعلق بطول المعركة، تبدو الأمور و كأن هناك رغبة في التطويل أكثر منه العجز عن الحسم سواء من الولايات المتحدة أو من حلفائها. على سبيل المثال، واشنطن توجه الآن ضربات جوية لقوات «تنظيم الدولة الإسلامية» لكنها لم تفعل ذلك إلا عندما اقترب من إقليم كردستان العراق و لا تبدو مصرة على مواصلة ضربه إن هو انكفأ. لقد كان ملفتا أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق نيكولاس بيرنز على سبيل المثال لم يجد للرد على «السؤال الكبير المطروح الآن أمام الولايات المتحدة إذا ما تمكنا من صد ووقف داعش هل يمكننا دفعهم إلى مزيد من التراجع وطردهم خارج العراق» سوى القول إن « ذلك سيكون أمرا مختلفا لأن داعش لديها الكثير من الأموال ويمكنها الحصول على قوة نارية وأسلحة ولديها آلاف العناصر التي تم تجنيدها». و اعتبر بيرنز أنه يتفهم ما قاله الرئيس أوباما بأن إضعاف داعش وهزيمتها في العراق قد يستغرق أشهرا «لأننا نستخدم كمّاً محدودا وتكتيكيا من الهجمات الجوية» و أنه إذا ما كان الهدف هو محاولة هزيمة هذا التنظيم فإن ذلك يعدّ «تحديا متعدد الجوانب» لا تبدو واشنطن مستعدة الآن لخوضه.
أما القول بأن «تنظيم الدولة الإسلامية» يشكل خطرا على العالم كله إلى حد حديث رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأنه قد يصل شوارع بلده إن لم يحارب في مهده فقول لا يجد، في الوقت الحاضر على الأقل، ما يدعمه بقوة لأن التنظيم على ما يبدو مقر العزم على أن يُـعمل سيفه في رقاب المسلمين من «الكفرة و المرتدين» و معارضي مبايعته في العراق و سوريا أكثر مما هو منشغل بغيره . هنا تبدو الأمور للأسف على النحو التالي: ما يزعج الغرب ليس دق أعناق المسلمين من قبل التنظيم و إنما اقترابه من غير المسلمين أو من مناطق استراتيجية حيوية ككردستان العراق. و في كل الأحوال فالحديث عن انتقال التهديد إلى الغرب أو الولايات المتحدة يبدو ضعيف الإحتمال أو حتى مهولا لأغراض غير واضحة حاليا.
ويبقى موضوع التحالف الدولي الواسع المنشود لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» هو الخيار الأكثر استبعادا حاليا في ظل الحماسة المحسوبة بعناية لكل من واشنطن و لندن لتجنب تورط جديد في العراق و في ظل استنكاف قوى دولية كبرى أخرى عن مشاركتهما هذا العبء لوجود ملفات أخرى عالقة بينها وبين الولايات المتحدة و أوروبا. في هذه المسألة تحديدا وجدت بثية شعبان مستشارة الرئيس بشار الأسد الجــــرأة لتقول إن «الرد على داعش لا يكون بغارات محدودة قرب أربيل، ولكن الرد المناسب يكون من خلال ائتلاف دولي يتكون من الصين وروسيا وأمريكا وأوروبا لمحاربة هذا التسونامي الفظيع الذي يجتاح المنطقة لأنه يشكل خطرا على العالم بأسره». السيدة شعبان وجدت أيضا ما يمكن وصفه بأكثر من الجرأة لتقول إن «الغرب يأخذ وقته لأيام وساعات لدراسة قضية حساسة كهذه فيما آلاف الناس يموتون»، لافتة إلى أن «المسألة مسألة وقت وعلى العالم أن يسمع لنا ويتحرك»!.
هذا العالم لو كان يسمع أو يتحرك لسمع ما كان يجري في سوريا و لتحرك لوقفه. لو فعل ما كان ليجد نفسه الآن في هذا الوضع. هذا ما اعترفت به على الأقل مؤخرا وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة نفسها هيلاري كلينتون. و لكن متى … بعد فوات الأوان!
القدس العربي
لماذا تدخلت واشنطن سريعا ضد «داعش» في العراق وتخلفت عن ذلك في سوريا؟
روما ـ من بسام العمادي: بعد التحرك المفاجئ لتنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف إعلامياً بـ»داعش»، في العراق، وسيطرته السريعة وغير المتوقعة على أجزاء ومناطق واسعة شمالي وغربي البلاد، واقتراب مقاتليه من بغداد وأربيل (عاصمة إقليم شمال العراق)، تحركت واشنطن بلا إبطاء.
التحرك الأمريكي السريع ضد «الدولة الإسلامية» شمل إرسال البوارج الحربية إلى الخليج العربي، وإرسال خبراء عسكريين على جناح السرعة إلى بغداد وأربيل، كما شرع الطيران الحربي الأمريكي بشن ضربات ضد مواقع للتنظيم شمالي العراق، وكذلك الضغط السياسي الذي أدى إلى استصدار قرار أممي قبل أيام بمحاصرة «داعش» اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
ويتساءل الكثيرون عن السبب وراء هذا التحرك السريع والحاسم للولايات المتحدة ضد «الدولة الإسلامية» بعد سيطرته على بعض المناطق في العراق وارتكابه فيها ما يمكن تسميته «جرائم ضد الإنسانية»، بحسب ما يتهم به، وكذلك تهجير الآلاف من سكانها، بينما لم تحرك ساكنا عندما استولى التنظيم نفسه منذ أكثر من عام على مناطق واسعة في سوريا، وارتكب نفس الأعمال التي يمكن إدراجها تحت نفس التصنيف.
ويرى كثيرون هذا التساؤل مشروعا لشدة التناقض بين الحالين، ولكنه أمر يمكن تفسيره من خلال معرفة محركات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذ ان هذه السياسة لها محركان ودافعان أساسيان يتحكمان بها وهما: النفط، وأمن إسرائيل، أما الأمور الأخرى، ان وجدت، فهي ثانوية، ولا تأثير يذكر لها على القرارات السياسية، إلا إذا كانت تتماشى مع هذين المحركين الأساسيين.
ففي الواقع سوريا ليست من الدول النفطية الكبرى ولا تهم واشنطن إطلاقا في هذا المجال، وربما في مجالات أخرى كثيرة، ما عدا كونها الجار الأكثر تهديداً لأمن إسرائيل.
وأصبح من الثابت انه لإسرائيل مصلحة قوية في بقاء نظام بشار الأسد في الحكم في سوريا، بسبب الأمن الذي استمرت إسرائيل تتمتع به على جبهتها الشمالية خلال فترة حكم بشار (منذ عام 2000 وحتى اليوم) تماما كما تمتعت به أيام أبيه الراحل حافظ الأسد الذي حكم البلاد منذ عام 1971، وحتى وفاته عام 2000 حيث خلفه نجله بشار.
من جهة أخرى، فقد بينت الأحداث منذ دخول «الدولة الإسلامية» إلى سوريا قبل أكثر من عام ان عناصرها لم يدخلوا مواجهات حقيقية مع قوات نظام بشار إلا في حالات قليلة، و في الوقت نفسه لم تقم قوات بشار وتوابعها من الميليشيات الشيعية بمواجهة مسلحي الدولة الإسلامية إلا في حالات نادرة وغير مؤثرة.
ويمكن تفسير هذا الأمر ان وجود «الدولة» في سوريا وسيطرتها على مناطق واسعة يخدم هدف النظام في تخويف الغرب من البديل المحتمل لنظامه وهو الإرهاب والتطرف من فصائل إسلامية متشدده كالقاعدة و»الدولة الإسلامية» المنشقة عنها وغيرهما.
وقام نظام بشار والنظام الإيراني بالكثير من الأعمال التي ساعدت على ظهور وتقوية «القاعدة» بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 قبل ان ينشق عنه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» العام الماضي، لعدة أسباب منها استنزاف الأمريكيين ومنع استمرار الإدارة الأمريكية حينها فيما كانت تخطط له وهو تغيير نظام بشار الأسد بعد نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
ومن بين ما قام به نظام الأسد المدعوم من إيران هو تمرير السماح لـ»داعش» بالسيطرة على بعض المناطق لأشهر وعدم قصفها من قبل قوات النظام السوري، مثل محافظة الرقة المعقل الأساسي للتنظيم في سوريا.
وكما يرى مراقبون فقد نجح نظام بشار وإيران في مساعيهما، واستمرا في استغلال الفصائل والتنظيمات التي كانت تقاوم الغزو الأمريكي ومساعدتها بشكل أو بآخر.
وجاءت الاستفادة الكبرى من تلك التنظيمات بعد قيام الثورة في سوريا ضد نظام الأسد مارس/آذار 2011، والتي بدأت واستمرت سلمية لأكثر من 7 أشهر حتى أجبر قمع قوات النظام واستخدامه العنف ضد المتظاهرين على حمل السلاح للدفاع عن انفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم، قبل ان تتدخل التنظيمات الإسلامية مثل «داعش» والنصرة» وغيرها وتتصدر مشهد الصراع.
ومن المعروف ان مراسيم العفو التي أصدرها بشار الأسد في الأشهر الأولى للاحتجاجات ضده، سمحت لمعظم الموقوفين في السجون السورية من الجهاديين والإسلاميين بالخروج وتشكيل فصائل مقاتلة والمساهمة في عسكرة الثورة، مما أعطى للنظام المبرر لاستخدام أقصى درجات العنف والقمع لانهاء الاحتجاجات ضده.
ومنذ آذار/مارس 2011، تطالب المعارضة السورية بانهاء أكثر من 40 عاماً من حكم عائلة الأسد، وإقامة دولة ديمقراطية، يتم فيها تداول السلطة، لكن النظام السوري اعتمد الخيار العسكري لوقف الاحتجاجات، ما دفع سوريا إلى معارك دموية بين القوات النظامية، وقوات المعارضة، حصدت أرواح أكثر من (150) ألف شخص، بحسب المنظمات الحقوقية.
ويبدو ان الأثر السلبي لسيطرة «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة في سوريا هو أمر يمكن لإسرائيل والإدارة الأمريكية تحمله مقابل بقاء نظام بشار، وعدم قيام نظام آخر بديل لابد وان يكون لـلإسلاميين دور فيه، لانه من غير المتوقع ان يستمر السلام والأمن الذي نعمت به إسرائيل على حدودها الشمالية لأكثر من 40 عاما خلال حكم الأسدين (الأب والابن)، في حال سقوط نظام بشار.
ومهما كانت هذه الحسابات خاطئة، ومهما كانت النتائج الجانبية سيئة – وربما أسوأ من نتائج سقوط بشار الأسد- لكن على ما يبدو فان هذا ما قررته إسرائيل والإدارة الأمريكية، ولهذا تصمت الأخيرة عما يجري في سوريا سواء من تنظيم «الدولة الإسلامية» أو من نظام الأسد الذي ارتكب مجازر تفوق ما يتهم به التنظيم بارتكابها.
وقد يتساءل البعض عن المبادئ الأمريكية في الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكانها وتأثيرها على متخذي القرار في واشنطن في الشان السوري، خاصة وان حكومات الولايات المتحدة تستخدمها كسيف مسلط على رقاب الحكومات التي لاترضى عنها وتخالف مصالحها.
ولكن الواقع يقول ان القرارات السياسية الأمريكية لا مكان فيها لحسابات حقوق الإنسان ولا للديمقراطية، بل وحتى الخطوط الحمراء المتعلقة باستعمال الأسلحة الكيميائية والأخرى المحرمة دوليا والتي رسمها الرئيس الأمريكي باراك أوباما لبشار ونظامه، فحتى هذه الخطوط تم التخلي عنها بمجرد الحصول على تنازل من نظام بشار عن الأسلحة الكيميائية بعد ما سمي «مجزرة الكيماوي» في منطقة الغوطة آب/اغسطس 2011.
وبعد تهديد الولايات المتحدة بشن عملية عسكرية ضد النظام السوري على خلفية اتهامه بارتكاب «مجزرة الكيماوي» بريف دمشق التي راح ضحيتها نحو 1400 قتيل، في أغسطس / آب 2013 قرّر النظام السوري تلبيةً لدعوة من موسكو، تسليم ما بحوزته من أسلحة كيميائية بغية إتلافها.
وبدأت عمليات نقل تلك الأسلحة عبر ميناء اللاذقية على البحر المتوسط مطلع العام الجاري، وتم الانتهاء قبل أيام من نقل وإتلاف كامل الكمية المصرح بها من قبل النظام السوري المقدرة بحوالي 1300 طن.
وربما كان السبب الأكبر وراء تراجع واشنطن عن شن الضربة العسكرية ضد النظام هو إدراك الإدارة الأمريكية انه مهما كانت الضربة التي كانت متوقعة صغيرة أو محدودة، فانها كانت ستؤدي إلى انهيار نظام بشار بأكمله، فلذلك تم التراجع عنها، وكانت نتيجة ذلك التراجع والتراجع عن الخطوط الحمراء هي استمرار نظام بشار بقتل وتهجير الشعب السوري حتى تجاوزت مأساة هذا الشعب أكبر مآسي هذا القرن.
ومع ان جرائم النظام السوري تجاوزت بآلاف المرات حجم الجرائم التي قامت بها «الدولة الإسلامية» سواء في سوريا أو في العراق، وان التهجير الذي تسبب به نظام بشار للشعب السوري تجاوز بمئات المرات التهجير الذي سببه التنظيم في العراق للسكان المحليين هناك، إلا ان رد الفعل الأمريكي وربما الغربي لم يتجاوز حدود الإدانات اللفظية وتقديم بعض المساعدات الإنسانية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع أو تحل الأزمة التي ما تزال مفتوحة.
بل وأكثر من ذلك لازالت الولايات المتحدة تفرض حظرا قويا على امدادات السلاح للثوار السوريين وتشل قدرتهم على مواجهة قوات نظام بشار، مما تسبب في إضعاف قوات المعارضة «المعتدلة» وتسبب بانضمام الكثير من الثوار السوريين إلى صفوف «الدولة الإسلامية» وجبهة «النصرة» لانهما الفصيلان الأكثر استقلالا عن الدعم الخارجي المتحكم به أمريكيا بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذه السياسة والحسابات التي توصف بـ»الخاطئة» للإدارة الأمريكية سوف تؤدي إلى مالا يحمد عقباه، وقد يكون أحد الأسباب الأخرى لهذه السياسة هو إصرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما على عدم الدخول في حروب جديدة في الشرق الأوسط بعد الحرب على العراق.
لكن الهروب من المشكلة لا يحلها، وسواء رغبت حكومة الولايات المتحدة أم لم ترغب فهي مسؤولة بشكل أساسي عن عودة الأمن والاستقرار إلى المنطقة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة والقادرة على التأثير الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبرها من أهم مناطق العالم لمصالحها الاقتصادية والسياسية.
خاصة وان المطلوب ليس تدخلا عسكريا امريكيا مباشرا كما يظن بعض معارضي التدخل الامريكي في الشأن السوري، بل هو فقط رفع الحظر عن الأسلحة للثوار السوريين وربما بعض المساعدات اللوجستية والاستخباراتية وبعض الأسلحة النوعية التي تمكن الثوار من مواجهة النظام وأسلحته الكثيرة التي يزوده بها حلفاؤه الايرانيون والروس وغيرهم، أو على الأقل تحقيق التوازن معه.
أما الحجة التي يتذرع بها البعض بانه ليس من المستحسن إرسال أسلحة اخرى إلى المنطقة فهي مخالفة للواقع والمنطق، فالأسلحة تتدفق على نظام الأسد من حلفائه بازدياد، ووقف هذا التدفق لا يكون إلا بتسليح الطرف الآخر بما يمكنه من الوقوف في وجه هذا النظام.
ان عدم مواجهة ما يحدث في سوريا وعدم المساهمة في حل مشكلة تمترس نظام بشار الأسد ومن ورائه ايران وغيرها يؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على العراق وغيره من دول المنطقة، إذ ان بقاء نظام بشار الأسد هو أكبر مسبب لعدم الاستقرار وانفلات الأمن والسلم في الإقليم ويتسبب بإشعال النيران في أكثر من بلد فيه، وهو ما هدد به الأسد المنطقة في حال زواله بعدة تصريحات له مؤخراً.
وما يحدث الان من انضمام شعبي متزايد في العراق وسوريا لصفوف «الدولة الإسلامية» ولجبهة «النصرة» لن يكون من السهل الانتهاء من نتائجه السلبية على المنطقة وعلى العالم، خاصة بانضمام صفوف الكثيرين من الأجانب إلى هاتين المنظمتين واحتمال عودتهم المستقبلية إلى دولهم بعد اكتسابهم أفكاراً جهادية وخبرات قتالية، وما يمكن ان يفعله هؤلاء من أعمال قد تهدد استقرار وأمن تلك الدول.(الاناضول)
“داعش”.. حسابات الربح والخسارة/ علي أنوزلا
حتى الآن، نجح تنظيم داعش في أمر واحد، هو خلط الأوراق في المنطقة، فقد أدت الحرب التي أشعلها في العراق وسورية، ووصلت شظايا نيرانها إلى لبنان، في التقاء مصالح الأعداء، والجمع بين الأضداد. والمؤكد أن الحرب المشتعلة التي تشارك فيها أكثر من دوله ستؤدي، حتماً، إلى إعادة توزيع الأدوار وترتيب الأوراق.
ولو حاولنا قراءة التحالفات والتقاربات الحالية في المنطقة التي فرضتها مواجهة خطر داعش، من خلال حساب الربح والخسارة، سنكتشف متناقضات عديدة، كان يصعب حتى أيام قليلة تخيلها، وبالأحرى وجودها على أرض الواقع، وهي ما زالت في طور التبلور لإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، يصعب، من الآن، تحديد ملامحها النهائية.
لنبدأ بالمستفيدين، اليوم، من وجود داعش، فهم كثيرون يسعون إلى استثمار الوضع الحالي، للدفاع عن مصالحهم في المنطقة.
ـ على رأس هؤلاء، يأتي الأميركيون الذين خرجوا مهزومين من العراق، بعد أن تحول إلى ولاية إيرانية تمزقها الحرب الطائفية. فلن تجد واشنطن فرصة أحسن من داعش للحد من النفوذ الإيراني في العراق، ولعل أولى بوادر تراجع هذا النفوذ يتمثل في استقالة نوري المالكي، مرغماً لا بطل.
ـ وإذا كان هناك من ينظر بعين الرضى إلى تمدد داعش، فهم الإسرائيليون، الذين استغلوا حالة الفوضى في المنطقة، لشن عدوانهم على غزة. ويكفي أن نعرف أن ما أحدثته داعش من تقتيل وتشريد وتخريب وتمزيق لم تحدثه إسرائيل منذ قيامها عام 1948، من دون الحديث عن الحروب البديلة التي تخوضها داعش ضد أعداء إسرائيل في المنطقة، سورية وإيران، عبر أذرعها في العراق ولبنان.
ـ لكن، إذا كان هناك من شعب محظوظ في المنطقة سيخرج فائزاً من هذه الحرب، فهم الأكراد الساعون إلى إقامة دولتهم المستقلة. فقد ساعدتهم فوضى داعش على إضعاف الدولة المركزية في بغداد، ومنحتهم اعترافاً دولياً غير مسبوق، يمهد لإعلان استقلال دولتهم الذي أصبح مجرد مسألة وقت.
ـ وغير بعيد عن المنطقة، تجد الأنظمة الاستبدادية في حالة الفوضى العبثية، والجرائم البشعة لتنظيم داعش، أحسن فزاعة لتخويف شعوبها من المآل الذي ينتظرها، وستتخذها ذريعةً لقمع طموحاتها وتطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية والكرامة، بدعوى محاربة الإرهاب.
ـ وإذا كانت إيران وحلفاؤها في العراق وسورية ولبنان، سيخسرون على مستوى النفوذ، إلا أن طهران نجحت، حتى الآن على الأقل، في وضع نفسها حليفاً موضوعياً للغرب في المنطقة، باتت مساعدتها مطلوبة للحد من تمدد داعش، وهو ما قد توظفه إيران غداً في مفاوضاتها مع الغرب بشأن برنامجها النووي.
ـ وأخيراً وليس آخراً، يأتي نظام الأسد في سورية كأحد المستفيدين الأوائل من وجود داعش، إن لم يكن فعلا هو وراء خلقها، لضرب معارضيه بعضهم ببعض، ولتبرير إدعائه بأنه يحارب تنظيمات إرهابية، وليس ثورة شعبية.
“أكبر الخاسرين من جرائم داعش صورة الإسلام الذي حوله التفسير الجاهل لهذا التنظيم إلى دين للقتل، وجز الرؤوس والإعدامات الجماعية والتعصب والتطرف والإرهاب. وقد بدأ، من الآن، ترويج خطابات إعلامية مغرضة، تهدف إلى إيجاد إسقاطات لهذا الفكر المتطرف، على فهم الإسلام السياسي، والتنظيمات الإسلامية، للدين”
أما الخاسرون من الحرب الدائرة فهم كذلك كٌثر.
ـ لنبدأ بالضحايا المنسيين من المدنيين العزل الذين يقتلون ويشردون يومياً في العراق وسورية.
ـ لكن أكبر الخاسرين من جرائم داعش صورة الإسلام الذي حوله التفسير الجاهل لهذا التنظيم إلى دين للقتل، وجز الرؤوس والإعدامات الجماعية والتعصب والتطرف والإرهاب. وقد بدأ، من الآن، ترويج خطابات إعلامية مغرضة، تهدف إلى إيجاد إسقاطات لهذا الفكر المتطرف، على فهم الإسلام السياسي، والتنظيمات الإسلامية، للدين، انطلاقاً من المثل المأثور “ليس في القنافذ أملس”.
ـ وهناك خاسرون، صامتون، سيبتلعون خسارتهم، إنها الأنظمة العربية وأجهزة مخابراتها، التي دعمت مادياً، أو على الأقل، غضت الطرف عن تعزيز صفوف داعش بمتطوعين من بلدانها لمواجهة النظام السوري.
وبعيداً عن حساب الربح والخسارة، فالمؤكد أن دولة داعش، على الرغم من كل الخراب الذي أحدثته في المنطقة والنفوس، لن ترى النور لعدة أسباب:
ـ أن الغرب والمجتمع الدولي لن يصمت طويلا على الجرائم البشعة لـهذا التنظيم، خصوصاً عندما يكون الضحايا من المسيحيين والأقليات الإثنية والدينية، كما أنه لن يسمح بإقامة دولة لمتشددين ومتطرفين. وقد بدأ الغرب، فعلاً، بوضع حد لبشاعة جرائم “داعش”.
ـ السبب الثاني أن “داعش”، كتنظيم عقائدي متطرف، لم ينجح في توفير حاضنة شعبية له في المناطق التي سيطر عليها، فهو له مقاتلون عقائديون وأنصار ايديولوجيون، وليست له قاعدة شعبية، وحدها الكفيلة باحتضانه وتبني مشروعه، هذا إذا كان له فعلا مشروع!
ـ سبب آخر لا يقل أهمية عما سبقه، بل هو أساس وجود كل تنظيم، ويتعلق الأمر هنا بالمشروع الذي يقاتل التنظيم من أجله، وهو مشروع يحمل بين طياته عوامل هدمه من الداخل. ليس لأنه مشروع طوباوي، وإنما، أيضاً وقبل ذلك، بسبب بشاعة وسائل إقامته، فقد انتهى عهد فرض الأفكار، وإخضاع الناس للطاعة العمياء، ولو كان ذلك باسم الدين.
يبقى أن داعش، كفكرة، دعمت وجودها أنظمة استبدادية لإفساد الربيع العربي، لتضرب بها الإسلام السياسي الذي حمله هذا الربيع إلى السلطة، في الدول التي شهدت ثورات شعبية، مآلها الفشل، لأنها مجرد أداة لخدمة أجندات سياسية للدول التي دعمتها، قبل أن تتخلى عنها، بعد أن تستنفد أغراضها منها، أو لأنها باتت تتخوف منها، بعد أن خرج الوحش من القمقم.
لذلك، لا يجب ترك فكرة مواجهة فكر داعش للأنظمة التي تعتمد مقاربات أمنية صارمة، تبيح لها ارتكاب تجاوزات في مجال حقوق الإنسان، لا أحد سيسألها عنها بدعوى “محاربة الإرهاب”، وهذا واجب المثقفين والسياسيين والإعلاميين الذين عليهم، من الآن، التعبير بوضوح عن إدانتهم جرائم أصحاب هذا الفكر الظلامي. فلا يعقل أنه لم تخرج، حتى اليوم، مظاهرة واحدة في أية مدينة عربية، تندد بالجرائم البشعة لهذا التنظيم الهمجي!
العربي الجديد
ما يصح في العراق.. يصح في سوريا/ إياد أبو شقرا
هل أصبحت «داعش» الأساس الذي تُبنى عليه سياسات المجتمع الدولي إزاء تعقيدات أزمات الشرق الأوسط، وهنا أتعمد استخدام كلمتي «أزمات» و«تعقيدات» بصيغة الجمع.
أنا لست ممن يجدون الأعذار لـ«داعش» ومن سار على نهجها، ولا من أولئك الذين يجهدون في البحث عن مبررات أو أسباب تخفيفية لجرائمها، إذ لا عذر لمن يرى القتل – والقتل وحده – وسيلة لممارسة السلطة والتعامل مع الناس. ولا أحسب أنه يجوز لنا في القرن الـ21، في خضم ثورة المعلوماتية والتواصل، السماح لجماعات ظلامية وظالمة باحتكار الإسلام، بعدما كان الدارسون في جنديسابور وبغداد وفاس وقرطبة في طليعة مَن مدّنوا البشرية وأسهموا في حضاراتها الإنسانية وتقدمها في مجال العلوم والفلك والطب والفلسفة والترجمة وغيرها.
لا… لا أعذار لـ«داعش» ولا لغيرها من الزُّمَر التي قررت، من دون أن تشاور المسلمين، تشويه سمعة دينهم، وتدمير حيواتهم ومستقبل أجيالهم، فتخوض حربا متخلفة عديمة التكافؤ مع مجتمع دولي قادر في أي لحظة على إفنائها… لا يمنعه من ذلك سوى تحفّظ كتلتين هما: أولا، الجماعات التقدمية والليبرالية التي ترفض، من منطلقات مبدئية، استخدام العنف حتى مع مستخدميه. وثانيا، التيارات العنصرية المتطرفة التي ترى أن البيئات التي نَمَت فيها مثلُ هذه الحركات المتطرفة المتخلفة تستحقها، لأنها – حسب زعمها – إنما هي بيئتها الحاضنة، ومن ثم يجب أن تدفع من استقرارها ثمن احتضانها إياها.
ولكن، مع تأكيد الرفض المبدئي لأي تعايش مع التطرف التكفيري والتهجيري الدموي، أزعم أنه لا يصح أن تختصر هذه الظاهرة الخطيرة كل تعقيدات المنطقة، كما يجب التشديد على أن ثمة جوا إقليميا مسموما وفّر لعملاء ومشبوهين وطغاة تجنيد شباب مغرر به من مختلف أنحاء العالم والزج به في معركة، الغاية منها حرف مسار الثورة الشعبية السورية والقضاء على صدقيتها.
للأسف، لا بد من الإقرار بتأخر الثورة السورية في إعلان براءتها من الدخلاء الذين ادعوا نجدتها قبل الانقلاب عليها بالسلاح والنار.
وأيضا، ينبغي الإقرار بوجود جهات رسمية وإعلامية، عربية وإسلامية، تسير فعلا باتجاه إيجاد الأعذار والمبررات، وهي تنشر تعليقات غبية وعديمة المسؤولية تدافع عن التطرف باعتباره «رد فعل طبيعيا على الظلم» الذي يتعرض له «المسلمون» و«الإسلاميون» في بلداننا. هذه في اعتقادي ديماغوجية خرقاء، هدفها كسب تعاطف التيارات المُحبَطة من ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، والتمدد الإيراني، المتغاضى عنه أميركيا وإسرائيليا، على امتداد العراق وبلاد الشام وفي غير مكان من الخليج وشبه الجزيرة العربية، وإخفاق بعض قوى الإسلام السياسي في الاحتفاظ بقوة الدفع التي أتاحت لها مؤقتا بلوغ السلطة في بعض دول «الربيع العربي».
لقد كشفت التطورات المتلاحقة خلال الأسابيع الأخيرة، عن حقيقة – ما عادت تقبل سوء التفسير – هي أن ثمة سلوكيات تستعصي على التجاهل عندما تنكأ جروحا دينية ومذهبية وعنصرية قديمة لم ينسها العالم.. ولن ينساها. وعلينا تذكر كيف فهم النظام السوري المجرم أن ترويج شعار «حماية الأقليات» ضروري لتغطية إجرامه وفساده في الغرب، وحقا تمكن من اتهام الثورة بالتطرف الديني و«بيع» أضاليله لجمهور غربي متحمس أصلا لتصديقه، ناهيك بـ«مؤسسة سلطة» إسرائيلية متناغمة معه منذ عقود كثيرة.
كذلك، انضمت إلى حملة «مكافحة التكفير والتكفيريين» دولة «الولي الفقيه»… التي تفننت في خطف الأجانب خلال عقد الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي في إيران ولبنان وأماكن أخرى من الشرق الأوسط، وهي تمد في أرض فلسطين بالمال والسلاح الجماعات نفسها التي تقاتلها وتتهمها بأنها بيئات حاضنة لـ«التكفير» في سوريا والعراق ولبنان!
أين نحن اليوم؟
باراك أوباما بعد قوله إن «الإيرانيين استراتيجيون وليسوا انتحاريين»، ممهِّدا بذا الطريقَ لتعاون إقليمي وثيق معهم، كرر السخرية من ثوار سوريا المعتدلين بحجة أنهم «شلة من الأطباء والصيادلة والمهندسين غير المؤهلين للتغلب على نظام تدعمه إيران وروسيا».
وبعدما تجاهلت واشنطن، والعواصم الغربية إقدام بشار الأسد على تدمير مدن سوريا واستخدامه السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة بعد سيل من التهديدات الفارغة… ها هي تتحرك في العراق!
لقد تحركت واشنطن بسرعة وحزم – وحسنا فعلت – لوقف فظائع «داعش» بحق الأقليات الدينية المسيحية وغير المسيحية في شمال العراق. وأيضا تحركت بقوة لوقف الابتزاز السياسي الذي مارسه نوري المالكي لأشهر… فوفر لـ«داعش» وكل من قاتل معها وبجوارها مسوغات اجتياح الموصل وجبل سنجار والوصول إلى جلولاء، قرب الحدود مع إيران، بعد مسلسل فظيع من القتل والتشريد وتدمير دور العبادة والمزارات.
إطلاقا، ليس خطأ أن تبادر واشنطن وباريس إلى ضرب «داعش» والضغط لتخليص العراق من المالكي وأمثاله، لكن الخطأ يكمن في «تجزئة الحل» و«الكيل بمكيالين» مع الحالتين العراقية والسورية، مع أن المعطيات السياسية والأمنية هي هي في القطرين الشقيقين.
إن بقاء حكم الأسد، المستند إلى مشروع إقليمي طائفي متعصب، أسس لنشوء حالات تطرف مضاد، ولو حسم المجتمع الدولي أمره في وقت مبكر – كما فعل مع المالكي – ففرض فرضا على الأسد التخلي عن السلطة، لجنّب سوريا الانهيار السياسي والتمزق الطائفي والتدمير العمراني والثقافي والاقتصادي، ولما كان أتاح لشراذم «داعش» وغيرها دخول سوريا من كل حدب وصوب… فتعيث فيها فسادا وإظلاما.
ما يفعله المجتمع الدولي في العراق اليوم ضروري… لكنه ليس كافيا. واستطرادا، فضرب «داعش» وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هوية العراق عبر حكومة تطمئن الجميع ويغيب عنها أولئك الذين تسببوا في إضرام نار الفتنة – مطلوب فعله في سوريا أيضا.
في سوريا أيضا فتنة قاتلة، وهي أيضا مسرح لمؤامرة «تصدير» التطرف، ولن يكون ممكنا السير قدُما نحو حل إنساني وسياسي قابل للحياة في سوريا مع بقاء نظام مارس القتل والتهجير والتطهير الطائفي والعرقي منذ أكثر من ثلاث سنين.
الشرق الأوسط
سؤال كبير … كيف تشكّلت داعش؟/ نواف القديمي
-1-
منذ اشتعلت احتجاجات الربيع العربي، وحتى ظهور داعش وتمددها، بدا هذا المشرق عصيّاً على التنبؤ والاستشراف. وبالتزامن مع طغيان الظاهرة التلفزيونية، المتوائمة مع نمط الوجبات السريعة في التحضير والتقديم، تتعملق الظواهر، وتتغير الخرائط، وتنفجر المكبوتات، من دون أن تحظى بما يلزم من دراسةٍ متأنيةٍ، وفهمٍ لدواعي النشوء وسواقي التغذية والنمو. وبسبب ذلك، وخارج فضاء التجاذب الفكري والسياسي، لم يحظ التنظيم الذي طغى على المشهد السياسي في سورية والعراق، تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بدراسةٍ بحثيةٍ موسعةٍ، تسعى إلى تفسير وتحليل أسباب نشوء وتشكّل هذا التنظيم، الذي غدا الأكثر غموضاً وتطرفاً وتمدداً وتقويضاً لجغرافيا الدولة الوطنية الحديثة.
ربما، ليس أيٌّ من التفسيرين، الاجتماعي السياسي والعقائدي اللاهوتي قادراً، بمفرده، على الإجابة عن تساؤلاتٍ مركّبة ترافق حضور هذا التنظيم و”تمدده”، وتزايد أعداد المنتمين إليه، وقوته المالية والإعلامية، بشكلٍ فاق توقعات أكثر المحللين مجازفة في استشراف ما يحدث في سورية والعراق.
في السادس من أغسطس/آب الجاري، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً مهماً في “العربي الجديد” بعنوان “من يقف خلف داعش؟ سؤال عقيم”، شرح فيه كيف بدا التراشق السياسي هو الطاغي في ثنايا البحث عن “الطرف” الذي يقف خلف تأسيس تنظيم داعش، باعتبار أن وجود طرف سياسي، دول على وجه الخصوص، أنشأ هذا التنظيم، للاستفادة منه في إفشال مشروع الخصوم، بات أمراً مُسلّماً به، وخارج دائرة التفكير والاختبار. فيما هو لا يعدو أن يكون تكراراً لما جرى كثيراً في التاريخ السياسي الحديث، من ناحية استثمار كل طرف ما هو متاح لتبشيع الخصم السياسي وشيطنته، واعتباره مصدراً لكل الشرور والموبقات.
وإذا كان الصراع السياسي المحتدم أنتج تراشقاً في الاتهام بالمسؤولية عن تأسيس هذا التنظيم، بهدف الإدانة، واستثمار المناخ الدولي القلق من تنامي ظاهرة الإرهاب، فإن لنشوء “تنظيم الدولة الإسلامية”، من دون شك، ظروفاً موضوعية، هي التي أدت إلى تشكّل هذا التنظيم ونموه وتمدده، وهي المساحة التي لم تحظ بعد بما تستحقه من تقصٍ وتحليل. وقد ألمح الدكتور بشارة إلى بعض هذه الأسباب في مقاله القصير. وإذا كان النزوع المؤآمراتي والخصومة السياسية هما اللذان أنتجا سؤال: من يقف خلف داعش؟ فإن الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟
“ليس أيٌّ من التفسيرين، الاجتماعي السياسي والعقائدي اللاهوتي قادراً، بمفرده، على الإجابة عن التساؤلات المركّبة التي ترافق حضور تنظيم داعش وتمدده”
ولا يمكن استسهال الإجابة عن هذا السؤال، بمجرد اعتبار داعش تطوراً منطقياً للسلفية الجهادية، ولا بكونها امتداداً طبيعياً للمدرسة الوهابية النجدية، ولا باعتبارها نتيجة متوقعة لتنامي الاستبداد والتهميش والحروب والبطالة التي سادت دوائر واسعة من المجتمعات العربية.
من المؤكد أن لنشوء داعش علاقة بذلك كله. لكن، لا يمكن لأيٍ من هذه القوالب التفسيرية أن تقدم إجابات متماسكة لأسئلةٍ كثيرة ممتدة بحجم الجغرافيا التي بات يهيمن عليها هذا التنظيم.
محاولة توصيف..
سأحاول، فيما يلي، أن أسجل ملامح في الخطاب السياسي والسلوك الميداني لتنظيم “الدولة الإسلامية” اللذين يجعلانه، في تقديري، متمايزاً عن التنظيمات الجهادية التقليدية، وخارج قوالب التفسير المألوف لنشوء هذه التنظيمات:
1- فمن ناحية، نحن أمام “تنظيم عقائدي وسياسي”، يمثل أقصى حالات التوحش والساديّة والغلو الديني والعنف العسكري، إلى درجة بدا معها تنظيم القاعدة، الذي تسيد زمناً المربع الأخير في اليمين الديني والسياسي، معتدلاً وقابلاً للحوار، بل وصلت المفارقة إلى درجة أن غدا خطاب القيادات الشرعية التاريخية لتنظيم القاعدة لا يفتأ يُحذّر من الغلو والتكفير وفكر الخوارج الذي يرونه تجلى بأبشع صوره في سلوك تنظيم داعش.
2-ومن ناحية أخرى، ومع كل هذه الصلابة العقائدية، نحن أمام تنظيم يمثل حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية السياسية، في سلوكه على الأرض، وفي اختياره معاركه، وفي تقديره الأوزان العسكرية للدول والقوى المحيطة به، والتعامل معها وفق ذلك. ولهذا السلوك البراغماتي شواهد كثيرة. منها ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، حين بقي، أكثر من عام، يخوض معارك شرسة ضد الفصائل الثورية في سورية، وكثيرٌ منها منتمٍ بشكل ما، يزيد أو ينقص، للسلفية الجهادية، في حين أن جبهاته الواسعة مع النظام، الذي يعتبره نُصيرياً كافراً، هادئة، ومعاركه معه لا تكاد تُذكر.
“الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟”
ولو نظرنا إلى خريطة المساحات التي يهيمن عليها تنظيم داعش في سورية، لوجدنا أن جميعها مساحات مُنتزعة من الفصائل الثورية، لا من النظام السوري. وفي المقابل، نجد أن النظام السوري تجنب، عمداً، خلال هذا العام، الدخول في أي مواجهات تُذكر، أو قصف المواقع والمدن التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (يمكن المقارنة مثلاً بين قصفه حلب والرقة)، بل كان النظام يتعمّد، كما في شواهد كثيرة، مقاتلة وقصف أي فصائل ثورية تدخل في مواجهات ومعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، وكأنه يخوض معه المعركة نفسها. أيضاً، رأينا مقدار تشدد تنظيم الدولة الإسلامية في هدم كل المراقد والمزارات والأضرحة، حتى تلك التي تُنسب إلى الأنبياء والصحابة، باعتبارها مظاهر شركيّة. لكن، حين تعلق الأمر بضريح جد العثمانيين “سليمان باشا” الموجود داخل سورية، وفي المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فلم يكتفِ التنظيم بالامتناع عن هدمه، بل سهّل دخول القوات التركية للضريح وحماها. وحتى الآن، تقوم قوات داعش بحمايته، ولم تتعرض له بالهدم.
أيضاً، فيما يخص علاقة تنظيم الدولة الإسلامية بالفصائل المسلحة في سورية، ففي وقت تخوض فيه داعش معارك شرسة، لا تخلو من نزعات انتقامية، وإعدامات ميدانية، وقطع رؤوس أسرى، وخطاب تكفيري حاد مع فصائل محسوبة على السلفية الجهادية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام وسواهما، فإن التنظيم، في المقابل، قَبِل بمبايعة فصائل مسلحة وولائها، هم أقرب لقطاع طرق وجباة أموال ومليشيات ارتزاق، وكثيرٌ من هذه الفصائل بايعت تنظيم الدولة الإسلامية، لدوافع مادية، أو للاحتماء بها، من العقاب الذي فرضته عليها الهيئات الشرعية (كما تكرر ذلك مراراً في ريفي حلب ودير الزور وسواهما). ومن الشواهد أيضاً، يمكن أن نذكر قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على معرفة المناطق التي تُمثل خطوطاً حمراء لدول مؤثرة وعدم اقتحامها (كما في أربيل التي تُمثل خطاً أحمر أميركياً، وبغداد ومناطق الكثافة الشيعية في العراق التي تُمثل خطاً أحمر إيرانياً)، فضلاً عن عدم فتح هذا التنظيم جبهات مع قوات النظام السوري، سوى باستثناءات محدودة، على الرغم من الحدود الواسعة بينهما. لذلك، تجد أن كل المدن التي تخضع، الآن، لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، هي مدن مُنتزعة من الفصائل الثورية، ولم تنتزع داعش أي مدينة من النظام السوري، لأنها، في الأصل، لا تخوض معارك معه. وثمة شواهد أخرى عديدة على هذا السلوك المفرط في البراغماتية لتنظيم الدولة الإسلامية.
3-لا يمكن اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية مجرد تطور طبيعي للسلفية الجهادية، أو للمدرسة الوهابية، ففي وقت تتباين فيه المرجعيات المدرسية للسلفيات الجهادية في العالم العربي (مثلاً جماعة الجهاد في مصر اتكأت في تأصيلها مواقفها على نصوص ابن تيمية وفتاويه، مع استلهامٍ لأفكار المفاصلة لدى سيد قطب.
“يمكن أن نذكر قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على معرفة المناطق التي تُمثل خطوطاً حمراء لدول مؤثرة وعدم اقتحامها”
في المقابل، كانت التنظيمات الجهادية في الجزائر والمغرب تعتمد على تراث المذهب المالكي، في تأصيل التكفير والقتال، خصوصاً التراث الذي تكوّن، في المرحلة التي هيمنت بها الدولة الفاطمية على المغرب العربي الذي ينتمي معظم سكانه للمذهب المالكي، فتراكم تراثٌ لفقهاء مالكية يكفّر السلطة الفاطمية، ويدعو إلى الخروج عليها. فيما كانت التنظيمات الجهادية في الشام والعراق والخليج أقرب لاستلهام نصوص المدرسة النجدية الوهابية في التكفير والقتال). لكن تنظيم الدولة الإسلامية يبدو خارج هذه الدوائر جميعها، فهو تنظيم، على الرغم من امتداده وكثرة المنتمين إليه، لم يُصدر تنظيراً شرعياً تأسيسياً موسعاً لمواقفه العقدية والسياسية، يمكن الاعتماد عليه ودراسته، وما أصدره لا يعدو أن يكون تأصيلاً لاحقاً ذا طابعٍ تبريريٍ جدلي، كما لا تنتسب لهذا التنظيم أيٌّ من الشخصيات الشرعية المعروفة، والمؤثرة في الوسط الجهادي، ويخلو من أي شخصية شرعية لها وزن. بل إن جميع الشخصيات الشرعية التاريخية المرموقة في الوسط الجهادي، أو المؤثرة عليه (من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وأبو بصير الطرطوسي، وسليمان العلوان، وهاني السباعي، فضلاً عن زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري) أصدرت بياناتٍ متعددة، تُحذر من غلو تنظيم الدولة الإسلامية، وتساهله في التكفير وسفك الدماء، وعدم شرعيّة إعلانه الدولة ثم الخلافة.
4-وفي مقابل خلو تنظيم الدولة الإسلامية من شخصيات شرعية معتبرة، تتصدر السلّم القيادي لهذا التنظيم شخصيات عسكرية، معظمهم كانوا ضباطاً في الجيش العراقي البعثي زمن صدام حسين، (مثل حجي بكر، وأبو مسلم التركماني، وأبو عبد الرحمن البيلاوي، وأبو أحمد العلواني، وأبو مهند السويداوي، ومحمد الندى الجبوري، وسواهم). فوجود مثل هذه الأسماء على رأس تنظيم الدولة الإسلامية، من دون أن يكون لها أي سابقة، أو تاريخ في العمل الجهادي، ومن دون أي مخزون شرعي أو “ثقافة جهادية”، أو تطور منطقي في تراتبية التنظيم والولاء، تبرر قيادتهم تنظيماً، يقع في أقصى يمين السلفية الجهادية، هو أمرٌ يثير أسئلة مشروعة عن الدوافع المحركة لهذه القيادات، وطبيعة هذا التنظيم وظروف تكوّنه، وعن مدى وجود “بنية نظرية صلبة” لدى هذه القيادات تُمثل محركاً رئيسياً للقيام بهذا “المشروع الجهادي”.
يمكن اعتبار ما سبق بعضاً من مناطق التمايز والاختلاف بين تنظيم الدولة الإسلامية وما ألفه الدارسون، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، من تنظيماتٍ تنتمي للسلفية الجهادية. لذلك، حين نبحث في أسباب نشوء هذا التنظيم، ونقيّم خطابه الشرعي وسلوكه السياسي والعسكري، يجب أن نأخذ هذه التباينات بعين الاعتبار.
ويبقى السؤال: كيف استطاع تنظيم الدولة الإسلامية امتلاك كل هذه القوة العسكرية، والامتداد الجغرافي، وتوفير هذا الكم من التمويل والتسليح، والقدرة العالية على التعبئة والحشد في مواقع التواصل الاجتماعي ومقاطع اليوتيوب والأفلام التوثيقية؟ وقبل ذلك كله، كيف استطاع كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، مع وجود هذا الكم من التوحش والشغف بالقتل، وعلى الرغم من انتقاد واتهام جميع الشخصيات الشرعية المعتبرة للحالة الجهادية لهذا التنظيم؟ خصوصاً إذا ما قورن ذلك كله بالإمكانات المتواضعة للتنظيمات الجهادية الأخرى في الساحة السورية والعراقية.
-2-
استطاع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”، أن يمتلك قوة عسكرية، ويحقق امتداداً جغرافياً، ويوفر كماً لا يستهان به من التمويل والتسليح، إلى جانب كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، ونجده اليوم حاضراً في نقاشاتٍ ومحاولات فهم متعددة، لذلك، وفي هذا الجزء من الورقة، وهو الثاني والأخير، سأحاول الإشارة، بشكل مختصر، إلى مسائل أحسب أنها ساهمت في ظهور هذا التنظيم بالشكل الذي نراه اليوم:
1- لتنظيم الدولة الإسلامية تاريخ معتبر في العراق، مَنَحهُ شرعية فكرية وميدانية، لا ينافسه عليها أي تنظيم جهادي في منطقة أخرى في العالم الإسلامي، خصوصاً أن الوجود الميداني العملي والهيمنة لسنين على مساحات واسعة من الأرض يضفي على التنظيم مشروعية واقعية، كثيراً ما تتجاوز في تأثيرها المشروعية النظرية والتراتبية التنظيمية في سُلّم الحركة الأم “قاعدة الجهاد”. لذلك، حين انتقد زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، دخول الدولة الإسلامية سورية، ودعاها إلى العودة إلى العراق، كان رد قيادات شرعية وإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية يرتكز على استعراض النجاحات والصعوبات والمواجهات التي عانى منها تنظيم الدولة، طوال ما يقارب العقد من وجوده في العراق، والدور المحدود، أو المعدوم، لأيمن الظواهري في هذا التأسيس. لذلك، اعتبروا أنه لا يملك الحق في فرض رأيه على تنظيمٍ لم يُسهم في صُنع نجاحاته، ولم يتحمل شيئاً من عبء تأسيسه ومواجهاته.
2- وامتداداً للفقرة السابقة، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية أن يصنع، وعلى مدى سنين، حضوره وجمهوره وجاذبيته ومشروعيته الجهادية، لا على الشهادات والتزكيات المقدمة من القيادات التاريخية للسلفية الجهادية، ولا على “صحة الموقف الشرعي”، بل على “وهج الإنجاز”، وعلى اقتراب تحقيق الحُلم الجامح في المخيلة النضالية لشباب الجهاد بتأسيس “دولة الإسلام”. (مثلاً تنظيم القاعدة استطاع في الشهور التي تلت حصول “منجز” 11 سبتمبر أن يكسب كوادر ومنتمين له، أضعاف الذين استطاع اكتسابهم في عدة سنين، سبقت “11 سبتمبر” عبر الإقناع السياسي والشرعي، كل ذلك بسبب “وهج الإنجاز”). لذلك، لن تجد أن المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية معنيون كثيراً بالتنظير الشرعي لمواقفهم وأفعالهم، أو مهمومون بالجدل حول مسائل العذر بالجهل وإقامة الحُجّة ونواقض الإسلام وأحكام الردة، بقدر ما هم مهمومون بمطاردة خيال “إمبراطورية الخلافة” التي يُريدون أن ينفخوا في جسدها الروح من تحت ركام التاريخ، ويسعوا إلى إعادة رفع لوائها من جديد، ولو كان على جبلٍ من جماجم “إخوة المنهج”.
وهذا ما يُفسر وجود أعداد كبيرة من المهاجرين غير العرب “شيشان وأوروبيين وسواهم” في صفوف تنظيم الدولة، وهم لا يتكلمون العربية، مما يشير إلى أن دوافع وجودهم مرتبطة “بالإيمان والوجدان” أكثر ارتباطها بالقناعة الشرعية.
3- الحروب بطبيعتها تمثل قمة الانفعال الوجداني والاستعداد النفسي لتبني أكثر الأفكار راديكالية وتشدداً. لذا، نجد أن بلداً، مثل سورية، كان خالياً من الوجود المنظم للإسلام السياسي طوال عقود، وفي الوقت نفسه، كان الخطاب العلماني هو الحاضر الوحيد في عمل المؤسسات ووسائل الإعلام الرسمية، إضافة إلى وجود تنظيماتٍ يساريةٍ وقوميةٍ، لها تاريخ طويل في الساحة السورية. ومع ذلك، حين بدأت الثورة، وبعد عامٍ من تحول الاحتجاج السلمي إلى عمل مسلح، ساد الفكر السلفي معظم الفصائل المقاتلة في سورية، وبدا سلوك “المزايدة في التشدد” ينمو كممارسة اعتيادية عند المنتمين لهذه الفصائل (بعض قادة أكبر الفصائل الثورية كانوا يُعلنون في بداية العمل المسلح أن مقصد ثورتهم وقتالهم هو التخلص من النظام الاستبدادي وبناء دولة ديمقراطية. لكن، بعد شهور، وبسبب تنامي الحالة السلفية، صار التصريح بذلك متعذراً، ويجرُّ على قائله مسرداً طويلاً من الاتهام والتكفير والطعن، وبات الهدف المُعلن للعمل المسلح عند معظم الفصائل هو “تطبيق الشريعة” و”بناء دولة إسلامية”، وغدت الديمقراطية نظاماً كفرياً، لا يتناسب مع بلدٍ مسلم. ومن زار المناطق المحررة واستمع لخطاب بعض الكوادر المقاتلة، يلمس بوضوح حجم الضغط المعنوي الذي يمثله الخطاب السلفي، حتى أنك قد تجد مقاتلين غير ملتزمين بأداء الصلاة، ومع ذلك هو يُصرّ على إعلان سلفيته!). فكان الفكر السلفي، بجرعاته المفرطة في اليقينية وخطابه الجهادي التضحوي، البيئة الملائمة للعمل المسلح ضد نظامٍ طائفيٍ، لم يتوانَ عن حشد كل أنصار الطائفة في مقاتلة خصومه “التكفيريين”.
4- وفي مقابل هذا السياق، وفي أثناء التصاعد المستمر لمؤشر البوصلة الفكرية في المناطق المحررة، باتجاه مزيدٍ من التشدد، كان الجناح السوري في تنظيم القاعدة “جبهة النصرة” يأخذ اتجاهاً معاكساً، ويتقدم بخطواتٍ نحو الاعتدال، حيث قرر التحالف مع الفصائل الثورية الأخرى، والاهتمام بالحاضنة الشعبية، وتأجيل “تطبيق الشريعة والحدود”، وإعلان أن هدف قتالهم هو “نصرة الشعب السوري المستضعف” لا “تأسيس دولة”. ذلك كله تم وسط حربٍ شرسةٍ، قادها النظام السوري، وقصف مستمر بالبراميل المتفجرة، وحشد ميليشياتٍ طائفيةٍ من دول أخرى، وارتكاب عشرات المجازر، في مناخٍ دموي وفّرَ بيئة ملائمة للمزاودة بالتشدد.. فكان تمدد “الدولة الإسلامية”، عند المهاجرين خصوصاً، على حساب “جبهة النصرة” متوائماً مع المناخ العام الذي يدفع باتجاه مزيدٍ من الغلو لا الاعتدال.
5-لا يمكن تفسير مقدار التوحش والعنف والساديّة والقتل على الهوية والإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث وتعذيب الأسرى والصلب الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية، من دون الحديث عن ظروف نشأة هذا التنظيم في العراق، وذلك لأن كل هذا التوحش الذي نراه، اليوم، في الساحة السورية، مجرد نقل جغرافي للأفعال ذاتها التي مارسها التنظيم في العراق، وكذلك لأن شخصيات الصف الأول في قيادة هذا التنظيم، وشخصيات كثيرة من الصف الثاني هم من العراقيين.
ولأن العراق عاش عقوداً صعبة من العنف والاضطهاد والحروب والفقر والقتل على الهوية، لم تبدأ بتعاقب أنظمة ديكتاتورية، مارست أبشع أشكال القمع والتدمير المعنوي للمواطنين وعسكرة المجتمع، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الخليج التي أعقبها حصار اقتصادي خانق، فاحتلال أميركي أمعن في القتل والتعذيب، وليس آخرها تسليم البلد لنظام طائفي قمعي، دفع باتجاه قيام حرب طائفية دموية، قتلت عشرات الآلاف وهجّرت الملايين. ذلك كله انعكس، من دون شك، في أعماق تكوين الشخصية العراقية، وحقن التوحش والعنف عند فئاتٍ واسعةٍ من هذا المجتمع، يتجلى، أحياناً، تحت لافتة تنظيم الدولة الإسلامية، وأحياناً أخرى تحت لواء الميليشيات الشيعية التي لا يختلف مقدار توحشها عن ذلك القدر الذي يمارسه مقابلها السني. فالتوحش، هنا، ليس مرتبطاً فقط بنزعات ساديّة فردية، بل بـ “إستراتيجية عليا” شرّعها وانتهجها هذا التنظيم. لذلك، يتم دوماً تصوير عمليات القتل البشعة ونحر الرؤوس ونشرها عبر يوتيوب، بهدف ترويع الآخرين. وقد نجح تنظيم الدولة الإسلامية في ذلك بوضوح، حيث لا تجد تفسيراً منطقياً لهروب بعض الفصائل من مواجهتهم، وبيعة فصائل أخرى هم أبعد ما يكونون عن أيديولوجيا تنظيم الدولة، وكذلك هروب قوات النظام العراقي، كما في الموصل، وقوات البيشمركة، كما في سنجار وبادوش، إلا أنهم بالفعل “نُصروا بالرعب”.
في مقاله المشار إليه في الجزء الأول من الورقة، يقول عزمي بشارة، في سياق حديثه عن الكيفية التي يتكوّن بها الإنسان في بيئةٍ عاشت ظروفاً صعبة ومتلاحقة، كما في العراق: (يمكننا، مثلاً، أن نتخيّل إنساناً مر بأهوال سجون حكم البعث العراقي أو السوري، ثمّ عاش في ظل الاحتلال الأميركي الهمجي، وحاربه، ثم ذاق مرارة السجن في ظل نظامٍ طائفيٍّ سياسيٍّ بغيض، مثل نظام المالكي، بحيث أتت كل واحدة من هذه التجارب على مساحة خضراء في نفسه، وطمست لوناً من صورة الإنسان فيه). وكتب وائل عصام، في 7 يوليو/تموز الماضي، مقالاً نشره في صحيفة القدس العربي بعنوان “فصل المقال ما بين داعش والبعث من علاقة واتصال”، قال فيه في أثناء حديثه عن شخصية قيادية في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، يُدعى أبو عمر الكردي: (يقول لي أحد مرافقي من كان يُعرف بجزار القاعدة، أبو عمر الكردي، وهو من الذين أعدمتهم الحكومة العراقية، بعد أن نفذ أكثر من مئتي عملية تفخيخ، إحداها كانت عملية اغتيال الحكيم. يقول صديقه الذي كان يرافقه إن الكردي كان يصف نفسه “بالوحش”، ويقول: “تحولت لوحش. هل تعرف كيف يُمكن أن يُصبح الإنسان بعد اعتقاله في زنزانةٍ منفردة خمس سنوات؟!”، كان الكردي معتقلاً في جهاز الأمن في النظام العراقي من عام 1991 حتى 1995 بعد عودته من أفغانستان، وكان ينظر للبعثيين على أنهم من حولوه وحشاً). والأمر نفسه ينطبق على كثيرين من المهاجرين العرب وغير العرب، ومعظمهم مطلوبون في بلدانهم، وممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب، أو ممن ينتمون إلى أسرٍ، عانى بعض أفرادها من التضييق الأمني والاعتقال والإذلال، فلم يعد لديهم ما يخسرونه، فكانت “الهجرة إلى الشام” ملاذاً لهم من جحيم أوطانهم، وأرضاً للجهاد والاستشهاد وتحقيق حلم الدولة، وميداناً للكرامة والثأر. فالقهر يقتل الجينات الإنسانية في داخل المقهور، فتُصبح كل أفعاله، مهما توحشت، مُبررة ومشروعة و”أخلاقية”، في سبيل تحقيق الأمنيات، والثأر من الخصوم والتاريخ والمجتمع.
وبالطبع، إن تشوه فطرة الإنسان وتوحشه ليس دوماً يرتبط بظلمٍ وقهر مرّ به، بل قد يكون ذلك بسبب نزوع شخصي، واستعداد نفسي للعنف، فالناس يتفاوتون في جرأتهم وشجاعتهم واستعدادهم للمغامرة والإقدام وقابليتهم للجريمة والعنف. لذلك، نجد أن أكثر من يمارس العنف والقمع والتعذيب، بطريقة ساديّة بشعة، هم عناصر الأمن والمخابرات في المعتقلات العربية، ومعظمهم لم يمر بتجارب اضطهاد، بل كان دوماً في مقام الظالم.
6-ولكون معظم الطبقة القيادية في تنظيم الدولة الإسلامية تتكون من شخصيات عسكريةٍ، لها خبرات قتالية طويلة، وليس لها سابقة في العمل الحركي والتربوي الإسلامي، انعكس ذلك، بوضوح، على التفوق العسكري والقدرة على التخطيط والمناورة والتكتيك، وفق ما يفرضه الميدان، وتتطلبه المعركة، وبكامل التحرر من القيود الأخلاقية والشرعية. وانعكس، أيضاً، على مقدار الاحتراف في تكوين إعلام حربي، ومكنة دعائية متفوقة، وإدراك الأهمية القصوى التي تمثلها مصادر التمويل “آبار نفط، بنوك، مخازن سلاح …إلخ”، وذلك كله تم بدرجة عالية من البراغماتية المرتبطة بـ “القدرة” لا “المشروعية”. أي أننا، هنا، أمام قوة منفصلة عن القيمة، فالقوة وحدها من تصنع معاييرها الخاصة للقيم والأخلاق.
سطور أخيرة
يمكننا، اليوم، أن نعتبر أن “داعش” يعيش مرحلة “الدعوة”، بكل تطرّفها ونضاليتها وعنفوانها، لا مرحلة “الدولة” بواقعيتها وحساباتها. وكأن شريط التاريخ يستعرض أمامنا ما فعله أبو مسلم الخراساني وأبو العباس السفاح، وجحافل الرايات السود وهي ترتكب المجازر في خراسان ودمشق، لتوطيد أركان دولة بني العباس.
فالأفكار و”التصورات الشرعية” ليست هي من يقود قاطرة داعش، لكنها مجرد مظلة لتسويغ الأفعال ومنحها مشروعية. وهذا لا يتنافى مع أن دوافع غالب الشباب المنتمي لهذا التنظيم هو الإيمان والرغبة بنصرة الدين وإقامة دولة الإسلام، والاستعداد للتضحية والاستشهاد في سبيل ذلك. وقد وجدوا في تنظيم الدولة الإسلامية الجماعة الأقدر على تحقيق ذلك.
قصة “داعش” ليست مرتبطةً فقط بهويات مغلقة، ودوغما متعالية، أنتجت هذا التنظيم الذي التَهَم مساحات واسعة من دولتين عربيتين بتسارع مخيف. ولا جماعة تعيش حُلم التاريخ، فجذبت أحداث الأسنان سفهاء الأحلام. بل هي، أيضاً، نتيجة واقعٍ عربي صعب، سُدت به كل نوافذ الأمل، وقُمعت به أشواق الشعوب نحو التحرر والكرامة، وأُهينت الشريعة، باستبعادها أو استخدامها، التي يفديها كثيرٌ من الشباب المؤمن بروحه ودمه وماله، فمثلت داعش لبعضهم ثورة من أجل استعادة “دولة الإسلام” من جديد، دولة اليوتوبيا وحُلم الخلاص، لكنها ثورة استصحبت فصولاً من فقهٍ سياسيٍ، نتج في زمن الاستبداد والمُلك العضوض، تُشرَّع فيه الغاية على حساب الوسيلة، وتُرتكب فيه الموبقات، تحت لافتة “المقصد الشرعي”.
العربي الجديد
تعظيم قوة داعش صنيعة استراتيجية أمريكية/ علي العائد
“داعش” صنيعة أميركية، يقول أحدهم. ويقول آخر إنها صنيعة إيرانية – سورية، ويقول ثالث إنها وريثة القاعدة.
أياً يكن أصل التنظيم، فإن أمريكا والدول الغربية الأخرى “صبرت” عليها، وظلت تتفرج حتى تمددت وأشعرت هؤلاء أنها قد تتمدد أكثر لتشكل خطراً مباشراً عليهم.
لا يختلف اثنان في سبب تأخر تقديم دعم دولي للثورة السورية، والمسارعة النسبية في تقديم هذا الدعم في العراق بعد ثبوت عجز الجيش العراقي، ومن ثم قوات البيشمركة، عن مجابهة داعش.
فالمجتمع الدولي كان دائماً قادراً على مساعدة الثورة السورية، لكن ما جرى ويجري في سوريا أتى على هوى مصالحه، رغم انتقاداته لحكم الأسد التي ذهبت حد القطيعة.
ما يمكن أن يكون سبباً في الخلاف، أو موضوعاً للنقاش، هو صبر الدول الغربية على ظاهرة داعش، وتركها تتمدد خلال الأشهر الماضية.
والتفسير المنطقي لذلك يتطلب التذكير بالحديث عن قوة الجيش العراقي كأحد أقوى الجيوش في العالم في نهايات تسعينيات القرن الماضي، ودخول القوة الجوية الأميركية في حرب استنزاف ضد ذلك “الجيش العراقي العظيم”، وصولاً إلى حرب 2003 التي دخلت فيها القوات الأمريكية محتلة العراق، بمساندة دولية محدودة نسبياً مقارنة مع التحالف الدولي الكبير الذي شاركت فيه دول عربية عديدة أثناء حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت من احتلال جيش صدام حسين لها.
تعظيم القوة هذا أصبح نظرية في حد ذاتها، فهو من جهة يوهم مقاتلي داعش، اليوم، بقوتهم العسكرية، وهو ما تريده القوى الغربية كي تنقض كالصاعقة على وحش داعش المتورم بعظم قوته في حرب العصابات وبث الرعب في كل مكان تتقدم فيه. وهذا الأمر محسوم للغرب في حرب تكنولوجية عن بعد تجعل داعش كفأر في مصيدة. من جهة ثانية، تعظيم قوة العدو يقنع المراقبين والإعلام، كما يقنع مواطني الدول الغربية، بأخلاقية ما تقوم به جيوش بلادهم، وبأحقية التضحية التي يقدمها الجنود، ويجعل دافعي الضرائب في تلك الدول مقتنعين أن أموالهم تُصرف من قبل قادة بلادهم في وجهتها الصحيحة.
ومنذ أيام قليلة فقط، قال رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، إن عدم توجيه ضربات عاجلة لتنظيم داعش يعني انتظار التنظيم حتى يضرب في شوارع لندن.
مرة أخرى، لا خلاف في أهمية القضاء على البنية التحتية لهذا التنظيم، ولا خلاف في صعوبة القضاء على الخلايا النائمة فيه، وعلى الأساس الفكري القاعدي للتنظيم، لكن الخلاف في مبررات اختيار التوقيت من قبل أميركا والغرب، إنهم يلعبون لعبة الاستعمار القديمة الجديدة، مستخدمين مبررات مكرورة، جاءت هذه المرة في مصلحتنا وعلى هوانا، أما القول بالخوف على شوارع لندن ونيويورك فمسألة فيها نظر.
على كل حال، ساعة الصفر أصبحت وراءنا عملياً، بعد أن بدأ العمل على الأرض، ومن السماء، فالولايات المتحدة وجهت ضربات موجعة لداعش ساعدت في تقدم البيشمركة لاستعادة ما خسرته في المواجهة البرية المباشرة مع داعش، وبريطانيا بدأت بتقديم الدعم اللوجستي للمهجرين والنازحين من مناطق القتال، ولن يطول الوقت حتى تحلق طائرات بريطانية فوق أوكار داعش في شمال غرب العراق. هذا، بينما يتردد أن الضربات الجوية لتنظيم الدولة الإسلامية في الرقة كانت بطائرات أميركية، وما يعزز هذا الظن أن الناس على الأرض رأوا طائرات مختلفة عما اعتاد النظام السوري إرساله لضرب المدنيين، وأن الضربات كانت أكثر دقة (سقط الأحد والإثنين ما بين أربعين وخمسين قتيلاً، أكثر من خمسة وثلاثين منهم من داعش)، لكن ناشطين أكدوا أن الطائرات المستخدمة في الضربات سورية، لكنها مختلفة عن طائرات الميغ 21، والميغ 23، والسوخوي، التي اعتاد النظام استخدامها.
حتى الآن، وبالرغم من التقاء مصالح كل الأطراف في أهمية القضاء على داعش، إلا أن ما يجري يصب في مصلحة نظام بشار الأسد، سواء كانت طائراته هي التي قصفت، أو كانت الطائرات أميركية. والمؤكد أن ما قام به من قصف لمواقع داعش في الرقة يخدم الهدف الأميركي المعلن، الذي تأكد رسمياً بطلب رئيس الائتلاف هادي البحرة من أميركا والدول الغربية توجيه ضربة جوية لتنظيم داعش قبل أن يتقدم أكثر باتجاه حلب ومدن غرب سوريا، بل إن الأسد يقول بذلك صراحة: ها أنا أقوم بخدمتكم في مكافحة الإرهاب دون أن تطلبوا مني ذلك (…).
فوق ذلك، لعلنا أمام أحد سيناريوهين محتملين، الأول تحالف الأسد والأمريكان لضرب داعش، ومكافأة الأسد بإعطائه مزيداً من الوقت، والإحجام عن تسليح الجيش الحر؛ الثاني: اتباع نظرية تعظيم قوة الأسد بعد القضاء على البنية التحتية لداعش التي تضخمت بعد استيلائها على أسلحة أميركية متطورة عقب دحرها للجيش العراقي في الموصل في حزيران (يونيو) الماضي، وبذلك يصبح الأسد هدف ضربات جوية أمريكية خاطفة تدعم تقدم الجيش الحر والكتائب الإسلامية غير الداعشية. ومما يعزز احتمالات السيناريو الثاني يأس الأمريكان والأوروبيين من إحداث اختراق في العلاقة مع روسيا في ما يخص الأزمة مع أوكرانيا، فتطلق أمريكا يد روسيا هناك، أو تغض النظر عنها، في مقابل تخلي روسيا بوتين عن حليفها الأسد الذي خسر منذ زمن طويل آخر حظوظه في إمكانية إعادة تثبيت حكمه في سوريا.
لماذا لا تشكّل «داعش» خطراً على إيران؟!/ تركي الدخيل
إذا تأملت في نشرات الأخبار التي تدار على القنوات التلفزيونية منذ أشهر، ستجد حتماً أن ثلث النشرة أو يزيد عبارة عن أخبار تتعلق بتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). هذا التنظيم الذي وصلت ثروته ثمانية مليارات دولار بعد دخوله الموصل، يتسلّح بسيارات الدفع الرباعي، ويصرف على أعضائه آلاف الدولارات شهرياً، ويجنّد الأتباع من الخليج والدول العربية عن طريق تركيا، ويستقبلهم بألفين وخمسمائة دولار فور وصولهم إلى منافذ الدخول من تركيا خاصة.
هذا التنظيم لم يعد خطراً واقعياً، بل «الخطر الحقيقي»، كما قالت واشنطن. القصة لن تكون قصيرة، بل طويلة جداً، ذلك أن هذا التنظيم الغامض يحتاج إلى إبداء العديد من الملاحظات للحث على التفكير في نزعاته، وأهدافه، ومآلات تحركاته.
من الملاحظات المهمة تصريح وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان الذي قال فيه: «إن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لا يشكل أي تهديد للجمهورية الإسلامية»! بينما تصرّح الدول الأوروبية، والأردن ودول الخليج، والعراق وكل الدول في العالم، بأن هذا التنظيم خطر محض، وتهديد حقيقي. لكن أن تطمئن إيران إلى هذا التنظيم وبأسه، وعلى لسان وزير الدفاع أيضاً، فذلك مما يجعل من الملاحظة حول دعم إيران لـ«داعش» حقيقة بالدرس والتحليل. إيران لا تدعم فقط الحركات الشيعية، كما يظنّ البعض، بل دعمت الحوثيين الزيديين في اليمن، ودعمت «حماس» السنية، ودعمت «القاعدة» السنية، وتدعم بنفس الوقت «حزب الله» الشيعي، وتعارض أحزاباً شيعيةً أخرى معارضة لسياساتها مثل شيعة أذربيجان! القصة في دعم «داعش» قد تكون حقيقية.
الملاحظة الثانية أن هذا التنظيم قفز بالسواد الإرهابي إلى أقصاه، وصارت هناك حالة من السخرية إذ تعددت مراتب الإرهاب فصار إرهاب «القاعدة»، كما يذهب بعض المحللين، «وسطياً»، وهذه من سخرية تحولات موضوع الإرهاب، إذ قفزت «داعش» بالمستوى الإرهابي والدموي بما لم تصل إليه «القاعدة»، الأمر الذي جعل من منظّر السلفية الجهادية وقطبها الفقهي الأكبر، أبو محمد المقدسي، يتهم التنظيم بالغلو. ووصل تنظيم الدولة إلى أن اعتبر الظواهري كافراً، فصرنا أمام مسرحية مضحكة حيث يتم تكفير رموز وأتباع تنظيم «القاعدة». هذه الملاحظة علامة على أن الحرب على الإرهاب لم تكن ناجحة بما يكفي، وأن الفيروس يتجدد ويتطور تبعاً للمحفزات الموجودة في الخطاب الديني المنثور والمبثوث في شتى المنابر والمسارح.
الملاحظة الأخيرة، أن هذا التنظيم لديه تصويب ميداني وتخطيط قوي ورؤية جاهزة للتوجه إلى السعودية، وهذا الحلم الذي نتمنى أن لا يحدث يعبر عن الاستراتيجية التي وضعت له. ألم يكن التنظيم في خندق إيران من خلال مواجهة «الجيش الحر» بغطاء جوي سوري، وبحماية مدافع النظام السوري؟! بمعنى آخر فإن «داعش» لا تعارض إيران في سياسةٍ واحدة، وهدفها ليس إسرائيل، بل السعودية.. أبعد هذه الأجندة نسأل في أي رحمٍ تخلّقت «داعش»؟!
هذه الملاحظات أضعها بين يدي القارئ، ليجول فيها، ويعزز من الأسئلة التي أطرحها، ويومياً ينتج التنظيم العديد من الأسئلة في عين المراقب وعقله، ويدفعه نحو الحيرة والحذر.
«داعش» عبارة عن ثمرة الفوضى وتتويج للحراك الخادع الذي سمي بـ«الربيع العربي»، وويل لأمة اعتقدت أن النار برداً، وأن الخريف ربيعها.
الاتحاد
أوباما وداعش وسوريا والعراق/ زيـاد مـاجد
تُظهر الضربات الجويّة الأميركية التي أمر بها باراك أوباما ضد “داعش” شمال العراق، والأسلحة المتطوّرة التي قرّر الأوروبيون تقديمها لوحدات “البشمركة” – وبعضها وصل الى أربيل فعلاً – أن لا شيء كان يحول دون ضرب النظام السوري عقب تنفيذه المجزرة الكيماوية في الغوطة الصيف الماضي، أو حتى دون قصف واشنطن “داعش” إيّاها في الرقّة ودير الزور وتسليح أوروبا للجيش السوري الحرّ أو لبعض الكتائب المتناثرة عنه. لا شيء طبعاً سوى غياب الرغبة والإرادة الأميركية والأوروبية في ذلك.
لماذا هذه الانتقائية؟ وهل من فرص لإنهاء المأساة السورية خارج تدخّل دولي في سوريا ضد النظام و”داعش” مباشرة أو على نحو غير مباشر؟
لا تبدو الإجابات واضحة أو مقنعة. ففيها خليط من التردّد ومن الخشية من “البديل” لدى الإدارات الغربية، وفيها حسابات باردة وتداعيات تجارب عراقية قديمة وليبية جديدة، وفيها حدود إسرائيل وعقبات في مجلس الأمن ورغبات تسوية مع موسكو واستنزاف لطهران وإضعاف لأنقرة وتفويض مشروط للرياض تارة وللدوحة تارة أخرى. وفيها كذلك رأي عام غربي لم يجد في فظاعات النظام الأسدي وقتله لعشرات الآلاف وتعذيبه حتى الموت لآلاف المعتقلين منهم ما يكفي ليدفع حكّامه الى التدخّل، كما لم يجد في قتل “داعش” لآلاف المسلمين السنّة السوريّين ما يهدّد أقواماً بالفناء فيحرّك الطائرات لحمايتهم.
وكلّ هذا أدّى بعد مضيّ ثلاث سنوات على المقتلة السورية الى إنقاذ النظام الأسدي المدعوم إيرانياً وروسياً (ومن قبل الميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية). وأدّى كذلك الى تمدّد “داعش” كالسرطان في الجسد السوري، وتنقّله مدعّماً بالموارد المالية والنفطية التي سيطر عليها في الرقة ودير الزور ومناطق عدة من الجزيرة والحسكة بين سوريا والعراق حيث منشؤه الأصلي، وحيث أتاحت له المظلومية العربية السنية نتيجة حكم المالكي وممارساته الاستئثارية من توسيع رقعة انتشاره وصولاً الى إعلان الدولة والخلافة.
البقية معروفة لجهة جرائم الداعشيين ضد المسيحيين والإيزيديين في الموصل ونينوى وسنجار وما رافقها من فظاعات مشهدية، ولو أنها جميعها لا تصل الى حدود مجزرة واحدة ارتكبوها هم أنفسهم، أو ارتكبها النظام الأسدي، في سوريا. الفارق في ردّة الفعل الغربية، الأميركية تحديداً، جاء هائلاً. وهو مع ضرورته لمنع البربرية من التقدّم أكثر يبقى انتقائياً لأسباب ليست على اختلافها أخلاقية أو حتى منطقية. فأصل البلاء موجود في سوريا وليس في مكان آخر، على عكس ما يدّعي أوباما زوراً.
و”داعش” ومشتقّاته صعدوا بقوّة نتيجة تفسّخ الأوضاع في سوريا. ونظام الأسد المسؤول الأوّل عن ذلك لا يمكن أن يكون بديل “داعش” ولا شريكاً في أي حرب ضدّه. هو مجرّد شبيه به ومنافس له متفوّق عليه في القتل. وحتى صدامات الطرفين المستجدّة (والمقبلة) في أكثر من منطقة تماس بينهما لا تعدو كونها “تنظيفاً” موضعياً يسعى إليه “داعش” ويردّ عليه النظام غاراتٍ وقصفاً عشوائياً.
السياسة “المفيدة” الوحيدة في سوريا اليوم لإعادة بعض التوازن الى المشهد المأساوي وصولاً الى فرض حلّ سياسي في المقبل من الأيام هي ضرب النظام و”داعش” مباشرة، أو من خلال تسليح من يقاتلهما ويتصدّى منذ سنةٍ لهما على جبهات مختلفة رغم ضآلة الإمكانات ومحدودية الدعم. وهذا لا يتمّ دون الإفراج عن الصواريخ المضادة للطائرات والدروع وعن عتاد حربي متطوّر يوقف الزحف السرطاني للتنظيم الظلامي، ويُسقط طائرات الموت الأسدي ودبّاباته في حلب والمليحة ودرعا وغيرها من نواحي النزيف السوري المستمرّ… غير ذلك لا شيء سينفع ولا شيء سيؤول الى التحسّن أو الاستقرار لا في سوريا ولا في العراق ولبنان.
موقع لبنان ناو
أسئلة ما بعد الموصل/ كرم الحلو
تحدثت التقارير أخيراً عن هجرة مسيحية جماعية من الموصل بعد أن خيّر تنظيم «داعش» المسيحيين بين دفع الجزية أو الرحيل أو حد السيف، في عملية تطهير عنصري لهؤلاء أشبه ما تكون بإعادة تركيب للمكونات التاريخية للمشرق العربي. فقد أحرقت مطرانية السريان التاريخية في المدينة ووضع حرف «ن» على أبواب منازل المسيحيين الذين يعود وجودهم التاريخي في الموصل إلى أكثر من 1500 عام، تمهيداً لتهجيرهم من أرضهم التي عاشوا فيها على الدوام من دون أن يتعرضوا لمثل هذا التهديد الاستئصالي في أرواحهم وممتلكاتهم.
بالعودة إلى التاريخ القريب بدأت هجرة المسيحيين العراقيين في أعقاب الاحتلال الأميركي عام 2003. فوفق الإحصاءات المتداولة وصل عدد مسيحيي العراق إلى 850 ألفاً قبل الاحتلال الأميركي، هاجر منهم حوالى 40 ألف عائلة بعد حوادث تفجيرات الكنائس في بغداد. وقد وصف في حينه البطريرك عمانوئيل دلي كبير أساقفة الطائفة المسيحية في العراق محنة المسيحيين العراقيين بالقول: «إنهم يعيشون محنة محزنة وأليمة، خصوصاً في الموصل بعد إقدام جماعات مسلحة على مطالبتهم بإشهار إسلامهم أو دفع الجزية».
كذلك، يعيش المسيحيون السوريون اليوم محنة مماثلة. فخلال ثلاث سنوات ونصف من عمر الأزمة في سورية وصل التمييز العنصري ضد المسيحيين إلى الذروة من خلال الاستهداف الممنهج لقراهم والاستيلاء على أكثر مناطقهم قدسية وتاريخية، فضلاً عن تعرضهم لاعتداءات كثيرة، جسدياً ومادياً ومعنوياً، من اختطاف المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم، إلى اقتحام مدينة معلولا، آخر المدن الناطقة بلغة المسيح، وتخريب كنائسها وخطف راهباتها، إلى خطف الراهب فرنسوا مراد وعرض مشاهد لقطع رأسه، إلى الهجوم على مدينة كسب ذات الغالبية المسيحية الأرمنية واضطرار سكانها للنزوح، ومحاصرة قرى مسيحية في القصير وصولاً إلى فرض «داعش» الجزية أو حد السيف على مسيحيي الرقة.
بالإجمال نتيجة التهديدات والاعتداءات بلغ عدد المسيحيين النازحين داخل سورية وخارجها 450 ألفاً، من بينهم نصف سكان مدينة يبرود، فيما قتل 1200 مسيحي وتعرضت 60 كنيسة للتخريب والتدمير، واضطر سكان 24 قرية مسيحية للهرب.
تأتي هذه الانتهاكات متوجة لنزيف تاريخي طاول الوجود المسيحي في الشرق العربي بما ينطوي عليه من معانٍ ودلالات تعبر عن مأزق حضاري حاد يواجه الأمة العربية في المرحلة الراهنة، فقد دق بطاركة الشرق الكاثوليك عام 2006 نفير الخطر على الوجود المسيحي في الشرق محذرين من ضعف ووهن انتماء المسيحيين إلى المنطقة، إذ تراجع مسيحيو القدس من 45 ألفاً في الأربعينات إلى 5 آلاف مطلع هذا القرن، وتراجع المسيحيون السوريون من 16.5 في المئة من سكان سورية قبل ربع قرن إلى أقل من 10 في المئة، كما عرفت مصر هجرة قبطية متزايدة في خلال العقدين المنصرمين. باختصار بقي أقل من عشرة ملايين مسيحي في العالم العربي بين أكثر من 300 مليون من الديانات الأخرى. ومما لا شك فيه أن هذه الأرقام والمؤشرات تدعو إلى القلق والريبة في وقت يتعرض فيه مسيحيو العراق وسورية وسواهما من البلدان العربية إلى محن وبلايا ربما كانت الأقسى والأفدح على مدى التاريخ العربي كله.
من الصحيح أن المسيحيين لم يتمتعوا بالمساواة الشرعية والعملية في المجتمعات العربية في ظل الحكم الإسلامي، إلا أنهم لم يعرفوا إرهاباً فكرياً ولا يروي التاريخ العربي حادثة واحدة يمكن تشبيهها باضطهادات محاكم التفتيش الإسبانية للمسلمين واليهود، أو اضطهادات الكاثوليك والبروتستانت بعضهم بعضاً في القرون الوسطى. لقد استوعب التاريخ العربي وإن بصورة محدودة التعدد والاختلاف، بل إنه حفل بصور مشرقة للاعتراف بالآخر وتقبل المختلف الديني والعقائدي ورعايته واحتضانه. ووفق جرجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي»، فإن المسلمين إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصباً للدين. ولم يكن المسلمون في صدر الإسلام يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، بل إن الخلفاء الراشدين كانوا إذا أنفذوا جيشاً للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيراً، لا سيما النصارى ورهبانهم. أما في صدر الدولة العباسية فقد كان الخلفاء يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، وكانوا يحاورونهم في الدين ويناظرونهم، ويظهرون احترام دينهم، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم.
لكن هذا لا ينفي أن المسيحيين كانوا يتعرضون للاضطهاد في أزمان الانحطاط. فقد اضطهدوا أثناء الحروب الصليبية وبعدها، واضطهدوا في مرحلة انحطاط الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، واضطهدوا في الحروب الأهلية التي كان يحرض عليها الأجانب في غاية مبيتة للإساءة إلى الحضارة العربية وفرض الأحادية الأصولية على الأمة العربية لإبقائها رهينة التخلف والنزاعات الأهلية والسيطرة الأجنبية.
أما أن يبلغ اضطهاد المسيحيين الحد الاستئصالي الذي بلغه الآن، فذلك ما لا يمكن تبريره في أي شكل من الحجج والذرائع الأيديولوجية، إذ إن المسيحيين لم يكونوا يوماً جسماً غريباً ناتئاً في العالم العربي كي يهددوا ويهانوا ويعمل على استئصالهم من مواطنهم. فالتاريخ يؤكد تجذر المسيحيين في الأرض العربية. كان لهم حضارتهم وثقافتهم وشعراؤهم قبل الإسلام، واستمروا كذلك بعده حيث ساهموا مساهمات كبرى في الحضارة العربية الإسلامية وحملوها في وجدانهم ثقافة ولغة وتراثاً. وهم تصدوا لبعث اللغة والتراث العربيين في زمن الانحطاط، فكان منهم المطران جرمانوس فرحات الحلبي الذي كان له الفضل في ترسيخ اللغة العربية في عصر غلبت فيه العجمة على العربية، ومنهم بطرس البستاني مؤلف قاموسي «محيط المحيط» و «قطر المحيط» ومؤسس «نفير سورية» أول نشرة سياسية في العالم العربي و «الجنان» أولى المجلات الأدبية العلمية. ومنهم رزق الله حسون صاحب «مرآة الأحوال» 1855، وخليل الخوري صاحب «حديقة الأخبار» 1858، وفارس الشدياق صاحب «الجوائب» 1860.
ومن هؤلاء اليازجيان ناصيف وإبراهيم، وفرنسيس ومريانا المراش وسليم البستاني وفرح أنطون ونجيب العازوري وأمين الريحاني، وقد ساهم هؤلاء جميعاً مساهمات مركزية في التاريخ العربي، ما يطرح أسئلة مربكة ومريبة: فهل من الإنصاف والعدل اعتبار المسيحيين كياناً دخيلاً على المجتمعات العربية تجب إزالته على ما هو جارٍ الآن في سورية والعراق؟ هل يعاقب المسيحيون على دورهم التنويري في النهضة العربية ومناداتهم بالمواطنية والعروبة والوحدة وحقوق الإنسان والمرأة؟ هل هو انقلاب ظلامي على القضايا العربية الكبرى، قضايا التنور والنهضة والتقدم، وارتداد إلى ظلامية القرون الوسطى؟ هل هي إعادة محاكمة للدولة المدنية العقدية التي كان المسيحيون المشرقيون من روادها؟ هل هي أحكام تأخر تنفيذها، أم إنها إدانة بمفعول رجعي لأديب اسحق ومارون عبود وميشال شيحا وقسطنطين زريق لما بشروا به من قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان؟
إزاء هذه التساؤلات نرى أن ما يجري ليس إلا الدليل المأسوي ليس على إخفاق حركة الحداثة العربية كافة في أشكالها السياسية والاجتماعية والفكرية فحسب، بل على التنكر والرفض لكل الوجوه المشرقة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية الرحبة وإسقاطها بالكامل.
* كاتب لبناني
الحيا
الدولتان الصفران/ امين قمورية
اختيار حيدر عبادي رئيسا للوزراء في العراق يثبت مرة أخرى ان التقاطع بين واشنطن وطهران هو العامل الحاسم في تحديد مسار اللعبة السياسية في هذا البلد. أما العامل الداخلي، فضعيف جداً والاضعف منه العامل العربي.
هذا التوافق الخارجي حرم نوري المالكي المنصب الاعلى، بفعل غير دستوري، كونه صاحب الكتلة النيابية الكبرى وتالياً صاحب الاحقية بالتأليف. وكان هذا التوافق نفسه حرم اياد علاوي المنصب نفسه بعملية مماثلة لمصلحة المالكي الذي حل ثانيا في الانتخابات، عندما شكل ائتلافاً حوله اعتبر الكتلة الكبرى، مع ان قائمته لم تكن كذلك في النتائج النيابية.
هذه المرة تكرس تماماً الغياب العربي عن الحياة السياسية الداخلية في العراق. صحيح ان السعودية سجلت اعتراضاً واضحاً على عودة المالكي الى رأس السلطة وكان عاهلها أحد أبرز المهنئين بوصول عبادي. لكن التغيير في العراق لم يكن استجابة لرغبة الرياض بقدر ما كان ضرورة حتمها الانفجار الداعشي في نينوى والانبار وصلاح الدين. وحده هذا المتغير كان كافياً لإنتاج تفاهمٍ جديدٍ بين الولايات المتحدة وإيران. فقد اتضح أن تجنيد العراقيين ضد داعش غير ممكن بوجود المالكي، وكذلك التدخل الأجنبي في العراق، لانه سيفسر بانه نصرةَ لطائفةٍ على أخرى، إذا لم يسبقه تاليف حكومة واسعة، وهو أمر مستحيل في ظل وجود المالكي واخطائه.
أما الخارج الابرز من المعادلة فهو سوريا. ذلك أن دمشق كانت شكلت بدعمها المعلن لاياد علاوي آنذاك لاعباً بارزاً في الداخل العراقي تطلب ضغوطاً اميركية وايرانية كبيرة كي تتخلى عن مرشحها لمصلحة المالكي مرشح واشنطن وطهران في حينه. ولم يتراجع النظام السوري عن موقفه في العراق في ذلك الوقت الا ارضاء لواشنطن وليس لطهران، محاولاً يومذاك تسجيل نقاط لمصلحته وكسر العزلة الدولية التي كان يعانيها عشية عودة السفير الاميركي الى دمشق بعد قطيعة ديبلوماسية طويلة. أما اليوم، فان دلالات تغيير المالكي في بغداد لا تسر ساكن قصر الشعب في دمشق. فهو لم يخسر فقط حليفاً بالضرورة في العراق المجاور، بل يخشى ان يجد نفسه يوماً كبش فداء على مذبح التسويات الكبرى المحتملة بين واشنطن وطهران التي تظهر ان المصلحة العليا للدولة الايرانية تتفوق على المبادىء والعلاقات الشخصية والتمسك بالحلفاء، خصوصاً ان حربه المدمرة رمته تماماً في احضان الآخرين ولا سيما منهم ايران.
أثبتت مجريات الامور في العراق، وتفاعلات العدوان الاسرائيلي على غزة، ان الحرب الدائرة على الارض السورية لم تدمر البشر والحجر والمؤسسات في هذا البلد فحسب، بل جعلت سوريا بعد العراق، ما أريد لهما من زمان ان تكونا: دولتين صفرين في المعادلات الاقليمية.
النهار
منطقتنا المتّشحة بالسواد/ الياس حرفوش
حسناً فعل تنظيم «داعش» باختيار اللون الأسود شعاراً للظلام الذي ينشره في المنطقة العربية. أي لون آخر كان سيصلح لهذه المرحلة الكالحة التي اختارها أبو بكر البغدادي لنا جميعاً، إلى أي طائفة أو عرق أو بلد انتمينا؟ ففي الوقت الذي تخرج مجتمعات العالم التي تعيش معنا على هذا الكوكب من ظلمة المذابح وتخلّف القرون الوسطى، شاء البغدادي وأرتال المتخلفين السائرين خلفه أن يذكّرونا بأسوأ ما في النفس البشرية من قدرة على الحقد والإجرام. وهكذا، وبينما تتجه شعوب الأرض إلى نسق من التعددية الحضارية والتسامح الثقافي وتوسيع مساحة العيش مع الآخر المختلف، لا يجد «داعش» سوى قتل هذا المختلف كوسيلة لحل «مشكلة» الاختلاف معه.
ما يفعله «داعش» هو أخطر بكثير من تغيير الخرائط ومن إزالة حدود سايكس بيكو، كما يفاخر في غمرة «انتصاراته». «داعش» يرسم في المنطقة خريطة جديدة عنوانها الانتماء الى ما يدّعي هذا التنظيم الإرهابي أنه «ثقافة» المنطقة. الذبح والتهجير هما السلاح الوحيد لرسم هذه الخريطة فوق أشلاء الضحايا وخراب البيوت. وإذا كان مشهد عشرات الآلاف من الأيزيديين الرحّل قد هزّ ضمير المجتمع الدولي، فإن هذا المشهد أصبح عادياً بالنسبة إلى محطاتنا، لا يقل في عاديته عن مشاهد القتل، التي باتت جزءاً لا بد منه في نشراتنا الإخبارية. قوافل من شعوب المنطقة تترك أرزاقها وكل ما تملك وتهرب من الموت إلى ما يشبه الحياة الجديدة على أعالي الجبال أو في مخيمات اللجوء أو على طرق الصحارى المفتوحة. لم تعد الحروب المشتعلة في دول المنطقة العربية قائمة فقط لاختراق الحدود أو للسيطرة على الحكم، أو حتى لتغليب طرف في البلد على طرف آخر. ما نشهده اليوم هو أخطر من ذلك بكثير. ولم نكن بحاجة إلى مشهد الأطفال والنساء والعجائز الهاربين فوق جبل سنجار ليذكّرنا بأن هناك إعادة رسم لمجتمعات المنطقة، وهي أخطر بكثير من إعادة رسم الخرائط.
كل العناصر التي تعزز موسم الهجرات متوافرة بكَرَم استثنائي. مجازر الحروب الداخلية بين المكوّنات، على ما نشهد في الحرب السورية، لا تعفي أحداً من المسؤولية. النظام ارتكب فظائع بحق المناطق السنّية التي اعتبرها عاصية وغير طيّعة. وفي المناطق التي تمكنت فيها المعارضة، لم تقصّر أبداً بحق من اعتبرتهم موالين للنظام أو ممّن ينتمون الى الطائفة التي ينتمي رئيسه إليها. والنتيجة في الحالتين أن عمليات تهجير واسعة حصلت بين مختلف المناطق، حتى صارت المدن والقرى السورية، أو ما بقي منها، مختلفة اليوم بالكامل من حيث تركيبتها السكانية عما كانت عليه في آذار (مارس) 2011.
أما في العراق، فدعك من الانشطار الذي ظل قائماً بين مناطقه السنّية (الى الشمال والشرق) والشيعية (في الجنوب)، والتي لم يحصل بينها أي عملية اختلاط وطني حقيقية طوال المرحلة التي كان يفترض أن فيها حكماً غير طائفي و «علمانياً» في ظل حزب البعث، وتأمل حال العاصمة بغداد، التي كان يفترض أن تكون مكاناً طبيعياً للانصهار الوطني. بغداد تحولت اليوم الى كانتونات سنية وشيعية. والمناطق على جانبي الكرخ والرصافة تم عزلها بأسوار خرسانية أو بنقاط تفتيش أمنية. أما القتل المتبادل فإنه يحمل الهوية الطائفية بنجاح استثنائي منقطع النظير.
حال الأيزيديين إذاً ليست استثناء، وإن كانت اليوم تدفع الدول التي رفضت طوال سنوات إغراق يديها في هذا المستنقع الى التدخل. إنها تعكس الصورة الفاقعة التي يسعى «داعش» إلى نشرها على أنها الصورة الحقيقية للمجتمعات العربية. مجتمعات تنبذ فكرة التعايش مع الآخر المختلف، وتسعى مكوناتها جاهدة إلى عملية تنظيف داخلية تأمن فيها إلى أن الجيران ينتمون إلى القبيلة نفسها أو المذهب ذاته.
الحياة
“داعش”: الصمت والإنكار والعاديّة/ حازم صاغية
العنف بالغٌ أقصاه اليوم في عموم المنطقة العربيّة. وهو، بذاته، ليس جديداً علينا. فلو اقتصرنا على الأنظمة التي سادت في الخمسين عاماً المنصرمة لوجدناه أعظم سلعة نستورد من تجارب التوتاليتاريّات الغربيّة، وأعظم سلعة نصدّر إلى بلدان مجاورة تحاول الاقتصاد في بذل العنف. لقد كنّا دائماً في عرضه واستعراضه كرماً على درب. لكنّ المشهديّة الصارخة للعنف كما تمارسه حركات كـ «داعش» وأخواتها تعطيه مزيداً من الأبعاد والمعاني: فهنا نحن أمام زواج كامل بين أقصى الهمجيّة النازحة بنا إلى أزمنة خلت، وبين حداثيّة أداتيّة تتجسّد في السلاح والتراتُب والتنظيم والاستخدام الموسّع لوسائل التواصل الاجتماعيّ، فضلاً عن العقيدة. إنّها البربريّة وقد استعانت بأضراس صناعيّة.
ونبذ الآخر وصل أيضاً إلى أقصاه في المنطقة العربيّة. وهذا، بدوره، ليس جديداً: فأكراد العراق سبق أن ضُربوا بالسلاح الكيماويّ، وأقباط مصر سبق أن اعتُبر عددهم سرّاً من أسرار الأمن القوميّ لمصر، ومسيحيّو لبنان سبق أن وُصموا بانعزاليّة ودُُفّعوا غالياً مقابل التهمة هذه. لكنّ ما يحصل اليوم يرقى إلى انتقال من طغيان الإبادة السياسيّة والثقافيّة للجماعات المختلفة إلى طغيان الإبادة الجسديّة لها. فهذا ما تقوله أحوال المسيحيّين والإيزيديّين والشبك وسواهم في العراق، وهذا ما تخافه أقلّيّات أخرى تتوزّع ما بين مصر والعراق. لقد باتت تطالعنا محاولات صريحة لـ»إبادة النسل»، لا من خلال القتل والذبح فحسب، بل أيضاً عبر التزويج القسريّ والبيع عبيداً وعبداتٍ في الأسواق.
لكنْ أمام بلوغ العنف ونبذ الآخر هاتين الذروتين الشاهقتين والصارختين، يمارس النافذون والمتنفّذون عندنا صمتاً مريباً، صمتاً يحمل على اتّهامهم بالمشاركة في هذين العنف والاستئصال للآخر.
فالسياسيّون العرب والمسلمون لم يقولوا ما يُنتظَر منهم أن يقولوه كـ «أهل حلّ وربط». إنّهم يتحدّثون في الموضوع «استراتيجيّاً»، مركّزين على الخرائط والحدود والأمن الإقليميّ وأوضاع سلطاتهم ومواقف دول العالم ومجلس الأمن. أمّا الالتزام السياسيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ ببشر هم قادتُهم وممثّلوهم المفترضون فيندر العثور على تعبير عنه. والى جانب السياسيّين رجال دين مسلمون صمتت فتاواهم حيال العنف والاجتثاث وما يستجرّان من قتل وذبح وتهجير، بعدما كانت تلك الفتاوى المستهجنة، التلفزيونيّ منها وغير التلفزيونيّ، خبراً صباحيّاً يصبغ نهاراتنا بخليط من سخرية تُضحك وبله يُبكي. والأسوأ دائماً جماعات «من أبناء شعبنا» تراوحت مواقفها بين السكوت والتفرّج والتواطؤ!
وتُستَنبط اليوم طريقة أخرى للإنكار، أو لاستدراج الجديد «الداعشيّ» إلى إلفة العاديّة والتعوّد. هكذا يُقرن ما تفعله «داعش» وأخواتها بشيء آخر، هو عند البعض العنف الإسرائيليّ حيال الفلسطينيّين، وعند البعض الآخر عنف الأنظمة المستبدّة حيال شعوبها، وعند بعض ثالث عنف منسوب إلى تاريخ لا يستكين عند الحجّاج بن يوسف. وما من شكّ في أنّ عنف «داعش» ليس عديم الصلة بتلك الأشكال الكثيرة من القسوة التي تحكّمت وتتحكّم بعالمنا، إلاّ أنّ توأمته مع سواه وتذويبه فيه وعدم الانتباه إلى خصوصيّته تشي كلّها ببعض أسوأ ما فينا، قادةً سياسيّين ودينيّين ونُخباً وشعوباً.
والفصحى لا تملك، في أغلب الظنّ، الكلمة التي تملكها العاميّة في وصف وضع كهذا. «تفوه» تقول الفصحى. «تفوه» نقول نحن.
الحياة
الذئب» على عتبة أوباما/ زهير قصيباتي
لم يعد «الذئب عند الباب» كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في نصيحته للعراقيين لكي يوحدوا صفوفهم في مواجهة تنظيم «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام) الذي ابتلع ثلث مساحة بلاد الرافدين، ويقضم مساحات في سورية.
«الذئب» بات في البيت الأميركي، بذبح الصحافي جيمس فولي، والتهديد بقتل صحافي أميركي آخر هو ستيفن سوتلوف. أوباما الذي «برع» في سياسة النأي بالولايات المتحدة عن التورط في حرب سورية، حيث الإبادة شاملة، وعن وحول العراق ونكبته الأخيرة بـ «داعش»، بات للمرة الأولى أمام اختبار قاسٍ يتطلب قراراً أول المعنيين به هم الأميركيون، فإما التضحية بسوتلوف ليواجه مصير فولي، إذا ثبتت صحة «شريط الذبح»، وإما وقف الغارات الجوية الأميركية على مواقع «الدولة الإسلامية».
في الحالين، بات الرئيس الأميركي في مأزق لا يقل حصاره عن حصار «داعش» لسكان «الدولة الإسلامية» أو رعاياها في العراق وسورية. فالتضحية بالصحافي سوتلوف مصيبة لأوباما الذي ما زال فاشلاً في تبديد صورة الرئيس المتردد العاجز أمام كل ما يحصل في العراق وسورية وليبيا، فيما التورط المباشر بمواجهة مكشوفة على الأرض مع «داعش» سيكون هدية للتنظيم: حرب استنزاف طويلة بما تعنيه من قتلى أميركيين، والتنكيل بآخرين «صليبيين»، لينزلق أوباما إلى ما نجح سنوات في تفاديه… بكلفة باهظة.
العودة الى العراق هي ما يكرهه الرئيس الأميركي، ويبدو أن لعنة بوش (الغزو) ما زالت تلاحقه بعد 3 سنوات على سحب البنتاغون قواته من بلاد الرافدين التي غرقت بدماء ابنائها، سنّةً وشيعةً ومسيحيين وأكراداً. أمام المأزق الجديد، بعد ذبح فولي، أي قرار سيُقدم عليه أوباما بعدما اكتفى بتوجيه النصائح إلى العراقيين ليتخلّصوا من عقدة المالكي، وليواجهوا «داعش» بدمائهم؟
ما تغيّر بين عامي 2003 و2014 هو ما تبدّل بين غزوٍ بُني قراره على شبهة مخترعة بامتلاك بغداد أسلحة دمار شامل، وبين ترك «خلافة» أبو بكر البغدادي تنهش بقايا دولة بأسلحة الإبادة الشاملة. وأما مقاتلوها الأجانب الذين تدفقوا من بلدان الغرب، فلعلهم السبب الأول لحال الذعر التي دفعت الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى إعداد «مبادرة» لمواجهة «داعش»، تستدعي مؤتمراً دولياً، وأقنعت رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون بقطع إجازته، بعد بث فيديو ذبح الصحافي فولي.
«الذئب» لم يعد إذاً عند أبواب العراقيين وحدهم، وفي بيوتهم، وتهديدات «داعش» لا تحتاج قرائن بعد كل ما ارتُكِب في الموصل وتكريت وجبال سنجار. وإذا كان الغرب مداناً بشبهة التمييز بين دماء السوريين ودماء العراقيين، فالحال أن ما يُعتبر «وباء» تنشره موجات القتل الجماعي في المنطقة، يتطلب تحالفاً دولياً لإنقاذ دول وشعوب، لا مجرد مساومات بالتقسيط مع أطراف إقليمية. بين هذه الأطراف إيران التي رفضت تفويضها حرباً بالنيابة عن الغرب، وتركيا التي لم تفنّد علناً تقارير و «إشاعات» عن عدم إدانتها ارتكابات «الدولة الإسلامية»، وعما هو مريب.
ومن دون تسمية المسمَّى، فذئب القتل الجماعي الذي ينهش العراقيين والسوريين، يفترس من المدنيين في غزة بمقدار ما يتلطى نتانياهو بتوحش التطرف والاستبداد لدى العرب، بل يكاد أن يوهم نفسه بأنه يسدي خدمة للفلسطينيين في قطاع غزة بمحاولته استئصال «حماس»… فيما هو يبيد عائلات مشردة على أطلال الخراب.
قطع رأس صحافي إرهاب وحشي، قصف المدنيين في غزة أبو الإرهاب وأمه، أما أم الفظائع فهي ادعاء كل ما يشوّه الإسلام باسمه، لإثارة براكين أحقاد لا تميّز حِممها بين الجنسيات والأديان والأعراق. ما شجع «الدولة الإسلامية» على محو حدود وتهديد الأميركيين، هو صمت الغرب وواشنطن خصوصاً عن النكبة الكبرى في الحرب السورية المنسية. كانت ذريعة الأوروبيين والأميركيين الخشية من سقوط أسلحة المعارضة السورية في أيدي المتطرفين المتعاطفين مع «فكر القاعدة»… في أيدي «داعش» اليوم ما يكفي لإنهاك ما تبقى من الجيش العراقي، وإرباك المقاتلين الأكراد، لذلك يساوم على رأس الصحافي سوتلوف لوقف الضربات الجوية الأميركية.
ولن تنقذ أوباما سريعاً من المأزق «مبادرة» هولاند، الذي ذكّر الرئيس الأميركي بعواقب «الخيار الرهيب بين ديكتاتور ومجموعة إرهابية» في إشارة الى ورطة العجز في سورية والتي وُلِدت من رحمها «الدولة الإسلامية».
العِبرة تبقى في الخيارات المتاحة لأي تحالف دولي، يسعى الى استئصال «داعش» من دون تفريخ إرهاب آخر، فيما الاستقطاب الإقليمي على حاله… الغياب العربي لا يكترث به أحد، و «العجز» الدولي مفخخ بعضّ الأصابع بين موسكو والغرب.
وبين الغياب والعجز، مساحات شاسعة للذئب، وإرهاب القتل الجماعي.
الحياة
ظاهرة “الداعشية” وضرورة دولة المواطنية والديموقراطية/ موريس نهرا
ما يجري في منطقتنا العربية، ليس أمراً عادياً أو عابراً، فظاهرة التطرف والاجرام باسم الدين من جهة، والاجرام الصهيوني في غزة وفلسطين من جهة اخرى، يتماثلان في الوحشية والتوقيت، وفي الارتباط بمخطط “الفوضى البناءة والشرق الاوسط الجديد” الذي تعمل الولايات المتحدة والصهاينة على تنفيذه في المنطقة. والهدف من اعادة رسم خريطة المنطقة وبلدانها هو توفير شروط سيطرة اميركية مديدة على المنطقة وثرواتها النفطية وممراتها، وتفوق اسرائيل على محيطها وتحقيق مطامعها التوسعية وتصفية القضية الفلسطينية.
واذا كانت الدولة الصهيونية تمارس نازيتها ضد غزة ومقاومة شعبها وصموده، فإن “داعش” واخوانه ومتفرعاته، على اختلاف مسمياتهم، يركزون عملهم الوحشي لافتعال نزاعات وحروب اهلية مفتتة للكيانات العربية القائمة، فينشرون الدمار، ويمارسون القتل والذبح والتهجير، ويقومون بتدمير رموز الحضارة العربية وآثارها. ويأتي اضطهادهم للمسيحيين في الموصل واقتلاعهم من ارضهم، والتنكيل بهم وبالاقلية اليزيدية، وحتى بأبناء مذهبهم نفسه اذا لم يخضعوا لسلطتهم وفكرهم ومفاهيمهم الظلامية، ليشكل مع اعلانهم دولتهم في العراق والشام، ومحاولة تمددها الى لبنان عبر استخدام موقع بلدة عرسال، افضل خدمة للصهاينة في اطلاق يدهم بقتل وتشريد اكبر عدد من الفلسطينيين الباقين على ارض وطنهم، في ظل صمت عربي مريب، ودعم اميركي غربي سافر…
انكشفت ظاهرة التطرف والارهاب باسم الدين، بوصفها تشويهاً له، وغريبة كلياً عن القيم الاخلاقية والانسانية. فان وحشيتها ضد الآخر، تناقض تاريخ العيش معاً مسيحيين ومسلمين وغيرهم، على ارض واحدة، منذ 1400 سنة. ومعلوم ان المسيحيين هم عرب قبل نشوء الاسلام، وان كثيرين منهم في بلداننا المشرقية هم من اعلام الفكر النهضوي العربي ومن المناضلين البازرين من اجل الحق الفلسطيني وضد الصهاينة والسيطرة الخارجية.
واذا ما استطاعت مواجهة الجيش اللبناني وتضحياته في محيط عرسال، احباط مخطط “الداعشيين” الرامي الى تفجير حرب اهلية مذهبية سنية شيعية، تدمر وحدة لبنان، وتجعل دولتهم الدينية ممتدة الى البحر في عكار، فان معالجة هذه الظاهرة الارهابية لا تقتصر على مواجهتها بدور الجيش وتعزيز قدراته، وهو ضروري وأساسي جداً، ولا على تجفيف مصادر التمويل فقط، خصوصاً ان التحكم بالتمويل من أمراء النفط يعود الى حماة تيجانهم. كما لا تكون بالمواجهة باسم عصبية مذهبية او دينية اخرى، ولا بالاقتصار على الدعوة الى الاعتدال. فالاساس في هذا الامر يكمن في الغاء مناخ العصبيات والانقسامات المذهبية والطائفية الذي شكل الغطاء لتغلغل المجموعات الارهابية واحتضانها، الى جانب بؤر الفقر والبؤس. وهذا يستدعي في لبنان، وكذلك في منطقتنا المشرقية بخاصة، اقامة الدولة على اسس جديدة لتكون بديلاً للدولة العاجزة والفاشلة، التي يشكل بروز طغيان او تناقض مذهبي في سلطتها، وشعور بالتهميش والغبن والقهر لمكونات اخرى، سبباً لتراكم الاستياء، وقابلية للتوترات والنزاعات، والاجرام والارهاب.
ولا شك في ان الاستناد الى الخارج في معالجة التطرف الديني والارهابي ليس علاجاً. فالولايات المتحدة التي تجهر بعدائها للارهاب، هي التي شجعت ودعمت “القاعدة” ضد الاتحاد السوفياتي في افغانستان قبلاً، وان مخابراتها وادواتها هي التي كونت “داعش” ومتفرعاتها، ودربتهم لتستخدمهم وفقا لحاجات خطتها. وقد اطلقت العنان لإرهابهم بعد سقوط سلطة الاخوان المسلمين في مصر، وفشلها في تونس. واذا ما قامت بضربات موضعية محدودة الآن لمنع تمدد “داعش” الى اربيل حماية لمصالحها، فانها تستخدم “داعش” “فزاعة” لاخافة وابتزاز الاطراف الأخرى وايران، ولتبرير اعادة مئات او الوف الخبراء العسكريين والامنيين الاميركيين الى العراق “للتنسيق ضد الارهاب” اضافة الى نشر “الفوضى البناءة”.
ان اقامة الدولة الديموقراطية التي تساوي بين مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم واحجام مذاهبهم وطوائفهم، وعلى قاعدة فصل الدين عن الدولة، هي السبيل لاخراج مجتمعاتنا من اسر الماضي ولمعايشة العصر بعيداً عن الاضطراب والارهاب.
كاتب سياسي
النهار
الدولة المُلثَّمة/ أمجد ناصر
يكاد أن يكون الوجه، ملامحه تحديداً، الجزء الوحيد في الجسد الذي لا نستخدمه. كأنَّه ليس لنا. كأنَّ وظيفته تقديم أوراق اعتمادنا للآخرين. بإمكاننا أن نتحدث، أن نمشي جنباً الى جنب، أن نجلس في مقهى، أو نستقلّ حافلة واحدة، من دون أن نعرف أسماء بعضنا، مهننا، خلفياتنا الاجتماعية. ولكن، يستحيل فعل ذلك من دون وجه. أقصد بوجهٍ محجوب. فسرعان ما تدركنا الريبة ويداخلنا الشك في شخص (رجل خصوصا) محجوب الوجه. فهذا هو هويتنا المتعيّنة في المعاملات (بطاقة الهوية وجواز السفر)، وهو هويتنا المتواضع عليها إنسانياً. لنكون بشراً، وندخل في معاملات مع الآخرين، ينبغي أن نمتلك وجوهاً وملامح. ليس مهمّاً إن كانت أعيننا ضعيفة النظر. ليس مهمّاً إن كنا مصابين بالربو وضيق التنفس. ليس مهمّاً إنْ كنا شرهين في الأكل، أو صائمين. ذلك كله ليس مهمّاً، ما دامت وجوهنا مكشوفة، وملامحنا، التي تميّزنا عن غيرنا، يراها الآخرون، ويحدّدون حيالنا، أحياناً، موقفاً داخلياً انطلاقاً منها. كأن يعجبون بنا، أو يزوَرّون عنا.
أيدينا، أقدامنا، معدنا التي تطحن، أجهزتنا الجنسية التي تصنع الخصب واللذة، كلُّ هذه لنا. لكنَّ وجوهنا ليست لنا. إنَّها للآخرين. عندما نعجب، نحبُّ، نفتن، نتودّد، نحزن، يكون ذلك، غالباً، بفعل الوجه وليس اليد أو الركبة أو الخصر، فهو مدخلنا الى الآخر، وهو شاشة دواخلنا، و”مغرفة” أعماقنا.
لهذه التداعيات سبب. إنها “دولة” داعش المُلثّمة. الدولة المحجوبة الوجه. أو الدولة التي لا وجه لها.
***
كان أبو بكر البغدادي أول شخص في هذه “الدولة”، يكشف النقاب عن وجهه. هذا، طبعاً، إذا كان الرجل الذي رأيناه يعتلي المنبر في زيِّ عمر بن الخطاب، وسَمْته بالمسلسل التلفزيوني “عمر” هو، حقاً، البغدادي. لنعتبر أنه هو، فهذا ليس مهمّاً في مقاربتي فكرة “الدولة” الملثَّمة، التي تخفي وجهها، لفظاعة ارتكاباتها، أو لتوهمها أنّها تستعيد إرثاً “إسلامياً” (المرابطون، ربما) ، المهم هو فكرة “اللثام” والدولة. الخفاء والعلن. الحجب والكشف. فكيف يمكن لـ “دولة” أن تقوم، وتبسط قانونها، وتشرع في أداء وظائفها، بين الناس، بوجهٍ مستورٍ كأنَّه عورة؟
لذلك، كان على “الدولة الإسلامية” أن تقدّم، بعد اسم “الخليفة” (الحركيّ طبعاً)، وجهاً يراه الناس، و”يبايعونه” عليه. تلك خطوة واحدة، من ألف ميل، لبناء “صرح” الدولة الداعشية. فعليها أن تتحوَّل (بمصطلحات المتصوّفة) من الخفاء إلى “التجلي”، من الحجب إلى الكشف. وهذا لم يحدث، ولن يحدث. فليس هناك يقين، عند أحد، بواقعية هذه الدولة وفعليتها، وقدرتها على الاستمرار. ليس هناك “رعايا” حقيقيون لها، إلا لأسباب تكتيكية. كأن يقف الأنباريون معهم في مواجهة المالكي، أو أن يرى فيهم بعض السوريين مُعيناً في مواجهة نظام الأسد، لكنَّ الناس الذين رأوا أفعال هذه “الدولة”، التي لا حدَّ لقدرتها على ارتكاب الجريمة وإشهارها، سيفضّلون، على الأغلب، دولة الاستبداد على دولة البغدادي. لكنَّ الناس تنسى أنَّ نظام الاستبداد هو الذي يخلق هذه الكائنات الفرنكشتاينية، في مختبرات مخابراته وأقبية أجهزته الأمنية الشيطانية، أو يكون سبباً في انبزاغهم، كلعنةٍ، من القهر والجوع والذل الذي يمارسه على شعبه. في الحالتين، ليست هذه الكائنات نبتاً طبيعياً.
***
تتلثَّم دولة “داعش”، لأنها تعرف أنها ليست دولة. ليست، كما يقول أهلنا، “طير عِيشة”. لم يخلق هذا الطائر الكريه ليطير، وإن طار، قليلاً، لن يستمر. لذلك، يحرص على تغطية ملامحه، لكي يعود إلى الدولة الأولى التي جاء منها، أو يتغطى أمام دولته، شبه المنهارة (العراق، سورية). يعرف الداعشيون أنهم سيلاحقون على الجرائم التي ارتكبوها. لذلك، يخفون وجوههم.. وعندما تفشل دولتهم وتدولُ، في أقرب الآجال، سيمشون بيننا، أو يجلسون معنا، يأكلون بالأيدي نفسها التي قطعت أعناقاً، جزَّت أطرافاً، جلدت ظهوراً، من دون أن ينكشف أمرهم.
لثام هؤلاء ليس لثام الصحراوي في بيئته السافية.
إنَّه لثام اللصوص والمجرمين وقاطعي الطرق.
وأبداً، أبداً ليس اللثام الذي قصده الشاعر المجهول:
لما حووا إحراز كلَّ فضيلةٍ
غلبَ الحياءُ عليهمُ فتلثَّموا.
العربي الجديد
لماذا توافقت واشنطن وطهران على إزاحة المالكي؟
المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
أذعن رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، نوري المالكي، للضغوط التي مورست عليه؛ فأعلن التنحي لمصلحة رئيس وزراءٍ جديدٍ يأمل الجميع أن يكون قادراً على تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تستثني أحداً من مكونات العراق، وتضع حداً للفوضى الأمنية والسياسية التي ميّزت عهد المالكي. وكان لفشل القوات الحكومية في التصدي للدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” – التي سيطرت في حزيران/ يونيو الماضي على مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه، شملت مدناً وبلدات كبيرة مثل الموصل ثمَّ بدأت زحفها نحو إقليم كردستان العراق – الدور الأبرز في القضاء على حظوظ المالكي في البقاء في موقع رئاسة الوزراء. وقد توافقت من جديد الإرادتان الأميركية والإيرانية على ضرورة خروج المالكي من المشهد السياسي العراقي. لقد توصّلت واشنطن الى أنّ داعش ما كانت لتحقّق كل هذا التقدم لولا السياسات الطائفية للمالكي التي أقصت العرب السنة ودفعتهم لدعم جهد التنظيم المتشدد لطرد قوات الجيش العراقي والأجهزة الأمنية التي يتهمونها بالطائفية من مناطقهم. أما إيران، فقد وجدت أنه حان وقت استبدال المالكي الذي غدا مرفوضاً حتى من قبل قوى وتيارات شيعية، وأنه من المهم تقديم وجه سياسي آخر من التحالف الشيعي المحسوب عليها. ومع تقدّم “داعش” صوب كردستان العراق وتهديدها لحليف الولايات المتحدة هناك، قادت إدارة أوباما الجهد العراقي والإقليمي والدولي لإخراج المالكي من الحكم، وتمكنت من إقناع القوى الشيعية الرئيسة في بغداد وراعيها الإقليمي في طهران، بأنّ المالكي لم يعد صالحاً للحكم.
تحوُّلُ العراقِ من معيارٍ لنجاح نهج أوباما في السياسة الخارجية إلى معيارٍ لفشله
تذهب معظم التقديرات إلى أنّ التوّرط الأميركي في العراق والتدهور الاقتصادي الذي أعقبه في الولايات المتحدة، كانت من أبرز العوامل التي جاءت بالرئيس أوباما إلى الحكم. لقد وعد أوباما أثناء حملته الانتخابية في عام 2008، بأنه سوف يسحب جميع القوات الأميركية من العراق في أواخر عام 2011، فقد كان – قبل ذلك – من بين أعضاء مجلس الشيوخ القلائل الذين صوتوا ضد قرار الذهاب إلى الحرب في عام 2003. كما وعد أوباما بإعادة تحفيز الاقتصاد الأميركي وتخفيف جرعات العسكرة باهظة الثمن في السياسة الخارجية. واعتبرت إدارته أنّ تنفيذ وعدها بالانسحاب من العراق في الوقت المحدد، يعدّ أحد أهم إنجازاتها، ويعزّز صدقية “مبدأ أوباما” الذي يرى أنّ الولايات المتحدة ستستخدم القوة العسكرية فحسب إذا دعت الضرورة إلى ذلك وفي حال تعرّضت “المصالح الأساسية” الأميركية للخطر. وما لم تكن “المصالح الجوهرية” الأميركية مهدّدة بشكلٍ وشيكٍ ومحدقٍ، فإنّ إدارته ستلجأ إلى الاعتماد على العمليات الخاصة، كما هو الشأن في تصفية أسامة بن لادن في باكستان، وعلى الهجمات بطائرات من دون طيار كما يجري في اليمن وباكستان، فضلاً عن تقديم المشورة وتدريب قوات الجيش والأمن في الدول محل الاهتمام كما يجري في أفغانستان اليوم.
ولكنّ تنامي الفوضى الدولية وانفجار الكثير من الأزمات الخارجية في وجه الإدارة الأميركية – مثل سورية وليبيا والعراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي – جعل مبدأ أوباما مادةً لنقدٍ شديدٍ. وضمن هذا السياق، تحوّل العراق من “قصة” نجاحٍ لإدارة أوباما ومعيارٍ لإنجازاتها في السياسة الخارجية، إلى “قصة” فشلٍ ومعيار ارتباك في السياسة الخارجية. ويرى منتقدو إدارة أوباما أنّ الانسحاب الأميركي “الاعتباطي” خلق فراغاً في العراق ملأه خصوم الولايات المتحدة وأفقدها السيطرة، أو على الأقل، التأثير في مجريات الساحة هناك. وهو الأمر نفسه الذي قد يترتب على الانسحاب الأميركي المفترض أواخر هذا العام من أفغانستان؛ إذ يمكن أن تعود حركة طالبان وتنظيم القاعدة لملء الفراغ المترتب على الانسحاب الأميركي.
المالكي عنواناً للفشل
طوال سنوات حكم نوري المالكي، صمتت إدارة أوباما عن ممارساته وسياساته الطائفية والفساد الذي طبع حكمه. فقد كان همها الرئيس ينحصر في الانسحاب من العراق والتخلّص من التركة الثقيلة لإدارة الرئيس جورج بوش الابن. وفي هذا السياق، دعمت إدارة أوباما بقاء المالكي في موقع رئاسة الوزراء بعد انتخابات آذار/ مارس 2010، على الرغم من أنّ النتائج أسفرت عن تقدمٍ طفيفٍ للقائمة العراقية برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي على ائتلاف دولة القانون برئاسة المالكي، وذلك بذريعة أنه لم يكن في وسع علاوي تشكيل حكومة أغلبية. ومع انتفاض العرب السنة في إقليم الأنبار ضد المالكي أواخر عام 2012، استمرت واشنطن في دعمه وغضّت الطرف عن سياساته الإقصائية.
لقد رفضت إدارة أوباما دعم “الثوار المعتدلين” ضدّ نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ما سمح لتنظيم “داعش” بالتمدّد في سورية. ثم وجدت أنّ من مصلحتها دعم المالكي وقوات الجيش والأمن العراقيين لمجابهة أي إعادة بعث لـ “داعش” في العراق بعد إنجازاتها على الأرض السورية. وكانت تأمل هذه الإدارة أن يكون تمكّن قوات المالكي من إلحاق هزيمة بهذا التنظيم خير ردٍ على منتقدي الإدارة، ودليلاً على أنّ “مبدأ أوباما” في السياسة الخارجية لا يزال يعمل، وبخاصة في جزئه المتعلق بدعم الحلفاء وتسليحهم وتقديم المشورة لهم من دون حاجة للتدخل مباشرة. وفي مقابل دعم المالكي سياسياً وعسكرياً، فإنّ إدارة أوباما طلبت منه غير مرة أن ينفتح على خصومه السياسيين من العرب السنة والأكراد، وحتى داخل ائتلاف حكمه الشيعي، لكنّ المالكي استمر في العناد ورفض تقديم أي بوادر حسن نية تجاه تشكيل حكومة توافقية.
وقد غيّرت عوامل عديدة من حسابات إدارة أوباما، مثل: التقدم المفاجئ لقوات “داعش” والعشائر السنية المتحالفة معها مطلع حزيران/ يونيو الماضي وهزيمتها للقوات العراقية وسيطرتها على الموصل ومدنٍ وبلداتٍ أخرى في شمال العراق وغربه، وتوحيد “داعش” لمناطق سورية وعراقية على جانبي الحدود تحت سيطرتها، فضلاً عن اقترابها من الحدود الأردنية والسعودية، وتزايد مخاطر زحفها نحو بغداد والسيطرة عليها، وإعلانها “الخلافة الإسلامية”. فواشنطن التي كانت تقاوم أي انجرارٍ نحو التورط في العراق مجدداً، وجدت نفسها في وضع حرجٍ لا يسمح لها بالتغاضي عن تعزيز قبضة “داعش” على كثيرٍ من الأرض العراقية واتساع رقعة تمدّدها، بما يمثله ذلك من تهديد لمصالحها في المنطقة، فضلاً عن التهديد الذي تمثّله لمصالح حلفائها وأمنهم هناك، وبخاصة الأردن والسعودية والأكراد وتركيا.
لقد رأى أوباما مبدأه في السياسة الخارجية يتهاوى، ما فسح المجال أمام خصومه السياسيين داخل الولايات المتحدة لادّعاء فشل هذا المبدأ وتحميل إدارته مسؤولية الفوضى التي تشهدها الساحة الدولية جراء ما يصفونه تراجع الزعامة الأميركية، العائد – حسب رأيهم – لانسحاب الإدارة وانكفائها عالمياً.
لقد بدا واضحاً أنّ سنوات من تهميش السنة العرب تحديداً، وقمعهم واستهدافهم، خلقت بيئة مواتية في صفوفهم لتقبّل “داعش” على حساب النظام الطائفي الذي أرساه المالكي، والجيش الطائفي الذي يقوم على رعايته. وهكذا، فإنّ المالكي الذي أغلق سبل إبقاء أي قوة أميركية على الأرض العراقية أواخر عام 2011، وجد نفسه يتوسل هذه المرة دعماً عسكرياً أميركياً لمواجهة زحف “داعش” والعشائر السنية. وأتبع ذلك بمنح القوات الأميركية الحصانة القضائية التي رفضها قبل سنوات. غير أنّ تحرّك المالكي هذا جاء متأخراً؛ فالمسألة بدت أكبر من مجرد توفير دعم عسكري أميركي جوي أو بري، فقد كانت متعلقة بأسلوب حكمه التسلطي الإقصائي. وهو الأمر الذي عادت الولايات المتحدة إلى التركيز عليه مجدداً، فربطت أي إسنادٍ عسكري ذي معنى للمالكي في المرحلة الأولى، بتشكيل حكومة تشاركية توافقية لا تقصي أحداً، وبخاصة العرب السنة والأكراد، ثم وصلت إلى المطالبة بتنحّيه عن الحكم.
تضييق الخناق تدريجياً وصولاً إلى إخراج المالكي
تمثّل النهج الذي اتبعه أوباما في التعامل مع التحدّي القادم من العراق، بدايةً، في تضييق الخناق على المالكي بغية تغيير سلوكه على الأرض، عبر التأكيد على عدم وجود حلٍ عسكريٍ للوضع في العراق من دون أن تكون هناك صيغة سياسية تشاركية تدمج السنة والأكراد إلى جانب الشيعة، وذلك للتصدي لخطر “داعش” واحتمال تفسّخ العراق إلى ثلاثة أقاليم شيعية وسنية وكردية. لذلك اكتفى أوباما، في حزيران/ يونيو الماضي، بإرسال 300 مستشارٍ عسكري أميركي (رفع عددهم الآن إلى نحو 1000 مستشارٍ موزعين بين بغداد وأربيل) لتنسيق العمليات العسكرية للقوات العراقية على الأرض ضد مقاتلي “داعش”. كما أمر بقيام طائرات أميركية من دون طيار وطائرات مقاتلة (إف-18) بإجراء طلعات جوية في الأجواء العراقية، في مهمةٍ حدد هدفها، حينئذٍ، بجمع المعلومات الاستخبارية وحماية العناصر الأميركية على الأرض. ولم يأمر أوباما بأي هجمات على مقاتلي “داعش” إلا في 8 آب/ أغسطس؛ أي بعد نحو شهرين من اجتياحهم الموصل ومدناً وبلدات أخرى في شمال العراق وغربه؛ وذلك بعد بدء زحفهم نحو الإقليم الكردي، وتهديد عاصمته أربيل، فضلاً عن استهدافهم المسيحيين والأيزيديين.
استهدف تأخير التدخل العسكري الأميركي الضغط على المالكي للقبول بصيغة حكم تشاركية واسعة، أو الخروج من المشهد السياسي كلياً، وإحلال شخصية أخرى مكانه تكون أقل استقطاباً من داخل الائتلاف الشيعي الحاكم. وعلى الرغم من حصول التحالف الوطني الشيعي – الذي تعدّ كتلة دولة القانون التي يقودها المالكي أكبر مكوناته – في الانتخابات البرلمانية العراقية في نيسان/ أبريل الماضي على أغلبية ضئيلة لا تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً، فإنّ المالكي لم يتمكن إلى يوم إعلان سحب ترشحّه لرئاسة الوزراء من تشكيل حكومة، وذلك لرفض السنة والأكراد العمل معه بسبب سياساته الإقصائية بحقهم، وكذلك بسبب رفضِ عددٍ من مكونات التحالف الشيعي نفسه لشخص المالكي لتهميشه لهم في الماضي.
وتعزّز الاقتناع الأميركي بأنّ رحيل المالكي شرط لمعالجة جذور الأزمة في العراق، فالقاعدة الأوسع للثوار السنة على حكومته ليسوا من “داعش”، بل هم من مقاتلي العشائر السنية التي تمردت على سياساته الطائفية والإقصائية ولم تعد تحتملها. بل إنّ كثيراً من ثوار العشائر اليوم كانوا من مقاتلي “الصحوات” الذين ساعدوا الولايات المتحدة على هزيمة تنظيم “القاعدة” عام 2006-2007، وقد رفض المالكي إدماجهم في ما بعد في الجيش وقوات الأمن العراقية. ومن ثمّ، فإنّ تدّخل الولايات المتحدة عسكرياً لمصلحة حكومة المالكي كان سيبدو وقوفاً مع الشيعة وإيران ضدّ السنة وحلفاء أميركا في المنطقة، وبخاصة المملكة العربية السعودية المستاءة من المالكي وراعيه الإيراني. وفي هذا السياق، أعلن أوباما في مقابلة له مع جريدة نيويورك تايمز، بأنه لن يقبل أن تتحوّل المقاتلات الأميركية إلى سلاح جو للحكومة الشيعية، كما شدّد على أنّ على إيران أن تفهم بأنّ السعي للسيطرة المطلقة على العراق عبر حليفها الشيعي ستكون له نتائج وارتدادات عكسية.
ومع تواصل الضغوط على المالكي داخلياً خاصة من قبل المرجعية الدينية، وخارجياً من قبل واشنطن وكذلك إيران التي رفعت الغطاء عنه عبر مباركة تكليف حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، اضطر في النهاية إلى إعلان التنازل عن تشبثه بولاية ثالثة. وبهذا، تكون ورقة المالكي قد طويت أميركياً بتنسيق مع إيران التي أكّد بعض مسؤوليها أنّ التوافق على العبادي جاء بعد محادثات أميركية – إيرانية.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يعزّز خروج المالكي فرص هزيمة “داعش” قبل تحوّلها إلى تهديدٍ إقليمي أكبر من العراق. كما أنّ تشكيل حكومة توافقية عراقية سيقلّل من إمكانية توّرط عسكري أميركي بري جديد في العراق. ولا يرغب أوباما في هذا التورط البري، إذ يعتقد أنّ إرثه الرئاسي مرتبط بشكل كبير بسحب القوات الأميركية من العراق. وكان من اللافت أنّ المقاتلات الأميركية بدأت بتوسيع دائرة استهدافها لمواقع “داعش” لتشمل مناطق قرب الموصل وأربيل منذ 16 آب/ أغسطس؛ أي بعد يومٍ واحدٍ فقط من إعلان المالكي تنازله عن تشكيل حكومة جديدة.
أما بالنسبة إلى إيران، فإنّ هدفها الأول هو أن تُبقي على نفوذها في العراق عبر الحفاظ على سيطرة حلفائها على زمام السلطة فيه. وبما أنّ المالكي فشل في ذلك، وأصبح وجوده عبئاً في تحقيق هذا الهدف، فإنها مالت إلى الحفاظ على ذلك النفوذ عبر شخصية شيعية أخرى مقربة منها وأقل استقطاباً من المالكي، وهو العبادي.
وإذا كان الأمر كذلك؛ أي استبدال وجه مقرّب من إيران بآخر، فما الذي سيجعل العبادي ينجح في ما فشل فيه المالكي، أم أنّ الأمر بحاجة إلى تغييرٍ أعمقَ يطال بنية النظام السياسي الذي جاء به الاحتلال الأميركي وكرّس من خلاله منطق المحاصصة الطائفية؟
“داعش” على بعد خطوة/ حـازم الأميـن
جميع اللبنانيين تساءلوا في الأسابيع الأخيرة: هل من أفق لـ”داعش” في لبنان؟ وجوابي الشخصي، إذا ما سمحت لنفسي بإجابة متواضعة، هو: نعم! وإذا ما سمحنا لأنفسنا أن نستعير معادلة “الظروف الذاتية والظروف الموضوعية” من قاموس عتيق لا بأس أحياناً من الإستعانة به، فإن الشرطين، الذاتي والموضوعي متحققان في لبنان. هناك الـ”داعشي” اللبناني الفرد الذي يمتلك من المواصفات المشابهة لتلك المتوافرة في الـ”داعشي” العراقي والسوري والمغاربي والأوروبي، ولدينا، والحمد لله، الشرط المحلي الذي أنتجه، أي الشرط الديني والسياسي والطائفي والمذهبي.
وتلخيصاً لهذه الفكرة ربما كان مفيداً الخروج من المأزق النظري للفكرة، ولنسمي الأشياء بأسمائها. عليٌّ شاب غير سلفي من مواليد عام 1991 من منطقة القبة في طرابلس، هو وحيد لأمه، ووالده غادر إلى جهة مجهولة عندما كانت أمه حاملاً به، منخفض مستوى التعليم ويملك محلاً لبيع الهواتف الخليوية في منطقة أبي سمرا.
يُصلي أحياناً، لكنه شديد الإيمان وشديد الغضب على حال طائفته. يرتدي بنطلون جينز ويُطلق لحية خفيفة يعتني له بها صديقه الذي يعمل حلاقاً في شارع المعرض في طرابلس. وعليّ صديق طفولة وزميل مدرسة لمصطفى عبدالحي، الانتحاري اللبناني الذي نفّذ عملية في بغداد قبل نحو شهرين ضد هدف شيعي، ويقول عنه: “مصطفى بطل وأنا أخجل من أمه كلما أصادفها”.
أمُّه بوصلة أساسية في حياته وفي خياراته، ويقول إن الأمهات يتقدمن على الآباء في الرأفة وفي الإيمان.
ليس حزبياً ولم يقاتل يوماً على محور باب التبانة ـ بعل محسن، لأنه يخاف على أمه، فهو وحيدها، والقصة على هذا المحور “مش محرزة”. يقول إنه لم يتوظف في الدولة لأنه ليس شيعياً، ويُشعره نصر “داعش” في الموصل بتعويضٍ عن هزائم “أهل السنّة” في لبنان وسورية والعراق. فلسطين هي كليشيه ثابت قاموسه المحكي، لكنها بعيدة وغير ملحّة الآن. والجيش اللبناني بحسب ما يقول، يُسيطر عليه الشيعة و”حزب الله”، وهو يُحب أشرف ريفي ويكره نهاد المشنوق، ويعتقد أن “حزب الله” هو من طرد سعد الحريري من لبنان، ويرى أن سعد غير شجاع، ومن يُمثّله هم مشايخ “أهل السنّة” وليس نوابهم.
رأسه محشو بمحطات لطالما يُذكر بها. اغتيال الحريري الأب و7 أيار واشتباكات التبانة بعل محسن وسورية والعراق (فلسطين غير، لا تحضر إلا نادراً). أوقفته مخابرات الجيش ذات يوم ليس ببعيد بتهمة حمل السلاح، ولديه أصدقاء كثر في سجن رومية. وهو سمع من أحد الناشطين السلفيين أن الشيعي يحمل مدفعاً ولا يُعاقبه أحد.
هذا الشاب بعيد خطوة صغيرة عن “داعش”، تماماً مثلما هو بعيد خطوة مماثلة ولكن باتجاه آخر عن مصباح الأحدب وعن أشرف ريفي وعن نجيب ميقاتي. اجتياز الخطوة الصغيرة هذه سيحصل ما إن تُقدِم “داعش” على “إنجاز” مهم في لبنان. في عرسال مثلاً، حيث القابلية لـ”التدعشن” أضعف من القابلية الطرابلسية، جرى أن انخرط شبان عراسلة وآخرون من أبناء مخيمات اللاجئين، في القتال إلى جانب “داعش” و”النصرة” فور سيطرة التنظيمين على البلدة. فالقتال أشعل حماسة وخاطب فصام فتية وأخرج عنفهم الأصلي وصوّر لهم نصراً وشيكاً.
بعد الموصل وبعد عرسال، يعيش عليّ منتظراً انتصاراً مشابهاً. هو لن يخطو تلك الخطوة الصغيرة لوحده. عادة تتولى “داعش” الخطوة الأخيرة. هي من سيُبادر بعدما تولّت ظروف هائلة، لا علاقة لـ”داعش” بها، نقل هؤلاء الفتية من طفولتهم البائسة إلى فتوّتهم الشقية.
خطوة صغيرة وتصل “داعش” إلى عليّ.
موقع لبنان ناو
ذهبَ نوري فمتى يذهب بشار؟/ عبدالعزيز التويجري
أخيراً، وبعد أخذ ورد وضغوط من هنا وهناك، رضخ نوري المالكي وقبِل بالتنحّي عن رئاسة الوزراء في عراق مقسّم ورازح تحت سطوة طائفية مقيتة وإرهاب دموي بشع وتناحر سياسي مدمر. ولن ينسى العراقيون، مهما بلغ ببعضهم التعصب الطائفي، ان عهد نوري المالكي كان مثل سوء عهد صدام حسين إن لم يكن أسوأ منه. فقد تبين مدى طائفية المالكي واستحواذه على السلطة وإقصائه لمخالفيه مهما كان انتماؤهم المذهبي والحزبي. فكل من اختلف معه كان مصيره إما اتهامه بمساندة الإرهاب والحكم عليه بمحاكمات هزلية مدبّرة، أو تسليط الميليشيات الطائفية التابعة له لاغتياله واغتيال أقاربه والاستيلاء على أمواله، أو إقصاؤه وعدم التفاهم معه.
إن ما جرى في العراق خلال سنوات سيطرة المالكي على كل مفاصل الدولة من تشجيع للهيمنة الطائفية ومن عمليات قتل وتهجير وقصف للمدن وتصرف بمليارات الدولارات من دون سند قانوني، ومن انصياع كامل للهيمنة الإيرانية والسماح لإيران بالتحكم في القرار السيادي العراقي والانحياز الى جانب النظام السوري الطائفي الذي يقتل شعبه ويدمر وطنه، ومن توتير للعلاقات مع دول الجوار العربية… كل ذلك كان بسبب سياسة المالكي الاستبدادية الطائفية التي أغضبت حتى المرجعيات الشيعية الكبرى مثلما أغضبت جميع القوى السياسية العراقية الوطنية. والآن وقد أُبعد المالكي كرهاً لا طوعاً وتم تعيين رئيس وزراء جديد من التحالف الوطني الذي ينتمي اليه المالكي بمباركة من المرجع الكبير آية الله السيستاني، فإن المصلحة الوطنية العراقية تتطلب نقض كل ما فعله المالكي وإعادة بناء الدولة العراقية على اساس المواطنة والشراكة بين أبناء الوطن بعيداً من الاعتبارات الطائفية والعرقية التي ثبت فشلها وتبين خللها. كما ينبغي بذل اقصى جهد لمحاربة التنظيمات الإرهابية والميليشيات وعصابات الخطف والاغتيالات مهما كان شعارها او دثارها، وإعادة السلطة الى مؤسسات الدولة وتقويتها وتوجيهها لحماية الوطن وأمنه وسلامة كيانه وكرامة مواطنيه جميعاً.
ان الترحيب الواسع الذي لقيه رئيس الوزراء الجديد السيد حيدر العبادي داخلياً وإقليمياً ودولياً يجب ان يكون بداية لعودة العراق الى اصله ومحيطه العربي، وأن يكون مشجعاً للدول العربية على توثيق علاقاتها مع الحكم الجديد ودعمه وفتح صفحة جديدة معه مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون المثمر. وإذا كانت القوى العراقية الدينية والسياسية استطاعت بدعم من المجتمع الدولي ان تتخلص من كابوس المالكي وديكتاتوريته وتعصبه، فإن الوقت حان أيضاً لتخليص الشعب السوري من ديكتاتور آخر متعصب وطائفي دمر بلاده وقتل شعبه وهجّر الملايين منه في معارك دموية بشعة دامت ثلاث سنوات ولا تزال فصولها المرعبة تتواصل. فليس هناك من مبرر إطلاقاً لاستمرار سياسة التهاون او التواطؤ مع هذا النظام التي تنتهجها الولايات المتحدة الاميركية والتي قلنا مراراً انها تخدم مصالح اسرائيل وإيران، ولا تخدم مصالح الشعب الاميركي ولا مصالح بقية دول المنطقة.
ألا يكفي قتل اكثر من ثلاثمئة الف انسان وتهجير اكثر من ثمانية ملايين سوري داخل سورية وخارجها وتدمير عشرات المدن والقرى تدميراً كلياً او جزئياً، واستخدام الاسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، ومشاركة الميليشيات الاجنبية والتنظيمات المشبوهة في هذه الحرب ضد الانسانية؟ ألا يكفي هذا ليكون مبرراً قانونياً وإنسانياً للمجتمع الدولى ليقوم فوراً بإنقاذ الشعب السوري والمنطقة كلها من هذا الديكتاتور الدموي ومن نظامه الطائفي الفاسد؟ ان القوى التي أجبرت الديكتاتور الطائفي في العراق على التنحي، قادرة اذا صحت لديها العزيمة وصدقت الإرادة، على إجبار ديكتاتور سورية وسفّاحها على التنحي طوعاً او كرهاً، وإعطاء شعب سورية العريق حقه في الحياة الحرة الكريمة. فهل هم فاعلون؟
* أكاديمي سعودي
الحياة
الأسد يريد استثمار “داعش”/ طارق الحميد
عندما تشاهد المستشارة الإعلامية لبشار الأسد، بثينة شعبان، تتحدث على شبكة «سي إن إن» الأميركية حول خطورة «داعش» في العراق وسوريا، فلا بد أن تستشعر أمرا مريبا، فكيف تتحدث شعبان عن خطر «داعش» وهي تمثل نظاما لا يقل خطورة وإجراما عن «داعش» نفسها!
الغريب أن شعبان تحذر من خطر «داعش» على المنطقة والإنسانية، بينما الحقائق تقول إن «داعش» نمت تحت أنظار نظام الأسد الذي أخرج قياداتها من السجون، ولم يقاتلهم إلا الآن، وبعد أن تحرك الأميركيون ضد «داعش» في العراق! الواضح اليوم أن الأسد يعتقد أنه قد حان وقت قطاف الاستثمار في «داعش» للقول بأنه هو ضحية التطرف والمتطرفين، وهذه لعبة أسدية مكشوفة منذ اندلاع الثورة. والحقيقة المعلومة هي أن الأسد لم يواجه «داعش» من قبل، بل كان بينهم حياد، وكتبت وكالة «رويترز» عن استهداف نظام الأسد لتنظيم «داعش» مؤخرا ما نصه: «وحتى الصيف الحالي لم تكن قوات الأسد قد استهدفت تنظيم (داعش) الذي كان يعرف باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وسمح هذا للجماعة بأن تنمو. وأدى إلى إضعاف الجماعات المعارضة». وهذا تماما ما فعله الأسد الذي يحاول الآن استثمار الخوف الدولي من «داعش» لمصلحته.
ومحاولة استثمار الأسد لخطورة «داعش» اليوم ما هي إلا لعبة مكشوفة طالما لجأ إليها الأسد، ليس في سوريا، بل وفي لبنان والعراق، ومع جماعات متطرفة مختلفة، فمن تسهيل دخول متطرفي «القاعدة» للعراق عبر سوريا، وتحت أعين النظام، إلى قصة أبو عدس، واغتيال الراحل رفيق الحريري، بل وأكثر من ذلك. كل هذه حيل أسدية مكشوفة، إلا أن الأسد يحاول تكرارها اليوم بشكل مختلف في سوريا. فالواضح أن الأسد أراد أن يقلب الطاولة على الأميركيين، خصوصا عندما تردد أن التفكير الأميركي حيال الأزمة السورية هو أن سوريا باتت تشكل منطقة تجمع كل الذباب، أي المتطرفين، وبالتالي فإما أن يستنزف المتطرفون أنفسهم بالمعارك، وخلفهم إيران، أو أنه سيسهل ضربهم في مكان تجمعهم، بحسب طريقة التفكير الأميركية في حينه.
ويبدو أن الأسد التقط هذه الفكرة ليحولها إلى مصلحته، وذلك بجعل «داعش» تقاتل «النصرة»، ويتفرغ هو لضرب الجيش الحر، وتصفية المعارضين، وليظهر الأسد بمظهر الضحية أمام العالم. وبالتالي فإما أن يدمر خصومه بعضهم البعض، أو أنه يتمكن من استثمار لحظة تحول سياسية كبرى في المنطقة للانقضاض على خصومه بدعم دولي يضمن له تحقيق بعض المكاسب. وهذا ما يحاول الأسد فعله الآن تحديدا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا إذا كان المجتمع الدولي قد بلغ هذا الحد من السذاجة!
صحافي سعودي عمل في صحيفة “المدينة” ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
السلام مع الأسد هو الحل!/ موناليزا فريحة
… أخيراً، أضاف النظام السوري “الدولة الاسلامية” الى لائحة أهدافه. نحّى براميله المتفجرة جانباً وأخرج صواريخه الموجّهة. حوّل “عاصمة الخلافة” ومعاقل أخرى للتنظيم هدفا لغارات هي الاكثر كثافة على هؤلاء المقاتلين منذ دخولهم على خط الازمة السورية ربيع 2013.
يبدو أن النظام أدرك أخيرا أن خططه حيال “الدولة الاسلامية” لم تعد مجدية. فبعدما غض الطرف عنها طويلا، باتت تمثل تهديدا له. استهدفت قواعده المعزولة في الشمال وقتلت جنوده ونكلت بهم. لم يعد قادرا على التفرج عليها تضرب المعارضات الاخرى، بعدما صارت تهدد مكتسباته وخصوصا في حلب.
غير أن النظام، الذي يتقن تحيّن الفرص، يسعى هذه المرة ايضاً الى ضرب الحديد حاميا. يستغل التدخل الاميركي الطارئ في العراق لتوقيت ضرباته، محاولا تعزيز محاربته المعلنة للارهاب في سوريا عله يفرض نفسه شريكا للغرب في مواجهة تهديد هذا التنظيم الذي تجاوزت ممارساته حدود العقل والمنطق.
بعد طي صفحة السلاح الكيميائي، يحاول الرئيس الاسد استعادة شرعية دولية عبر “حرب على الارهاب” طالما رفع شعارها عندما كان يقصف قراه ومدنه ومواطنيه. ولعل ما يشجعه على هذه المغامرة غياب أي نيات معلنة لواشنطن لتوسيع ضرباتها من العراق الى سوريا. ولن تُخفى عليه أيضاً الاصوات التي ترتفع في واشنطن وغيرها تطالب بتنسيق أميركي – سوري لمحاربة داعش.
في تصوّر للجهة التي يمكن أن تواجه هذا الخطر الاسلامي، يرى الباحث في مؤسسة الرأي “راند كوربوريشن” وليم يونغ أن لا دولة عربية مستعدة للتدخل وحدها أو بالتعاون مع دول أخرى لوقف “داعش”. وإذا كانت طهران قادرة على وقف طموحات التنظيم الى التمدد جنوب بغداد وشرقها، فإن القوات العراقية أخفقت في اظهار القدرة على الحفاظ على الارض، وسط هجمات مستمرة تضيق الخناق على العاصمة. وفي رأيه أيضاً أن الجيش اللبناني بمساعدة “حزب الله” قد يكون قادراً على حماية الحدود مع سوريا، والجيش الاردني يمكن أن يصد توسع الخلافة في اتجاه المملكة. غير أن التحدي الاكبر لهاتين الدولتين الصغيرتين يكمن في محاربة التهديد الداخلي فيهما، مع اكتساب “الدولة الاسلامية” مزيدا من التعاطف والمتحمسين من خلال حملاتها الاعلامية وقدرتها على ادارة المناطق التي تسيطر عليها.
يصيب الباحث في تشخيصه أن وقف تقدم “داعش” يوجب على أميركا وحلفائها معالجة مصدر المشكلة، الا وهو الازمة السورية. غير أن السلام مع الاسد، وهو ما بات بعض الباحثين والخبراء الاميركيين يدعون اليه علناً، سبيلاً للقضاء على “الدولة الاسلامية”، لن يكون في أحسن الاحوال الا عودة الى المربع الاول. وبعد كل الدماء التي اريقت في السنوات الثلاث ونيف الاخيرة، لن يكون مستغربا أن يتحول عندها كل سوري “داعشا” ويخرج بدل البغدادي ألف.
النهار
وحدهم العرب غير مستفيدين من وجود “داعش”/ عبدالوهاب بدرخان
تتردد تبريرات عجيبة غريبة عن هوية تنظيم «داعش»، وبالأخص عن منحه فسحة زمنية طويلة ليجمع صفوفه ويستمر حتى الآن في استقطاب مزيد من المتطوّعين لـ «الجهاد». واللافت في تفسير الظاهرة أن الكلّ يتهم الكلّ، فهل يفيد ذلك بأنهم متورّطون جميعاً بلا استثناء، وأن كل طرف يشير الى الطرف الذي يعاديه أو يزعجه، أو الجهة التي يرى مصلحةً في توجيه الأنظار اليها وإدانتها.
سبق للنظام السوري أن سمّى دولاً اقليمية ترعى الارهاب وتموّله، وبالتالي تعكّر صفو بقائه وسلاسة جرائمه، لكنه صمت دائماً كلما بيّنت الوقائع أنه نسّق قتالياً مع «داعش» وفضّل وجوده في مناطق لا يريدها في يد «الجيش الحرّ»، ولم تُسَجَّل معارك بين النظام و «داعش» إلا في الآونة الأخيرة. يعتقد نظام دمشق ان ربط أزمته بالأزمة العراقية يناسبه لأن «محاربة الارهاب» أصبحت عنوان الاستحقاق الاقليمي الداهم، وهو ما دعا اليه منذ بدايات أزمته قبل نحو أربعة أعوام. وطالما أن هذه المعركة تدوّلت سريعاً، فهي عند نظام بشار الاسد مفتاح اعادة تأهيله ليكون شريكاً فيها، إلا أن الغباء السياسي المتعمَّد يدفعه الى التعامي عما حصل فعلاً في العراق وعن الشروط السياسية التي وضعتها القوى الدولية للتدخّل، وعلى رأسها أن تكون هناك دولة ذات شرعية وحكومة جامعة وحل سياسي حقيقي.
أما ايران وتوابعها، حلفاء دمشق، فهم بدورهم لم يقاتلوا «داعش» في سورية بل تعاملوا معه كـ «رافد» لهم في معارك انقاذ نظام الاسد، قاتلوا المعارضة السورية لكنهم ركّزوا خطابهم ودعايتهم على «التكفيريين»، اذ أرادوا استثمار حربهم هذه لإيجاد مسوّغ لتمدّد النفوذ الايراني على المشرق والخليج العربيين وتظهير وظيفته بأنه في خدمة محاربة «الارهاب السنّي». كان يُفترَض أن يساهم الحدث العراقي في تأكيد هذه الوظيفة وفي ترغيب العالم بـ «شرائها» وتفعيلها، إلا أن الدول الكبرى المعنيّة كانت تراقب الوضع في العراق واستنتجت باكراً أنه لم يكن هناك جهد ايراني لإضعاف «داعش»، بل تداخل مصالح بين الطرفين، كما أن الادارة الايرانية للأزمة العراقية كانت على العكس تضغط لتأجيج البؤرة الارهابية ولتصنيع مفتعل لـ «البيئة الحاضنة» له.
وبالنظر الى تطوّر الأحداث الأخيرة في العراق، وتوجّه المجتمع الدولي الى الاعتماد على اقليم كردستان وقوات البشمركة لمواجهة التوسّع «الداعشي»، انعطفت الدعاية الايرانية الى دمج «التكفيريين» في «مؤامرة صهيونية» و «مؤامرة اميركية». واعتبر الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله أن الولايات المتحدة «تغاضت» عن تنظيم «داعش» وسهّلت حركته «لتستفيد منه». قد يكون هذا الاتهام صحيحاً، إلا أنه يعكس خصوصاً استياء ايران من النهج الاميركي الراهن في العراق، ثم أنه اتهامٌ ينطبق على كثيرين، بمن فيهم ايران وأميركا، فلائحة المتغاضين والمسهّلين طويلة جداً، لذلك يتكرّر تعريف «داعش» بأنه «كيان استخباري» نشأ وكبر بفضل المستفيدين منه. لكن نصرالله (وإيران) يتناسى بل يتغاضى بدوره عن التغاضي الاميركي عن دور حزبه وخصوصاً دور ايران في سورية، فالمنطق نفسه يشي بأن اميركا (وإسرائيل) استفادت منهما أيضاً.
في القاهرة كما في الرياض تتقاطع المخاوف مع دعوات ملحّة الى تعاون أو تحالف أو مؤتمر دولي لمواجهة الارهاب بأشكاله الجديدة، ولا شك في أن عدم الاستجابة دولياً – بالأحرى اميركياً – يكثّف الهواجس العربية، فالمسألة لا تتعلّق فقط بالقضاء على تنظيم «داعش» بل بما هو أكبر وأخطر، أي بما هو مراد في نهاية المطاف من مساهمة أطراف كثيرة في التضخيم المنهجي لهذا الكيان الارهابي، ومن الاستخدامات المشتبه بها للتنظيم سواء لتغيير الخرائط أو لتمزيق النسيج الاجتماعي للمناطق التي يمارس فيها همجيته. من السهل الحديث عن «مؤامرة»، لأن هذا الكمّ من اللاعبين الظاهرين والخفيين يوحي بها، ولأن السعي الثابت الى جعل سورية والعراق بؤرة لتجميع الارهابيين وحصر خطرهم في المنطقة يحقق رغبة غربية سبق أن أبديت في سياق «الحرب على الارهاب». كل ذلك لا يكفي لاختزال الأمر بنظرية المؤامرة، ولا شيء غيرها، فالمعطيات التي نجمت عن الغزو الاميركي للعراق، وعن التغلغل الايراني والاستحواذ على العراق، وعن تداعيات انتفاضات «الربيع العربي» التي زعزعت تماسك الدول… أوجدت وضعاً مفتوحاً على كل أنواع التلاعب والاستغلال، وقد برز «داعش» في هذا السياق لا لدفع التحوّلات العربية نحو الفوضى فحسب بل بالأخص لتأمين تغطية (بعلمه أو من دونه) للأدوار الأخرى. وإذ يُطرح السؤال: من المستفيد من «داعش» وجرائمه؟ فالجواب الوحيد المؤكد سلبي، وهو: ليس العرب.
وفي أنقرة قلق من توسّع «داعش» وحسابات قريبة وبعيدة المدى لما يمكن أن تذهب اليه الحرب المتجدّدة على الارهاب وللأدوار التي ترتسم أمام تركيا. فبالنسبة اليها، كما لأطراف دولية اخرى، لم تعد قضية سورية مهمّة في حد ذاتها، ولا قضية العراق، فالبلدان سقطا في أزمتيهما وأصبحا مجرد مسرح للقضية التي تشغل المجتمع الدولي، أي محاربة الارهاب: في العراق أولاً ريثما تترتّب الظروف لاستكمال محاربته في سورية أيضاً. كانت تركيا تعرضت لاتهامات مسندة بأنها سهّلت مرور أعداد كبيرة ممن أصبحوا بعدئذ في صفوف «داعش» أو «جبهة النصرة»، لكنها تتطلّع الى المشاركة في ضرب الارهاب في سورية عندما يحين وقته. وإذ تحاول استشراف «ما بعد» هذه الحرب، فإنها لا تخفي نقداً «مؤامرتياً» للنيات الاميركية والبريطانية والاسرائيلية وحتى الالمانية. ليس معروفاً المدى الزمني لهذه الحرب، لكن أنقرة تتوقع أن تسفر في نهايتها عن «سايكس – بيكو» بإسم آخر تعتمد فيه الدول الكبرى على القوّتين الحاضرتين (تركيا وايران)، أما اسرائيل فيرى الاتراك أنه كانت لديها فرصة للقيام بدور اقليمي في المستقبل، إلا أنها بدّدتها وخسرتها.
على رغم أن قرار مجلس الأمن يظهر إدراكاً دولياً شاملاً لمختلف جوانب الملف الذي يطرحه الارهاب «الداعشي»، ويحاول الإيحاء بأن المجتمع الدولي بات أكثر جديةً وتصميماً على مواجهة هذا التنظيم، إلا أن التوجّهات الاميركية، والى حدٍّ ما الاوروبية، لا تعكس رغبة في تصوّر شامل أو في جهد واسع مشترك. صحيح أن استناد القرار الى البند السابع قد يشكّل بداية تحرك دولي إلا أنه: 1) ظلّ أقل بكثير من المطلوب بالمقارنة مع الفظاعات التي ارتكبها «داعش» ولن يثنيه أي رادع عن المتابعة، 2) استخدم سلاح العقوبات تجاه تنظيم متفلّت من كل النظم والأساليب التقليدية، 3) استند الى القرارات السابقة التي خيضت ضد الارهاب، إلا أنه لم يدعُ الى بلورة تحالف دولي جديد، لكن الأهم أنه 4) يتعامل مع الشأن «الداعشي» كأنه جاء من فراغ، فلم يتضمّن اي اشارة الى خلفيات الحدث ومسؤولية الأطراف الاقليمية والدولية (أو مسؤولية النظامين السوري والعراقي) وفشل الادارة السياسية والأمنية والديبلوماسية وتهوّراتها في تعقيد الأزمتين…
لذلك تعمّ الشكوك والارتيابات عربياً حيال الموقف الدولي عموماً والاميركي خصوصاً. فالضربات الجوية تبقى محدودة الفاعلية في تغيير الأمر الواقع الذي خلقه «داعش» في أقل من شهرين. أما تسليح اقليم كردستان فيُعزى طبعاً الى أن القوى الدولية لم تجد طرفاً آخر يُوثق به ويُعتمد عليه، لكنه لا يشكّل بديلاً من جيش «الدولة» العراقية ولا يحمل أي ملامح حلّ للمأزق البنيوي والمهني الذي سقط فيه هذا الجيش (معطوفاً طبعاً على مأزق الجيش السوري). ومن الواضح أن الخطط الدولية الراهنة تتعلق بالعراق وتستخدم «شرعية» حكومته، لكنها لا تتوقع نتائج حاسمة قبل مرور سنة على الأقل، مع افتراض أن الظروف السياسية في بغداد ستتحسّن من خلال حكومة جديدة تعطي دفعاً معنوياً و «وطنياً» للحملة على الارهاب. في هذه الحال، يتوقّع انكفاء «داعشي» باتجاه سورية، فكيف يمكن تصوّر حرب على الارهاب في هذا البلد من دون أفق سياسي؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
كيف سيحارب العالم «داعش»؟/ طارق الحميد
اهتز المجتمع الدولي بعد بث «داعش» شريط فيديو يظهر عملية نحر الصحافي الأميركي جيمس فولي، وذلك انتقاما من الضربات الأميركية على التنظيم الإرهابي في العراق، وهو ما دفع إلى صدور مواقف دولية متعددة تطالب بضرورة التصدي لـ«داعش» الإرهابي الهمجي.
أبرز الدعوات الدولية كانت من فرنسا، حيث طالب وزير خارجيتها دول المنطقة، بما فيها إيران، بضرورة التعاون لمحاربة «داعش». والسؤال هو: كيف؟ وعلى أي مستوى؟ فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أن المجتمع الدولي تأخر، وتلكأ، كثيرا في مواجهة هذا التنظيم، وأسباب ظهوره، حيث تجاهل المجتمع الدولي مطولا كل الدعوات التي كانت تصدر من عقلاء المنطقة بضرورة التحرك، ونزع فتيل الأزمة السورية التي من شأنها إحراق المنطقة، وأنه ستكون لذلك تبعات على المجتمع الدولي، إلا أن تلك الدعوات لم تكن تجد آذانا صاغية من الرئيس الأميركي تحديدا، وهو ما أثر كثيرا على العواصم الغربية المتحمسة للتحرك! وكلنا يذكر جيدا كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، للأمتين العربية والإسلامية في عيد الفطر الماضي، والتي أدان فيها الجرائم الحاصلة في المنطقة، وعمليات الذبح، وطالب الجميع بتحمل مسؤولياته، وها هو العالم يرى بأم عينه الآن خطر ما يدور في المنطقة، خصوصا بعد جريمة نحر الصحافي الأميركي الإرهابية!
اليوم، وبعد جريمة نحر الصحافي الأميركي الإرهابية، هب المجتمع الدولي لمواجهة «داعش»، علما بأن دماء أكثر من مائة وسبعين ألف سوري قتلوا على يد قوات الأسد لم تهز المجتمع الدولي، ولم يتحرك المجتمع الدولي جديا بعد استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد السوريين، إلا أن المجتمع الدولي قرر التحرك الآن، وهذا أمر ممتاز، لكن الأسئلة كثيرة، فكيف سيكون التعاون لمحاربة «داعش»؟ فإذا كان الجميع تحرك في العراق بعد رحيل المالكي، والشروع في تشكيل حكومة وحدة وطنية، فكيف سيكون الوضع مع بشار الأسد أحد أبرز أسباب انتشار «داعش» مثله مثل المالكي؟
وهل سيسعى المجتمع الدولي للتعامل مع إيران الآن بجدية من أجل ضرورة وقف دعمها للأسد، وضرورة سحب الميليشيات الشيعية المتطرفة من سوريا؟ وهل سيتخذ الغرب الآن مواقف جدية وصارمة تجاه من يمولون التنظيمات الإسلامية بالمنطقة فقط للمناكفة، والأهداف الضيقة، خصوصا أن في مصر الآن حزنا عميقا أيضا بعد ظهور شريط فيديو على «اليوتيوب» يظهر نحر جنود مصريين من قبل إرهابيين؟ وهذا يدعو لسؤال آخر وهو: هل سيعمل المجتمع الدولي الآن بجدية لإعادة النظر في قواعد النشر على الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لمنع نشر صور وأفلام حز الرؤوس، ويحرم الإرهابيين من فرصة الدعاية والترويج؟
هي أسئلة كثيرة من شأن الإجابة عنها أن تظهر لنا مدى جدية المجتمع الدولي، وتحديدا الرئيس أوباما الذي حاول مطولا الهروب من استحقاقات ما يجري في منطقتنا، لكنها لاحقته إلى عقر داره!
الشرق الأوسط
اوباما يُستدعى الى المعركة بقرار من “داعش”/ راغدة درغام
أوضح تنظيم «داعش» هذا الأسبوع عزمه على استدراج الرئيس باراك أوباما الى التورط بصورة أكثر مباشرة في المعركة معه وذلك عبر تحديه الى إيقاف الغارات الجوية ضد مواقع «داعش» في العراق، وإلاّ، فالمزيد من الإعدامات المروّعة لأميركيين على نسق إعدام الصحافي الأميركي المخطوف سابقاً جيمس فولي. وراء هذه الاستراتيجية الكثير من الأسباب، منها ما يدخل في خانة التباهي بالانخراط في حرب مع الولايات المتحدة تساهم في حشد المزيد من المتطوعين الغربيين في صفوف «داعش» والذين تزداد أعدادهم بصورة ملحوظة. وهناك أسباب تنطلق من الرهان على ضعف الرئيس أوباما وعدم امتلاكه القدرة الشخصية ولا الولاية الشعبية للحسم وللحزم ضد «داعش» في العراق أو في سورية – أقلّه وفق ما استنتج تنظيم «داعش» ورسم استراتيجيته بناء عليه. واضح أن القيادة الأميركية والبريطانية المتمثلة بباراك أوباما وديفيد كامرون واقعة في أكثر من مأزق. فالثنائي الأميركي – البريطاني له سمعة وتركة في غاية السوء في العراق، إذ ان التدخل الأميركي – البريطاني في عهد إدارات وحكومات سابقة، أسفر عن موت ما يقارب المليون عراقي منذ بدأ في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وهذا الثنائي متهم بأنه صاحب استراتيجية وخطط استدراج الإرهابيين الأميركيين والبريطانيين الى العراق وسورية لإبعادهم من المدن الأميركية ولتطويقهم في ساحة المعركة بكلفة للسوريين والعراقيين بدل أن يدفع الأميركيون والبريطانيون الثمن في الساحة الأميركية أو البريطانية. في الوقت ذاته، تتوافق القيادة الروسية مع هذه الرغبة، فالرئيس فلاديمير بوتين ايضاً يريد إبعاد الإرهابيين الروس والشيشانيين والمجاورين له عن منطقته الجغرافية وهو حازم في إبقائهم منشغلين في المعارك في سورية. وهذا ما ساهم في إنماء «داعش» وتقويته بمساهمة الأجهزة الاستخباراتية في هذه الدول ودول أخرى في الشرق الأوسط. اليوم، يندم باراك أوباما على الأخطاء التي ارتكبها مع حلفائه الأوروبيين في ليبيا، فيما يقف حائراً أمام خياراته في العراق وشعوره بالذنب نحو سورية. اليوم، يتظاهر ديفيد كامرون بأن سياساته واضحة فيتحدث عن استراتيجية العمل مع الحكومة العراقية سياسياً وتقوية كردستان عسكرياً كوسيلة لإلحاق الهزيمة بـ «داعش». اليوم، يستنفر رؤساء الدول لعقد المؤتمرات وإصدار القرارات وترؤس الجلسات للبحث التقليدي في «التدخل أو عدم التدخل»، وبعضهم، مثل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، يتحدث عن اعتزامه تقديم اقتراح «لمحاربة» تنظيم «داعش» لأنه لم يعد حركة إرهابية مثل «القاعدة» وإنما «شبه دولة إرهابية».
الرئيس أوباما لا يعترف ولا يقر بذنبٍ أو سوء سياسة تبناها نحو سورية قامت على التنصل والنأي بالنفس رافضاً التحرك لدعم المعارضة المعتدلة قبل سنتين أو ثلاث مما أدى فعلاً وساهم حقاً في إنماء قوى التطرف على نسق «داعش».
فرانسوا هولاند، في حديثٍ لصحيفة «لوموند» قال إن «الأسرة الدولية تتحمل مسؤولية خطيرة جداً في ما يحدث في سورية»، وأضاف: «لو تحركنا قبل سنتين من أجل عملية انتقالية لما واجهنا الدولة الإسلامية». ولكن، ماذا سيقدم هولاند من أفكار ومبادرة تتعدى «الاكتفاء بالنقاش التقليدي حول التدخل أو عدم التدخل؟»، وماذا ستنطوي عليه استراتيجية «محاربة» التنظيم؟
الركيزتان الرئيستان في هذه الاستراتيجية في العراق بالذات هما محاربة الإرهاب عبر الصحوات السنّية وعبر تسليح الأكراد. هناك عنصر الدفع بالعملية السياسية العراقية والعمل مع رئيس الحكومة الجديدة لتُقلِع الحكومة بعيداً من الأذى الذي ألحقه رئيس الحكومة السابق نوري المالكي بالعراق مدعوماً من ايران وخصوصاً جناح «الحرس الثوري» منها. فالطائفية وإقصاء السنّة ساهما في إنماء «داعش» الى ما نما إليه وتمكّنه من الانطلاق من بيئة حاضنة كانت نبذته سابقاً – وستنبذه مجدداً اذا توافرت الضمانات الضرورية وتوقفت أنماط الإقصاء.
اليوم، يريد ما يسمى بـ «الأسرة الدولية» شن حرب أخرى في العراق إنما ليس بجنوده بل بجنود محليين – كُرداً أكانوا أم سنّة الصحوات -، وكذلك بعلاقة تحالفية مع إيران و «الحرس الثوري» كما أوحت به تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس.
الرئيس اوباما، في حديث لافت مع الصحافي المخضرم توماس فريدمان، تحدث عن عدم استعداده ليكون «السلاح الجوي العراقي»، وفق تعبيره، لا نيابة عن الحكومة العراقية ولا نيابة عن الأكراد أو الشيعة أو السنّة في العراق. قال أيضاً إنه لم يبدأ القصف الجوي ضد «داعش» باكراً بوجود المالكي، لأنه لو فعل ذلك، لسحب الضغط عن المالكي وشجّعه على التعنت والتمسك بالسلطة ورفض الحلول الوسط ولشجّعه كذلك على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وراءه ولا حاجة به الى مراجعة النفس والأخطاء. وهذا صحيح.
اللافت في الركيزة الأساسية في فكر أوباما هذه الأيام هو ركيزة «لا منتصر ولا مهزوم». بل إن باراك أوباما يضيف بعداً فلسفياً على هذا المبدأ ويقول إن المجتمعات تتفكك عندما تتخذ الأطراف السياسية «مواقف تصعيدية maximalist، أي مواقف التشبث بالرأي وزعم صحة المواقف التي تتبناها هذه الأطراف مئة في المئة. باراك أوباما يريد، كما أراد دوماً، أن يقف بين بين. يريد الحلول الوسط. يريد دحض نظرية أن المنتصر له الحق بالفوز بكل ما كان قائماً قبل المعارك، إذ إن الانتصار يضمن الحق في الهيمنة والإملاء.
ما لا يعترف به الرئيس الأميركي هو أنه هو الذي هرول للانسحاب من العراق وخلق بذلك الفرصة لملء الفراغ على أيدي الشركاء الذين خلقتهم الحرب الأميركية في العراق، وأن هؤلاء الشركاء هم الذين ملأوا الفراغ سلباً وهيمنة وتوظيفاً للمبدأ القائل إن «للمنتصر حق الامتلاك القاطع» للقرار والموارد والسلطة والاستفراد والإقصاء. واليوم، إن الرئيس الأميركي واثق من أن القدرات العسكرية الأميركية متفوقة لدرجة التمكن من القضاء على «داعش» عبر عمليات جوية، لكنه ليس واثقاً من ديمومة إنهاء «الداعشية» طالما الشركاء على الأرض في معمعة الطائفية وسوء التحالفات.
لافت أيضاً أن باراك أوباما يتحدث اليوم بلغة التفهّم الأميركي لمطالب «الأقلية السنّية» في العراق و «الأكثرية السنّية في سورية». يقول: «للأسف، مرت فترة لم تفهم فيها الاكثرية الشيعية في العراق» أن عدم التنبه الى طموحات السنّة المشروعة سيخلق مشاكل كبرى، وأدى ذلك الى السماح لـ «داعش» بملء الفراغ. لافت لأن سلفه جورج دبليو بوش دخل حرب العراق دفاعاً عن الحقوق الشيعية وقدّم العراق الى إيران، وها هو باراك أوباما يتحدث عن حقوق السنّة كأقلية، متناسياً هضم حقوق الأكراد السُنّة كذلك.
باراك أوباما يدخل في خانة «النكران» عندما يتحدث عن سورية. يرفض اللوم ويعتبر نفسه محقاً في سياساته. يقول إن ما يقال عن أن تسليح الثوار مطلع الحرب السورية كان سيؤدي الى نتيجة غير ما نشهده اليوم هو «من صنع المخيلة». ويضيف أن المعارضة تشكلت من أطباء ومزارعين وعاديين آخرين لم يكن في وسعهم الصمود في معركة ضد «دولة مسلحة جيداً وإنما أيضاً مدعومة بدولة مسلحة جيداً هي سورية، مدعومة من إيران و «حزب الله» المدرب على المعارك». ولذلك، وفق قاموس أوباما «لم يكن وارداً أبداً» أن يؤدي تسليح تلك المعارضة السورية بالأسلحة الخفيفة الى الربح في المعركة مع النظام وشركائه. وهذا من وجهة نظره يبرر له رفضه تسليح تلك المعارضة وتركها هائمة عارية بلا سلاح في المعركة.
فالرئيس أوباما عنيد في رفضه الاعتراف بأن سياساته في سورية ساهمت في إنماء الإرهاب وفي صعود «داعش» الى مرتبة تحديه مباشرة الى المعركة. الرئيس الأميركي لن يقرّ بمثل هذا الخطأ الفادح ولن يعترف به، لا سيما أن «داعش» له، على ما يتردد، خلايا نائمة داخل الولايات المتحدة. فالكابوس الذي يطيّر النوم من عيني الرئيس الأميركي هو أن يعود الإرهاب الى الساحة الأميركية وأن يُلام هو بسبب قصر نظر سياساته في سورية والعراق. لذلك، لن يعترف باراك أوباما بما فعله في العراق ولا بما صنعه في سورية مساهماً في إنماء الإرهاب.
يعترف الرئيس الأميركي بالذنب والخطأ نحو ليبيا. لا يندم على خلع معمر القذافي، لكنه نادم على عدم تنبهه وشركاءه الأوروبيين الى حاجة كانت ساطعة كالشمس، وهي ضرورة الإسراع الى مساعدة ليبيا في بناء الدولة وأجهزتها. الكل هرول الى مغادرة ليبيا باستثناء شركات النفط. الكل احتفى بـ «إنجازاته» في ليبيا، لا سيما أولئك الذين رقصوا في قاعات الأمم المتحدة وعانقوا بعضهم بعضاً وبكوا فرحاً.
اليوم، يتحسر باراك أوباما على ما حل بليبيا التي أصبحت وكراً لاستقطاب الإرهاب ومشروعاً لـ «الداعشية» من نوع أو آخر. اليوم، يتحدث الرئيس الأميركي بلغة الدروس الصعبة. يتحدث بلغة «إعادة بناء المجتمعات» في أعقاب التدخل العسكري. يقول: «إن الدرس الذي أطبّقه على نفسي عند النظر في احتمالات التدخل هو بالسؤال الآتي: في حال تدخلنا العسكري، هل لدينا الأجوبة حول ما يأتي به اليوم التالي؟».
مشكلة الرئيس الأميركي لم تعد معالجتها بقرار منه بالنأي عن النفس أو التنصل من المسؤولية. مشكلة الرئيس الأميركي هي أنه يُستَدعى رغماً عنه الى المعركة مع «داعش»، بقرار من «داعش» وليس بقرار منه.
استراتيجية تصدير الإرهابيين الأميركيين والبريطانيين والروس وآخرين لجمعهم في البقعة السورية – بعدما جمعهم بوش في البقعة العراقية ونجح في إبعادهم عن الأراضي الأميركية – أثبتت عدم نجاحها الى جانب كونها استراتيجية مفلسة أخلاقياً تسترخص أرواح أطفال سورية والعراق وترتأي تدمير الدولتين وتمزيقهما كثمن مقبول به عملياً.
فإذا كان القادة الدوليون عازمين على نقلة نوعية في مواجهة «الداعشية»، عليهم أولاً امتلاك الجرأة على نقلة نوعية في فكرهم وسياساتهم الضالة.
الحياة
“قطع رأس”/ حسام عيتاني
اشترطت سالومي قطع رأس يوحنا المعمدان لتعطي الملك هيرودس ما يريد. كان في وسعها قبول نصف مملكته الذي عرضه مقابل رقصها أمامه، لكنها قررت مع أمها أن درء خطر المعمدان سيجعلهما تكسبان المملكة كلها فيما وجوده سيظل يهددهما.
وفي ماض قريب، طلب العرب بدء عملية سلام جدية وشاملة مع إسرائيل مقابل مشاركتهم في الحرب على صدام حسين الذي احتل الكويت. كان صدام قد حدد ثمن انسحابه من الكويت بإنهاء إسرائيل احتلالها للضفة الغربية وغزة. شرط صدام حسين كان دعائياً لكن لم يكن من المتاح سحب هذه الورقة من يده من دون خطوة حقيقية مقابلة. فكانت العملية التي بدأت بمؤتمر مدريد.
اليوم، تظهر دعوات الى «قطع رأس داعش». لا جدال في أن القضاء على هذا الوباء الأسود ضرورة للدول والمجتمعات العربية بسبب الكلفة المادية والسياسية الضخمة التي يلقيها على عاتق المنطقة، وبسبب تشويهه تشويهاً عميقاً لصورة الإسلام والمسلمين والعرب، على نطاق غير مسبوق في العصر الحديث.
بيد أن كل هذا يفترض أن يقترن بثمن للمشاركة العربية. فليس سراً أن عدداً لا يستهان به من الأطراف ومن المواطنين العرب ينظر إلى «داعش» باعتباره ورقة أفلحت في لجم التقدم الإيراني في العراق، وأن «الإنجاز» هذا أفضى إلى إرباك القيادة الإيرانية وحملها على تغيير تكتيكاتها وتغيير «مبعوثها» الى العراق وسورية اللواء قاسم سليماني، الذي بات يلام على إفراطه في دعم نوري المالكي رمز الطائفية وسياسات الإقصاء في بغداد.
القضاء على «داعش» بواسطة تحالف دولي تقوده واشنطن ويضم إيران والعراق والنظام السوري ودول الخليج، يفترض أولاً التوصل الى تسويات كبرى بين اطراف التحالف وإجابات على أسئلة صعبة، من نوع مستقبل المناطق التي سيرغم «داعش» على الخروج منها. هل ستعود في سورية إلى حكم بشار الأسد؟ وهل سيُسلم العراق مجدداً الى النفوذ الإيراني المطلق؟
بكلمات ثانية، هل سيجري القضاء على التنظيم الإرهابي من دون علاج الأسباب التي أدت الى ظهوره وتمتعه بقاعدة شعبية (وليس مجرد «بيئة حاضنة» على ما يصر أصحاب التفسير الأمني– التآمري) على هذا القدر أو ذاك من الاتساع؟
ويخطئ من يعتقد أن في الوسع ممارسة التذاكي والخداع هنا أيضاً. ورغم أن خطر «داعش» وإجرامه لا يمكن إنكارهما، إلا أن من الملح التأكيد أن هناك من يقلل من حجم الخطر الداعشي الواضح مقارنة بأخطار كانت بدأت تتكشف مع الفراغ السياسي والأمني والعربي وما يتركه ذلك من أثر على المجتمعات والدول والشعوب في مناطق آخذة في الاتساع. ومن يراقب وسائل الإعلام المصرية يلاحظ بسهولة أن التنبيه من اقتراب «داعش» (رغم التوظيف الداخلي له) بات واضحاً وخرج من منطقة الهلال الخصيب.
تفكك الدول والتمدد الإيراني وترك الساحة الفلسطينية ملتهبة تحت رحمة آلة القتل الإسرائيلية، مسائل لا يمكن تجاهلها عند بحث تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب الداعشي.
المشكلة في رأس التحالف. هل سيقتنع باراك أوباما أن سياسة «دعهم ينزفون دعهم يقتل بعضهم بعضاً» قد وصلت الى نهايتها، وأن الصحافي القتيل جيمس فولي قد يكون طليعة لسلسلة من الضحايا الأميركيين ما دام نهجه الذي قام على أنقاض فشل سلفه جورج دبليو بوش قد فشل، فتراكمت أنقاض فشلَي بوش وأوباما لتنتج ظاهرة «داعش». ربما كان على أوباما أن يفكر في هذه الأسئلة عندما قرر تجاهل جريمة قصف غوطة دمشق بسلاح بشار الأسد الكيماوي قبل عام.
الحياة
البيع والشراء في الحرب على “داعش”/ وليد شقير
أخذت مواجهة تمدد تنظيم «داعش» (ومعه سائر التنظيمات التكفيرية والإرهابية) وارتكابه الفظائع التي تعود الى عصر آخر، طريق المقايضات والبيع والشراء بين الدول والفرقاء المعنيين بوضع حد لهذه الآفة.
فيما يدّعي الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه يجب تجنب انتشار هذا السرطان، معتبراً أن لا مكان لـ «داعش» في القرن الحادي والعشرين، فإنه يقفز فوق غض النظر من إدارته عن اتساع رقعة نشاط هذه المجموعة في سورية خلال عامي 2013 و2014.
سبق لهذه الإدارة ومعها دول غربية أخرى، أن عبّرت عن سرورها الضمني لتجمّع متطرفي التنظيمات الإسلامية التابعين لـ «القاعدة» أو المتفرعين منها في سورية، آتين من كل حدب وصوب ليتقاتلوا فيها إما مع قوات النظام أو مع تشكيلات المعارضة السورية الأخرى، وليجذبوا أكثر فأكثر الى ميدان المحرقة السورية مقاتلي «حزب الله» والميليشات العراقية الشيعية، حتى يتحول ميدانَ استنزاف لجميع هؤلاء، وللدول التي تقف وراءهم، ومنها إيران.
علمت إدارة أوباما بتفاصيل تسهيل النظام السوري ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي خروج بعض قادة هؤلاء من السجون السورية والعراقية لتجميع صفوفهم بدءاً من محافظة الرقة وامتدادهم لاحقاً نحو المحافظات الأخرى، لا سيما في الشمال والشمال الشرقي لبلاد الشام.
دخل الجميع لعبة طهران ودمشق الهادفة الى جعل هذه المجموعات تتصدر المشهد السوري لوصم الثورة في سورية بالإرهاب. دول في الإقليم ساهمت في اللعبة لأهداف مغايرة لأهداف نظام دمشق وطهران، واشتركت في تضخيم فزاعة «داعش»، متوهمة القدرة على استثمارها مثلما توهمت واشنطن القدرة على الإفادة من تجمع المتطرفين السنّة وخصومهم في مواقع معروفة. ومثلما أخفقت الدولة العظمى في إدراك مخاطر تركها المتطرفين يتقاطرون الى سورية، أفلت الوحش من عقال الخيوط التي أمسكت بها دول الإقليم بحصصها في «داعش» وغيره، ومنها إيران وتركيا، وبات مستثمرو «داعش» مسؤولين عن النتائج المأسوية في حق الأقليات وعن إلحاح الحاجة الأخلاقية الى وقف ارتكاباته المقززة.
ولأن القرار الدولي 2170 بمحاصرة قيادات في «داعش» و «النصرة» مالياً وأمنياً وإجبار دول على وقف تدفق مسلحيهما، ومعاقبة الجهات التي تتاجر معهما تحت الفصل السابع، غير كافٍ، فإن واشنطن باتت تحتاج الى قرار دولي جديد لتشريع الضربات العسكرية لمواقع «داعش» في العراق والذي تقوم به منذ أسبوعين بصورة منفردة.
وما كان ممكناً القيام به خلال بضعة أسابيع أو أشهر في سورية لقطع دابر «داعش» والحؤول دون توسعه، بات يتطلب «استراتيجية طويلة الأمد» كما قال أوباما، وما كان ممكناً تفاديه بتسليح المعارضة السورية المعتدلة منذ البداية، لوضع حد لفظاعات نظام بشار الأسد، ومنها إفلاته المجموعات الإرهابية من عقالها، تحوّل الى حرب تتطلب اشتراك من رعى «داعش» بطريقة مباشرة وغير مباشرة وسمح بحؤوله دون الحل السياسي للأزمة السورية، فيها لتنجح.
سيلزم صدور قرار جديد عن مجلس الأمن يعطي للقرار الأول أنياباً قادرة على استئصال السرطان، بمساومات ومقايضات مع روسيا قد تتناول الأزمة الأوكرانية. وسيوجب الانتقال الى تحالف دولي يخوض هذه الحرب الى جانب أوباما (الذي يلح على وجود شركاء له فيها)، بمساومات وبيع وشراء مع إيران، سواء في التفاوض حول ملفها النووي أو في شأن نفوذها الإقليمي في العراق وفي سورية، وربما في لبنان.
سيسعى كل فريق استثمر في «داعش» لأسباب سورية أو عراقية أو إيرانية أو خليجية، الى أن يقطف ثمار اشتراكه في الحرب عليه، حتى تشكيل الحكومة العراقية سيكون واحداً من خلفيات المقايضات. ومثلما سعى النظام السوري الى الحؤول دون امتداد الغارات الأميركية الى أراضيه لضرب مواقع التنظيم، حتى لا يشكل هذا الامتداد مبرراً لضرب مواقعه لاحقاً، استبق الأمر بتكثيف غاراته على «داعش» للمرة الأولى منذ بدء الأزمة السورية، وهو يأمل بانتزاع اعتراف بشرعيته، عبر إدخاله هذا التحالف. وهذا ما تريده طهران.
في البازار الذي سيُفتح على الشراكة في خوض هذه الحرب، سيظهر بوضوح من هي الدول والجهات التي تريد الخلاص من «داعش» والتي تريد الإفادة منه. ولعبة البيع والشراء وتبادل المصالح في هذه الحرب ستبقي الأبرياء تحت المقصلة، حتى لو كانوا من الأميركيين.
الحياة
أوباما يتّكِل على إله عادل!/ راجح الخوري
إذاً كان باراك اوباما يعرف ان الصحافي الأميركي جيمس رايت فولي الذي ذبحته “داعش” في عرض دموي متوحش كان محتجزاً لديها بعدما خُطف في إدلب يوم ٢٢ تشرين الثاني ٢٠١٢ أي قبل سنتين تقريباً، ويعرف ان ستيفن جويل سوتلوف الذي تهدّد “داعش” بذبحه قد يكون لديها فعلاً، فماذا فعل حتى الآن؟
ليزا موناكو مستشارته لمكافحة الارهاب أعلنت عن عملية فاشلة نفّذتها القوات الاميركية في بداية الصيف “لإنقاذ رهائن أميركية يحتجزها تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا”، بما يوحي ان هناك أكثر من رهينة، وهذا يعني ان البيت الأبيض الذي يراقب عملية اختطاف سوريا ثم العراق، على أيدي الإرهابيين الذين استقطبتهم المذابح وأنهر الدماء من كل أصقاع الأرض، يواصل التعامي والصمت منذ أكثر من ثلاثة اعوام!
عملية إنقاذ سرّية فاشلة وصمت مريب، وفجأة تتحرك إدارة أوباما بعدما وصلت “داعش” الى تخوم إربيل وباتت المصالح والاستثمارات الأميركية هناك مهدّدة، وبرز الخوف من تفجير “داعش” سد الموصل لتُغرق السيول مدناً عراقية برمتها بما فيها بغداد (ولا ننسى السفارة الأميركية فيها). ولكن أوَلم تكن سيول الدماء قد أغرقت سوريا حيث سقط ما يقرب من مئتي ألف قتيل؟ أوَلم تصبح سوريا ساحة دولية للجهاديين والتكفيريين والإرهابيين وأوباما يراقب في صمت فاضح؟
ليسأل الرئيس الأميركي وزيرة خارجيته السابقة: من المسؤول معنوياً وسياسياً وأخلاقياً عن ذبح فولي وغيره من الذين تُحزّ رقابهم كالنعاج على أيدي “داعش”؟ ليسأل جون ماكين وغيره من رجال الكونغرس الذين يشاطرون هيلاري كلينتون إعلانها ان الفراغ الذي تركته سياسة أوباما في سوريا ملأه الجهاديون، وأن عدم دعم المعارضة السورية أسّس لكل هذه الفظائع، وأن الأمم الكبرى في حاجة الى مبادئ قيادية، وأن عدم القيام بتصرفات غبيّة ليس مبدأً قيادياً على ما أعلن أوباما نفسه سابقاً!
يقول أوباما تعليقاً على المأساة المروّعة لذبح فولي “إن أميركا ستواصل ما عليها فعله لحماية شعبها”، ولست أدري ما معنى كلمة “تواصل” باعتبار أن ما فعلَته سابقاً لم يحمِ فولي ولا غيره من الضحايا المذبوحة، ويقول إن “داعش” لا مكان لها في القرن الحادي والعشرين، ولكنها نتيجة سياسة الصمت باتت تسيطر على مئة ألف كيلومتر مربع بين العراق وسوريا.
وعندما يقول إن “لا إله عادلاً يرضى بما فعلته الدولة الإسلامية”، فهل يعني أنه يتّكل على إله عادل من السماء ليقتصّ من “داعش”؟
لعل اوباما لم يقرأ كلام المندوب الكردي الى المؤتمر الأوروبي: “لو ان الأمر انتهى في سوريا لما كنا رأينا أبداً ما يحصل لنا في العراق”… هذه شهادة تدعم إدانة كلينتون لسياسة أوباما المدمرة.
النهار
من يموّل.. من يدعم.. من يصمت؟…تساؤلات في «داعش» تجيب عن جوهرها/ محمد زيدان
يكاد الحديث عن «داعش» بعد اتضاح جرائمها في العراق بعد سوريا، وتناوله من قبل الساسة والنخبة العربية، كظاهرة دخيلة فرضت ذاتها في الواقع العربي، كالولوج في عالم الغيبيات الذي تحمله «داعش» ذاتها، و«تبشر» به، كل من يبقى في المناطق الخاضعة لسلطتها والآخذة بالتوسع.
وأكثر التفسيرات بروزاً، تلك التي تحاول تفسير نمو «الظاهرة الداعشية» وممارساتها باعتبارها نتاجاً لأنظمة الحكم وأنماط السلوك السياسي في الدول التي ظهرت فيها. أو بكلمات أبسط القول إنها تأتي على خلفية «أنظمة الاستبداد والظلم في العراق وسوريّة» وبسبب «فشل الدّولة الوطنيّة في القضايا الرئيسيّة المتعلقة بالفقر والتنمية والمواطنة وحقوق المواطن، وعجزها عن إدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، الوطنيّة والقوميّة والدينيّة والإثنيّة، وفشلها في عملية بناء الأمة».
والوصول الى خلاصة تشابه «الحقائق العلمية»، في استنتاجها «أن داعش تعيش في الفراغ الذي خلفه فشل الدولة»، وان هذه الظاهرة «لم تنشأ في ظل نظام ديموقراطي وفي ظل ثورة ديموقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال وعنف النظام ضد الثورات». وكثيراً ما يأتي هذا التحليل في سياق الموقف المقر سلفاً لنقد تلك الأنظمة، أو الدفاع عن «ربيع» تلك الدول، خاصة بما يتعلق بسوريا والعراق. فيكون التحليل «العلمي» والاستنتاج الصادر عنه معداً سلفا حتى قبل الولوج بتفاصيل مركباته.
الخطر الحقيقي والتحدي الأخلاقي القومي وحتى الديني، الذي تشكله ممارسات «داعش»، يجعلنا نأمل أن يترفع النقاش عن تلك المماحكة، ويرتقي لطرح التساؤلات التي قد تؤدي لنتائج تساهم ولو بالنزر القليل بالكشف عن هذه المنظمة التي صارت ظاهرة بكل المقاييس، بعدما فرضت «أجندتها» على جزء من منطقتنا، ورسخت عن شرقنا صورة نمطية تتسم بالهمجية والعنف والتطرف من خلال صور القتل وقطع الرؤوس، تهجير المسيحيين والايزيديين وغيرهم، وفرض الإسلام بالقوة، قوة السيف، بصورة لها اعتبارها (لماذا يذبح الناس أمام الكاميرات، وبالسيف! وداعش تملك أسلحة وذخائر متطورة تفوق ما تملكه بعض الجيوش النظامية في المنطقة)… وكيف ومتى يعلو «نجم» هذا التنظيم صاحب الفكر الإقصائي الذي يحتكر الحقيقة المطلقة، ويبرر أفعاله الوحشية بوصايا الرب، ويعتبر دربه الطريق الوحيدة للتواصل مع السماء ورب السماء؟
أول هذه الأسئلة: إذا كانت «داعش» قد ظهرت على خلفية «فشل الدولة» أو بما «يشبه الرد على هذا الفشل من قبل مجموعات مهمشة سياسيا واقتصاديا»، فالسؤال الذي يتبادر للذهن: لماذا في العراق وسوريا بالذات؟.. لماذا لم تظهر هذه المجموعات في الدول الأكثر فشلاً وفساداً وقمعاً كدول الخليج العربي مثلاً، أو في المملكات والإمارات التي تبني حكمها الاستبدادي على أنماط متخلفة من التوريث والحكم الملكي بعيداً عن مفهوم المواطنة وقيم المساواة والعدالة؟
ثانياً: وبالارتباط بالأفق ذاته، إذا كان الفكر السلفي الجهادي قد نما ونشأ في الجزيرة العربية، بدعم من الدولة الرسمية أحيانا، وبمحاربتها أحيانا أخرى (وفق المصلحة الآنية) فلماذا لا تعمل في بلدانها وأوطانها الأصلية، وتُرحّلُ بقدرة قادر إلى سوريا والعراق؟ ولماذا ظهرت قبل ذلك في أفغانستان والصومال؟ أليس من الأولى لها والأكثر سهولة أن تقيم بين أهلها وحاضنتها الطبيعية (الفكرية، الاجتماعية، الطائفية واللوجستية). ألا يحق لنا أن نسأل كيف يُتخذ القرار، ومن يقرر مكان ظهورها وتوقيته؟ أو كيف تتنقل هذه الجيوش البشرية ومئات الألوف من «المقاتلين» عبر مطارات العالم وحدود الدول من دون أن تكشفها أجهزة المخابرات الغربية والعربية، ومن دون أن يعيق تحركها أحد؟ وهل من المعقول أنها تتنقل على الجمال والخيول؟ أم أن هناك طائرات تنقلها عبر المسافة الواقعة بين كابول والموصل وحلب، ودول توفر لها العتاد العسكري والسيارات والأسلحة الضامنة لحكمها؟
وهل من غير المنطق أن نتساءل عن الدوافع التي تحمل الشيشاني والأفغاني ليموت في جبال كردستان العراق وهو يلاحق الأطفال والشيوخ والنساء الفارين من قرى الايزيدية والتركمان والمسيحيين وغيرها من القوميات والأقليات الدينية المسالمة، تلك الأقليات التي لم نسمع عنها (تقريباً) في ظل «أنظمة القمع والتهميش»؟
أليس من المجدي أن نتفكر بقضية التمويل، أموال الإفساد السياسي (الخليجية الأصل غالباً)، وفي من يقرر استعمالها وتوجهها لذبح الناس الآمنة وتهجير القرى؟ أليس هناك من يسأل عن صمت «أهل السنة» عن المجازر المرتكبة من قبل هذه العصابات المتوحشة تحت «راية لا اله إلا الله»، كما قالت النائبة الايزيدية في البرلمان العراقي، حيث يذبح الأبرياء باسم الإسلام والمسلمين؟ أليس هناك من يظن بأنه قد آن الأوان لنسأل عن المغزى الحقيقي لتهجير المسيحيين وتدمير كنائسهم في الموصل، في الأسبوع ذاته الذي فتحت الكنائس أبوابها في غزة أمام المسلمين، لا لإيوائهم وعائلاتهم المشردة فحسب، بل لرفع الأذان والصلاة فيها؟
وهل هناك من لا يرى كيف يتم دعم هذه العصابات ذاتها بالسلاح ومدّها بالمال والغطاء السياسي لتمارس أعمالها الوحشية في سوريا، من قبل أميركا وحلفائها في الخليج وتركيا وأوروبا، فيما لا نسمع سوى بعض التصريحات الخجولة المنددة بعدوانها على المسيحيين والأقليات في العراق؟
مَن مِن المتابعين لا يلاحظ تغييب الموضوع الفلسطيني عن أجندة «داعش» وخطابها، أليست القدس والأقصى (أولى القبلتين) إسلاميةً وفق شريعتهم «الجهادية»؟ وهل فعلا هي مصادفة أم خلل في أن تغيب عن أولوياتهم وبرامجهم وممارساتهم الجهادية المتوحشة، التي وصلت حد التمثيل بالجثث، وتعليق الرؤوس على الأعمدة في الشوارع، ذبح الأطفال وخطف النساء وبيعهنّ «سبايا» محللة للمجاهدين القادمين من خلف التاريخ والحضارة، وما هو «البرنامج» أو «المشروع» الذي تحمله أعمالهم الوحشية التي عجزت عنها كل «الأنظمة الاستبدادية والحقبات المظلمة في الحاضر والواقع الإنساني»؟
هناك العشرات من الأسئلة التي من الممكن طرحها لنتوصل من خلالها الى نتيجة واضحة المعالم في تصرفات «داعش» الناتجة من أصولها الفكرية، وجذور نشأتها التي لم تبدأ في الموصل ولن تنتهي بها. «داعش» هي جيش لا دولة ولا حدود له… جيش قام على الفكر الوهابي الجهادي التكفيري، الذي نشأ وترعرع في الخليج العربي – السعودية ومحيطها. والسعودية خلقت هذا الوحش خدمة لبرامجها السياسية، لا الدينية، حيث يشكل النظام السعودي سند هذا التنظيم الأساسي في التمويل والتسليح، وقد صار واضحاً للجميع أن هذا الجيش يُنقل بطائرات مدنية وعسكرية إلى مناطق عدة في العالم، بما يتلاءم ويتطابق كلياً مع «خريطة الصراعات» التي تخدم مصالح أميركا وحلفائها. ويساهم في تأجيج الصراعات العرقية والدينية في العالم، والعالم العربي خصوصاً، وذلك لخلق القلاقل وتغييب الأمن القومي والفردي بصورة تضمن تدمير وحدة الدولة العربية الواحدة تلو الأخرى، بعد أن تم تمزيق فكرة الوحدة الإقليمية العربية كفكرة، وتشويه الخطاب العربي القومي، إضافة للإسلامي المعتدل، وتدمير آثار الحضارة الإنسانية التي نمت في هذا العالم العربي (من خلال التدمير الفعلي للآثار وأماكن العبادة ونبش القبور.. علاوة على التدمير الحاصل لصورة العربي والمسلم في الإعلام العالمي).
ومن المؤكد أن «داعش» لا تمثل حركة سياسية «إصلاحية أو تنويرية» أو «ثورة على الاستبداد والتهميش»، لأنها بجوهرها تخالف هذه القواعد، في شرعها وحكمها، فهي هدّامة بطبعها لأي عقد اجتماعي أو نظام سياسي، إلا ما يخضع لجبروتها وظلمها، تماماً كما هي هدامة بفعلها وممارساتها لقيم الحضارة والتسامح والإنسانية، تماماً كما تقوم بهدم المساجد والكنائس وأماكن العبادة (سنيةَ كانت أو شيعية، مسيحية أو غيرها!!)، وهي لا تمثل الإسلام ولا المسلمين في شيء رغم شعاراتها ورموزها وأعلامها التي تلطخت بدم الأبرياء من المسلمين والمسيحيين والإيزيديين والشيعة وغيرهم، من جبال أفغانستان حتى جبل سنجار في شمال العراق مروراً بمحافظات الرقة وحلب في سوريا.
إن الصمت العالمي أمام هول المجازر المرتكبة من قبل «داعش» ضد الأقليات المسالمة في سوريا والعراق، لا يساويه إلا الصمت المثيل له، على مجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين، ولا يؤكد إلا على التماثل في مُخرجات هذا الأفق المظلم الذي تدخله المنطقة العربية بين «داعش» والدول التي تضيف لتآمرها، المتمثل بإمداد الأسلحة والدعم اللوجستي، تآمراً آخرَ يتمثل بالسكوت والصمت وعدم التحرك لحماية الأبرياء، ويؤكد زيف الشعارات حول «عالمية الحقوق» و«القرية العالمية». وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التحرك المحدود الذي بدأنا نراه في الأسبوع الأخير، من الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، لم يأت لحماية المسيحيين أو منع تهجير غيرهم، بل جاء بعدما رسّخ هذا الوحش قواعده، وقام بما أوكل له على صعيد المنطقة بنجاح، حتى شعر بالثقة والقوة – المادية والعسكرية الكافية ليتجاوز حدود المساحة المرسومة له أصلاً، ويهدد المصالح الأميركية في شمال العراق: دولة الأكراد العتيدة (وفق المخطط الأميركي) وموارد الطاقة والنفط في المنطقة الكردية.
لقد أثبت هذا الفكر أنه لا يتوقف عند حدود جغرافية أو سياسية، ولا تحد من وحشيته قيم أخلاقية ولا ديانة أو إيمان (الحديث عن إعادة كتابة القرآن وإلغاء بعض آياته مثال لذلك). هذا الموقف الواضح والصوت الرافض لـ«داعش» وأشباهها يستند الى حضارة منطقتنا وتاريخها وأرضها، ثقافتها وناسها التي سمحت بالتعددية الفكرية والدينية طوال عصور طويلة، وأنتجت حضارة قامت على أسسها ومنتجاتها حضارات إنسانية عديدة.
التحدي المطروح كبير والثمن لتقاعسنا سيكون باهظاً، على فلسطين قبل العراق وسوريا، وعلى المجتمع الإنساني بمجمله مهما كانت مصالحه في المنطقة، فالخلافات المذهبية والمعارك الدينية لا تصب إلا في خدمة «أمن الدولة اليهودية».
المستقبل
“داعش” وما وراءه/ أسامة أبو ارشيد
كأنهم يجيئون على قدرٍ لإفساد ثورات الشعوب وإرهاقها، وحرفها عن مسارها وتشويه صورتها. هذا هو بالضبط ما تفعله تلك التنظيمات المتطرفة، والمنفلتة من عقال الأخلاق والمنطق، كما في نموذج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
القصة، قطعاً، لم تبدأ بـ”ذبح” الصحافي الأميركي، جيمس فولي، قبل أيام، والذي كان قد اختطف في سورية قبل عامين، بالطريقة الوحشية التي سجلتها كاميرات فيديو هذا التنظيم المتطرف، وهي، قطعا، لن تنتهي بذلك المشهد المقزز لعملية “النحر”.
“داعش”، شكل، وما زال، عامل إرهاق واستنزاف للثورة السورية، وهو قتل من الثوار، ربما، أكثر مما قتل من جنود النظام نفسه. وفي حين كان ثوار سورية يوجهون سلاحهم نحو نظام مجرم سحق شعبه، ودمر بلده، كان “داعش” القادم عبر حدود العراق عام 2013، يطعن الثورة السورية في الظهر. المثير، هنا، أن “داعش” لم يوجه سلاحه نحو التيارات غير الدينية في الثورة السورية، فحسب، بل استهدف الجميع، وعلى رأسهم الإسلاميون، حتى الذين يشتركون معه في أصل الفكر والتنظيم والانتماء إلى “القاعدة” سابقا، كتنظيم “جبهة النصرة”. ولعله من المهم، هنا، أن نذكر أن زعيم القاعدة نفسه، أيمن الظواهري، ومنظري السلفية الجهادية، أمثال الأردنيين، أبو محمد المقدسي وأبو قتادة، دانوا هذا التنظيم وتصرفاته الوحشية والضارة، ودعوه إلى حصر ساحة عمله في العراق، فما كان من التنظيم إلا أن أعلن انفكاكه عن “القاعدة” ونزع “بيعته” لها.
وعندما بلغ الحنق بين صفوف السنّة العرب في العراق مداه، جراء سياسات رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، الطائفية والإقصائية والقمعية، وجد “داعش” له بيئة حاضنة، وركب موجة الغضب التي عبرت عن نفسها، في يونيو/حزيران الماضي، بسيطرة مقاتليه، بالاشتراك مع مسلحي العشائر السنيّة العراقية، على مدينة الموصل، فضلاً عن مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه. صحيح أن مقاتلي “داعش” كانوا أعظم أثراً في العمليات العسكرية ضد قوات الجيش والأمن العراقيين، غير أن الصحيح، أيضاً، أنهم أقل عدداً، وبشكل كبير، مقارنة بمسلحي العشائر، وأنهم ما كان لهم أن يهزموا تلك القوات الرسمية، لولا ذلك التحالف مع مقاتلي العشائر، غير أن “داعش” لم يُلق بالاً لهذه الحقيقة، كما أنه اختار أن يُهمل، أيضا، حقيقة أن حاضنة “الثورة السنية” على ظلم سياسات المالكي الطائفية لم تكن بنيّة تقسيم العراق وإقامة “خلافة إسلامية” مزعومة، يحكمها مجهولو هويةٍ، يحملون أفكاراً متطرفة ومجنونة. ومع ذلك، مضى “داعش” بمنطقه الأعوج، معلناً “خلافة إسلامية” على جانبي الحدود العراقية-السورية، لكنها ليست خلافة أمن وأمان وازدهار، بقدر ما هي “خلافة” سفك دماء وقمع وخوف وتخلف.
ولأن “داعش” يحب أن يبقى وفياً لمبدئه الأساس، المتمثل في استنزاف وإرهاق وتشويه وحرف بوصلة أي ثورة مشروعة ضد الظلم والطغيان، فإنه ما لبث أن وجّه سلاحه تجاه الأقليات الدينية في العراق، وتحديدا مسيحيي العراق والأيزيديين، على أساس أنهم “كفار”، وكأن تاريخ الإسلام الذي وسعهم قروناً، ومنذ عهد الصحابة الكرام، كان ينتظر “الخليفة” الفهلوي، أبو بكر البغدادي، ليصحح فيه مسار أصل الاعتقاد، وأسلوب التعامل مع الأقليات الدينية، في فضاء الإسلام الرحب!
وهكذا، توحد خطاب نظام بشار الأسد، وخطاب داعميه في قمع الشعب السوري، إيران وحزب الله، مع خطاب الغرب في التحذير من خطر “داعش” وتيارات “الإسلام السنّي المتطرفة”، وضرورة التوحد في التصدي لها ومجابهتها! وفي الاتجاه نفسه، تسير الأمور في العراق، وإن كان بشكل أسرع وأوضح. و”فجأة” أصبحت الثورة ضد الظلم والطغيان، حسب هؤلاء، بيئات حاضنة للتطرف والإرهاب، لابد من التصدي لها وتجفيف ينابيعها.
لا أريد، هنا، أن أتورط في تبني “نظريات المؤامرة” عن جذور “داعش”، ومن يقف وراءه، أو من يوجه سياساته وفعله على الأرض، ولخدمة أي مصالح، فمثل هذه المزاعم لا توجد أدلة قاطعة حاسمة حولها وفيها. غير أن ثمة أمراً واحداً واضحاً، وهو أن أفعاله ضارة مؤذية لأي ثورة حرية وكرامة عادلة. وسواء كان ذلك بتوجيه وتخطيط من طرف ثالث، أم نتيجة لحماقة “الداعشيين” ومن والاهم، فالنتيجة تبقى واحدة.
هنا، يمكن القول، وبكثير ثقة، إن التطرف والتشدد صنوان للضحالة والجهل، والضحالة والجهل يسهلان إمكانية الاختراق، أو التوظيف لأصحابهما. وبالتالي، لا يستبعد أبدا أن يكون ثمة طرف ثالث، أو أطراف أكثر، تتلاعب بـ”داعش” وتوجهها، من دون تواطؤ من الأخير، بالضرورة، بقدر ما أنه تعبير حقيقي عن مستوى ضحالة هؤلاء وجهلهم. وكم من حماقة وسفاهة قتلتا صاحبهما أولاً، وأتتا على مصالحه ومشروعه بشكل أعظم أثرا وأكثر فاعلية من قدرة الخصم أو العدو على إحداث العطب ذاته أو الضرر.
ومسألة أخرى، ما زال كثيرون، خصوصاً في صفوف بعض المتدينين، يرفضون الاعتراف بها، وهي أنه، نعم، ثمة تطرف بين بعض الشباب الإسلامي اليوم، سواء بسبب القمع والظلم، أو الجهل والضحالة، غير أن هذا التطرف موجود، وفي إنكاره وعدم التصدي له ضرر واستنزاف للحالة الإسلامية ذاتها قبل غيرها. وقد تعرض الإخوان المسلمون أنفسهم للاستنزاف من قبل بسبب هذه الظاهرة، وثمة نماذج كثيرة غير قابلة للحصر هنا، أين وظفت أفعال بعض الشباب الطائش ضد الحركة الإسلامية العاقلة عموماً. بل إن حماس نفسها، وهي حركة مقاومة، تسطر اليوم أروع صفحات المقاومة في تاريخ الأمة، وجدت نفسها يوماً موضوع مزاودة عليها وعلى مقاومتها، بل وعلى إسلامها، من حفنة من المتنطعين المتشددين، وربما المخترقين والموجهين، أيضا.
بكلمة، التطرف موجود في هذه الأمة منذ صدر الإسلام الأول، وكتب الحديث، كما في حديث صحيح مسلم، تخبرنا عن قصة ذلك الرجل “كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ”، الذي بلغت فيه الوقاحة أن يطالب الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، أن يتقي الله! فأجابه: “وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ”!؟ فنظر إليه عليه السلام وهو مُوَلٍ، فَقَالَ: “إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”. وقد كان ذلك حال الخوارج، الذين استحلوا دمَّ الخليفة الراشدي الرابع، وصحابي الرسول الأكرم، وابن عمه، علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه. وهم من ذلك الحين لا يفتأون يظهرون في كل مفصل تاريخي تجري فيه فتن في جسد هذه الأمة، وهاهو “داعش” اليوم يستحل دماء المسلمين، حتى من المتدينين (وليس من غير المسلمين فحسب)، كما في حال “فقهاء” أشقاء الأمس في “جبهة النصرة”، تعدمهم وتصلبهم، بذريعة “الردة”، وفوق هذا وذاك، تنقل، بحماقاتها أو بتخطيط مدروس، الاستنزاف من ساحة العدو إلى ساحات الثورات، وتوحد الفرقاء ضد تطلعات شعوبنا إلى الحرية والكرامة.
العربي الجديد
جبه «داعش» يتطلّب مشروعاً نهضوياً/ د. نقولا زيدان
عندما أدلى الرئيس ميشال سليمان لوكالات الأنباء والصحف في باريس قبيل عودته إلى لبنان بتصريحه أنّ الداعشية حالة سياسية ذهنية وعقلية، فقد أصاب يومها كبد الحقيقة، إلا ان التصريح لم يرافق بما يستحق من احاطة إعلامية نظراً لانشغال الاعلام الدولي بمنطقتين ملتهبتين تنذران بشر مستطير آنذاك: التراشق المدفعي والصاروخي في قطاع غزة الذي مهّد للمواجهة الشاملة، والتقدم المتواصل لقوات «داعش» باتجاه الشمال واقتراب قوات التنظيم من بغداد العاصمة.
تأسيساً على ما ورد على لسان الرئيس سليمان من أن «داعش» ليست حالة عسكرية قتالية معبأة بالطروحات الدينية السلفية الظلامية بل هي حالة مريعة من التعصب المذهبي المعادي راديكالياً لكل ما هو آخر ومغاير ومختلف، قادر وفي الحال على قتل الأبرياء العزل وقطع الرؤوس وطعن النساء الحبالى وتقطيع الأطفال، بل هو حالة ذهنية مريضة تلوث بأهدافها المنطقة العربية بأسرها. وكأنّ الرئيس سليمان ونحن نشاطره الرأي والموقف يقول: اننا ضمن هذا الفهم، وهذا السياق، جميعنا نحمل في ثنايا نفوسنا شيئاً من الداعشية!
ان مئات السنين من الغرق والتعفن حتى التأكّل والتهرؤ والتحلل بفعل التعصب والعصبية في منطقتنا العربية، والتي لم تستطع برأينا حركة النهضة العربية اجتثاثها من جذورها ما زالت كامنة في نفوسنا وطيات ذواتنا. فلم نتلقح كفاية ولم تغير كثيراً مما في نفوسنا مواقف مشرقة كتلك التي صاح بها الامام الاوزاعي عندما امعن الوالي الاموي صالح بن يحيى السيف في «ايوان كسرى» (كسروان) وسكانه الشيعة عندما ذكره بالآية الكريمة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وعندما ساءله: كيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة؟ ترانا نحصد نتائجها الآن.
نميل للاعتقاد ان القبول بالغير وبالرأي الآخر والمعتقد الآخر أي بعبارة أخرى التسامح la tolerence قد جاءنا من الغرب، هذا بصرف النظر عما نجده في الكتب الدينية من دعوات المسالمة والمغفرة والتسامح الديني. الا ان التسامح الفكري والثقافي والحضاري بل السياسي البحت قد جاءنا من تلك الأفكار التنويرية التي كان بطلها ونبراسها «فولتير» عندما قال «قد لا أوافقك في ما تقول، لكني على استعداد بالتضحية بروحي وبنفسي للدفاع عن حقك في قول ما تريد!». إذ لا معنى للحرية وحرية المعتقد والرأي الآخر، كان سياسياً أو فلسفياً أو دينياً أو تفسيراً للوجود، إن لم يحترم هذا المبدأ ويقدس هذا الناموس. وإن كانت اوروبا قد غرقت في بحور من الدماء بفعل الحروب الدينية ثم فيما بعد في محاكم التفتيش، فنحن في الشرق لم نتوقف قط عن التنابذ والتعادي والتكاره بفعل الخلافات الدينية والمذهبية. ولم تستطع حركة النهضة العربية التي لم تكن قادرة في حقيقتها على احداث التغيير والانقلاب الجذريين في وعينا لنصبح بحق نهضويين وتنويريين. فلقد ذهبت أفكار رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده في هذا المجال ادراج الرياح.
بل حتى حركة التحرر الوطني ونشوء الفكر القومي العربي ونهوضه ما سلمت قط من الأفكار الشوفينية والطروحات الفاشية المعادية للآخرين من منظور ديني معاد للأجنبي معمي البصر xenaphobie أهم عما هو متقدم ثوري واعد في ما حققه الغرب، تجدنا قادرين على ان نحذو حذوه ونستلهم ما هو إنساني فيه. وهل نجرؤ القول بل سنجرؤ حتماً بالجزم بأن زرع دولة اسرائيل في جسم المنطقة العربية وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه قد عزز الروح الداعشية والأفكار السلفية الظلامية التكفيرية السوداء. وقد تسنت الفرصة للعسكر اللاهث وراء السلطة امتطاء الحركة القومية مستفيداً من حروبنا المتواصلة مع الكيان الغاصب الجديد. فما الفارق والحالة هذه بين داعشية البعث ومعتقلاته وسجونه وأجهزته المتشعبة وممارساته الدموية وممارسات «داعش» هي نفسها. بل نذهب أبعد من ذلك عندما نجد في طروحات النظام الإيراني وادعاءاته الالهية وأفكاره السلفية الصنو الأكيد الذي لا ريب فيه للداعشية التي تثير فينا قشعريرة الخوف والهلع لحد النفير العام.
هل النظام الإيراني في إثارته معتمداً على طروحاته السماوية الفائقة القدرة، وفي سياسته التوسعية التي بلغ فيها كل مبلغ ابتداء من الخليج ومروراً بالعراق وسوريا ووصولاً إلى لبنان بل إلى اليمن والسودان، معتمداً على دعاته المسلحين المذهبيين كـ»حزب الله» والمجموعات الشيعية المسلحة الأخرى، بريء تماماً من الداعشية عقلاً وتفكيراً وأسلوباً وممارسات؟ بل تنضم إلينا إسرائيل وحركتها الصهيونية في تبني النهج ذاته وإياه للداعشية وقد أظهرت بصورة قاطعة الساحة الإسرائيلية بروز فصائل وتنظيمات داعشية ولكن بأهداف صهيونية معادية للعرب. إنهم الداعشيون الصهاينة الجدد بامتياز.
لقد أثارت بقعة الزيت الدموية التي انتشرت في العراق وسوريا وصولاً إلى حدود لبنان وتركيا ذعر الغرب وهلعه فأرسل قواته الجوية تجلي من تبقى من مسيحيين ويزيديين في شمالي الموصل. وبقدرة قادر سقط المالكي وبقي الأسد، بعد الاتفاق الأميركي الإيراني والقبول السعودي. حقاً إن مَن سمع بثينة شعبان وكأنها الأم تيريزا العربية المزعومة تتحدث عن الإرهاب في العراق وتسقط من ذاكرتها الفاشية خان العسل والغوطة الشرقية حيث استخدم النظام الاسدي 14 مرة السلاح الكيماوي لسحق المعارضة يكاد للوهلة الأولى يصدّق ان النظام الاسدي ليس داعشياً قط (راجع الـCNN ليل الاثنين الثلاثاء في 18-19 آب الجاري). بل مَن سمع السيد نصرالله في خطابه الأخير
يدعو الى تناسي الماضي القريب والى استنهاض الجميع للوقوف بوجه «داعش» ليدرك تماماً مذاق الثمار المرة التي زرعها «حزب الله» في تورطه في الحرب السورية وقوداً للدفاع عن أحد مهندسي «داعش» عندما أطلق ذلك الوحش الدموي تحقيقاً للوعد الأسدي بتحويل المنطقة العربية كتلة نارية من بحر قزوين إلى بحر العرب. فما عسانا فاعلون في لبنان الآن؟ بل ما عسى «حزب الله» ان يفعل وقد قطعت عليه «داعش» كل خطوطه اللوجستية مع سنده الايراني الرئيسي؟ وماذا عن البيت اللبناني والمؤسسات الدستورية المعطلة؟
ألم يدرك سماحة الأمين العام بعد، ان مرشحه الذي يعرف جميع اللبنانيين صورته واسمه وألقابه ومكان سكناه، انه ليس بمقدور قوة في الأرض أن تدخله قصر بعبدا من بابه الأمامي؟ انه يعلم ذلك علم اليقين، ذلك لأن مرشحه ليس توافقياً قط، حتى لو حاول تسويق نفسه بحلّة توافقية من باريس إلى جدة مروراً ببكركي وكل المرجعيات اللبنانية. إلا ان الاعتقاد السائد هو ان انتخاب رئيس جديد لهو مرتبط بالوضع الاقليمي برمته ويجب توقع الحل لمشكلاتنا الداخلية في اطار المفاوضات السعودية الايرانية المرجوة.
لو كان بوسع سلاح الجو الأميركي وبمساعدة الفرنسيين القضاء على الإرهاب الداعشي لكان بادر لفعل ذلك في باكستان (وزيرستان) حيث حتى اللحظة لم يحقق نجاحاً قط. فلتكف وسائل الدعاية الأميركية عن امطارنا يومياً بوابل لقطاتها المملة عن مئة من اليزيديين جرى التقاطهم من على جبل سنجار والتوقف عن عرض تصريحات الأساقفة العراقيين المسيحيين في وصفهم لبشاعات فظائع «داعش». فما «داعش» سوى الوليد الطبيعي لمنطقة تتخبط في التهرؤ والتفكك والانحلال.
لقد ذهبنا لقتال «داعش» ونحن جميعاً داعشيون، قسريون، املائيون، استبداديون، دمويون. فقد تساءل بالأمس «احمد الجربا» بوضوح لا لبس فيه: لماذا يتصدى الأميركيون والفرنسيون، بالتوافق مع طهران، وها قد سقط المالكي، لداعش في العراق ويتم السكوت عنها في سوريا؟
ان العودة الى الاعتدال الوطني المشبع بالروح القومية العربية الانسانية هي ما نحن بأمس الحاجة إليه، أي العودة إلى التسامح والاعتراف بالآخر وحق الاختلاف، والتمسك بالتداول الديموقراطي للسلطة، وحق الاقليات بأن تمارس معتقداتها وشعائرها بعيداً من أي عسف أو اضطهاد، هو السبيل الوحيد في مقارعة «داعش» وإلا سوف نبقى حتى تحقيق ذلك جميعاً نتخبط في ممارسات هي أقرب ما تكون للداعشية.
المستقبل
دمشق- واشنطن: حلف تاريخي/ ساطع نور الدين
الاحتفالات التي ينظمها النظام السوري وحلفاؤه، اللبنانيون خاصة، هذه الايام ، بالتواطوء او بالأحرى التفاهم مع الاميركيين على محاربة تنظيم داعش، تثير العجب. فهي تبنى على مفارقتين، الاولى ان اميركا اكتشفت متأخرة صدق مقولة النظام الثابتة عن ان الثورة السورية لم تكن منذ البداية سوى إرهاب اسلامي خالص، والثانية هي ان ذلك الارهاب الذي صنعته اميركا مع حلفائها انقلب عليها ما اضطرها اخيراً الى التدخل المباشر لمحاربته.
وعلى الرغم من ان دمشق ما زالت تتحفظ بعض الشيء عن المشاركة في الاحتفالات وفي الحديث عن ذلك التفاهم، الا ان بيروت افرطت كالعادة في حماستها وشرعت في تقديم البراهين على ان الجيشين الاميركي والسوري يقاتلان معاً في خندق واحد، ويتبادلان المعلومات والخبرات ويتناوبان على المهمات العسكرية ضد مواقع داعش.. الى ان وصل الامر ببعض اللبنانيين حد شرب الانخاب واطلاق التهاني ببقاء بشار الاسد في الرئاسة، بل وبعودة الجيش السوري الى لبنان.
الغريب في هذه الاحتفالات هو ان منظميها ينكرون بشدة الحقيقة الوحيدة الراسخة من تجربة السنوات القليلة الماضية وهي ان اميركا، ومعها اسرائيل، هما اللتان حالتا في اكثر من مناسبة محققة دون سقوط نظام الاسد، ومنعتا دخول اسلحة مضادة للطائرات والدبابات الى معارضيه.. وكان لواشنطن، كما هو معروف، الدور الحاسم في تفتيت مجالس وهيئات المعارضة السورية، التي لم تكن في الاصل بحاجة الى جهد كبير لكي تتشرذم وتنتهي بالالتحاق بتنظيم داعش طلبا للنجاة، ما برر للرئيس الاميركي باراك اوباما القول لصحيفة “نيويورك تايمز” قبل أيام حرفياً انه لم يعد يجد معارضين سوريين علمانيين يمكن ان يدعمهم.
الحلف المقدس قديم بين واشنطن وتل ابيب من جهة وبين دمشق من جهة اخرى، وهو يرقى الى ما قبل انطلاق الثورة السورية، او تحديداً الى مطلع السبعينات من القرن الماضي. وقد خضع ذلك الحلف طوال العقود الخمسة الماضية لتجارب واختبارات عديدة، لكنه ظل صامداً لا سيما عندما هبت عاصفة الصحراء. بل لعله ازداد رسوخا. وبقي “الرئيس الشاب المتعلم في الغرب والمؤهل للاصلاح”، عنواناً وحيداً للرعاية والعناية من قبل الاميركيين والخليجيين العرب جميعاً من دون استثناء، حتى أواخر السنة الثانية من عمر الثورة.
لا جديد ابداً في ان تقوم واشنطن اليوم بمحاربة خصم جديد لنظام الاسد، وفي ان يفتح النقاش الداخلي على مصراعيه بين الاميركيين انفسهم حول المفاضلة بين استبداد الاسد ووحشية داعش. وهو نقاش احتدم قبل عام مضى عندما ارتكب النظام مجزرة الكيماوي في الغوطة فقرر اوباما تأديبه، قبل ان يتراجع في اللحظة الاخيرة عندما ابلغه الرئيس الروسي بوتين، بأن أي ضربة عسكرية اميركية مهما كانت محدودة يمكن ان تؤدي الى إنهيار النظام والجيش والدولة في سوريا.
في تلك الفترة لم يكن داعش لاعباً مؤثراً، ولا كانت ممارساته البربرية عاملاً ضاغطاً على الاميركيين، او حتى على النظام السوري. وكانت العبقرية السياسية للمعارضة السورية تنسب نشوء ذلك التنظيم الى الاسد، بينما كان النبوغ السياسي المبكر للنظام يعزوه الى اميركا نفسها ثم الى الخليجيين قبل ان يتوصل اخيراً الى الاكتشاف الفذ بانه صنيعة تركيا! من دون أن ينتبه أحد الى أنه وريث تنظيم القاعدة وقد تمكن بالفعل من إحالة قيادته التاريخية الى التقاعد، لا سيما الدكتور ايمن الظواهري الذي أصبح الان على المعاش، ولن يحظى بالتكريم والتبجيل الا عندما تعود حركة طالبان الى الحكم في افغانستان نهاية العام الحالي.
عادت اميركا الى العراق، وها هي تدخل الان الى سوريا. انها حربها الثالثة التي يخطىء كثيرون في تقدير اهدافها وفي تحديد لائحة الاعداء والحلفاء. الخراب الذي سيعم المشرق العربي على يد الاميركيين لا يسمح لغير ابو بكر البغدادي ان يكون واثقاً من نهايته.. ولا يتيح لاي من المهللين لتلك العودة الاميركية المظفرة ان يكونوا على لائحة المدعوين الى الاحتفال بالنصر الالهي المقبل
المدن
دولة «داعش» ومعضلة أوباما/ جيفري كمب
حظي قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما باستخدام القوة الجوية الأميركية لحماية اللاجئين والقوات الكردية من مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، المسلحين جيداً والذين لا يأبهون لشيء، بموافقة صامتة داخل الولايات المتحدة ومن زعماء العالم العربي الذين يريدون لأسباب مختلفة أن يروا الهزيمة تلحق بتنظيم «الدولة الإسلامية». ويبدو حالياً أن الضربات الجوية المبدئية عطلت القوة الهجومية لـ«داعش» وساعدت على إنقاذ اللاجئين. وأهم شيء أن الضربات الجوية عززت معنويات الأكراد وساهمت في استعادة الاستيلاء على سد الموصل الحيوي. وقوات البشمركة الكردية تواجه عدواً أفضل عتادا وتجهيزاً، والقرار الأميركي بتزويدهم بالمزيد من الأسلحة يلقى منهم ترحيباً خاصاً.
وبفضل الدفعة المعنوية التي نتجت عن عملية انتزاع السد الاستراتيجي من يد مقاتلي التنظيم المتشدد بعد انتكاسات متواصلة على مدى شهرين متتاليين، تقدمت وحدات من الجيش العراقي تدعمها مليشيات شيعية يوم الثلاثاء صوب وسط تكريت. لكن ضباطاً في غرفة عمليات القوات العراقية قالوا إن التقدم توقف بحلول ظهر يوم الثلاثاء بعد مقاومة شديدة من مقاتلي «الدولة الإسلامية». وكان مقاتلون من إقليم كردستان العراق شبه المستقل قد استعادوا السيطرة على سد الموصل بدعم من ضربات جوية أميركية يوم الاثنين.
والقوة الجوية والأسلحة الإضافية تستطيع أن تساعد في التصدي لهجمات «الدولة الإسلامية» في العراق، لكن لإضعاف القدرات القتالية بصفة عامة بشكل جدي للتنظيم المتشدد في كل من العراق وسوريا، قد يكون من الضروري اللجوء إلى هجوم جوي أكثر كلفة وخطورة. ومثل هذه الحملة لن تواجه مخاطر فقدان طائرات أميركية وطيارين أميركيين لصالح تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، بل قد يكون قتل المدنيين لا مفر منه في مثل هذه الهجمات التي تزيد المخاطر السياسية بشكل كبير.
وشن حملة جوية موسعة سيجبر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على تغيير استراتيجيته العسكرية. وقبل التدخل الأميركي في الآونة الأخيرة كان بوسع «داعش» شن حملة هجومية سريعة في الأراضي المفتوحة في العراق دون الخوف من أي تهديد من الجو، فيما عدا جهود عشوائية وغير فاعلة من قوات الجو العراقية الضعيفة وغير الخبيرة بتنفيذ هجمات دقيقة على أهداف تابعة لـ«داعش».
وكان مقاتلون من طائفة السنّة بقيادة تنظيم «داعش» قد اجتاحوا مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه في يونيو الماضي واستولوا على مدينتي تكريت والموصل، بالإضافة إلى سد الموصل الذي يتحكم في إمدادات المياه والكهرباء لملايين العراقيين على امتداد وادي نهر دجلة. كما أعلن التنظيم قيام «دولة الخلافة الإسلامية» في المساحات التي سيطر عليها في كل من سوريا والعراق.
ووصول القوة الجوية الأميركية يعني أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يتعين عليه السعي إلى توفير حماية من الضربات الجوية، ومن ثم بناء دفاعات أكثر قوة تتضمن إقامة منشآت تحت الأرض لإخفاء أكثر مقاتليه وأسلحته أهمية. وهذه الضرورة ستقيد قدرة «الدولة الإسلامية» على شن هجمات سريعة ضد القرى والمدن التي تفتقر للدفاعات، لكنها لن تمنعها من مواصلة معاملة من تحتجزهم حالياً من السكان، سواء من سوريا أو من العراق، بوحشية شديدة. وأفضل طريقة في الواقع تحمي بها «الدولة الإسلامية» قواتها ضد الضربات الجوية هي نشر هذه القوات في مناطق مدنية كثيفة السكان تخضع لسيطرتها بالفعل. وبالتالي فمن المرجح بشكل كبير، في هذه الحالة، أن تتسبب الهجمات الجوية على المناطق التي توجد فيها قوات «الدولة الإسلامية» وعتادها في مقتل عدد كبير من المدنيين وفي تعزيز سيطرة التنظيم على هؤلاء السكان. والسكان في مدينة تكريت التي تبعد نحو 130 كيلومتراً إلى الشمال من بغداد وتعد معقلاً من معاقل الأقلية السنية، يؤكدون أن مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يحكمون سيطرتهم على مواقعهم وينظمون دوريات في الشوارع الرئيسية للمدينة.
والمعضلة التي يواجهها أوباما هنا تتمثل في أنه لا توجد أي دلائل توحي بطول أو قصر المدة الزمنية المحتملة التي يتعين فيها على الولايات المتحدة أن تواصل هجومها الجوي كي توقف التقدم الكبير الذي أحرزه تنظيم «الدولة الإسلامية» خلال الشهور القليلة الماضية. ومن الجدير بالذكر أن أوباما جاء إلى المنصب محمولا على وعد بأنه سيخرج بكل القوات الأميركية من العراق، لكن ها هو يعود بهم الآن ثانية إلى هناك، مع وجود أعداد قليلة من القوات البرية التي أرسلت لحماية الأميركيين في أربيل تحديداً، وها هو يتعهد بأن تشن البحرية الأميركية وقوات الجو حملة إلى أجل غير مسمى.
ولعل «المهمة الممتدة الأمد» هذه مزعجة للغاية للجناح اليساري في «الحزب الديمقراطي»، أما «الحزب الجمهوري» وبعض قادته المتشددين مثل السناتور جون مكين، فإنهم يجادلون بأن مساعي الرئيس غير كافية لإيقاف «داعش». والمثير للسخرية في الأمر أنه باستخدام القوة الجوية الأميركية ضد «الدولة الإسلامية»، تساعد الولايات المتحدة بشار الأسد والإيرانيين و«حزب الله»، وهي الأطراف ذاتها التي تعتبرها الولايات المتحدة أعداء لها. وهذا هو حال التباس السياسة في الشرق الأوسط.
ولابد من الاعتراف بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل خطراً إرهابياً للدول الغربية، لكنه في الجانب الآخر يشكل خطراً على وجود دول محورية في المنطقة بها أصدقاء مقربين من الولايات المتحدة. ففي الآونة الأخيرة، حذّر التنظيم الأميركيين، في مقطع مصور، نشر بالإنجليزية على الإنترنت، من أنه سيغرقهم جميعا في الدماء إذا أصابت ضرباتهم الجوية الأميركية مقاتليه. وظهر في المقطع المصور أميركي ضُربت عنقه خلال الاحتلال الأميركي للعراق في أعقاب الإطاحة بصدام حسين عام 2003 وكذلك صور ضحايا عمليات قنص.
وفي نهاية المطاف، يتوقف إلحاق الهزيمة بـ«داعش» على نشر قوات برية من القوى الإقليمية بدعم محدود من قوة الجو الأميركية. والولايات المتحدة لن تعيد نشر أعداد كبيرة من قواتها البرية في المنطقة بعد ما عانته في العراق وأفغانستان. وعلى خلاف ما يحدث في الكثير من القضايا المحلية في الولايات المتحدة، سوف يتحدث الجمهور الأميركي بصوت واحد في تأييد عدم نشر قوات برية هناك.
الاتحاد
استراتيجية أوباما المفقودة/ نجاة شرف الدين
لن يستطيع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن يمنع تداول الصور التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي لجريمة إعدام الصحافي الأميركي، جيمس فولي، على الرغم من وقفها على “يوتيوب”، ولن يستطيع أن يمنع ردود الفعل، وخصوصاً لدى الرأي العام الأميركي بشأن تحميل المسؤولية والغضب والخوف الذي يرافق هذه الصور البربرية، بأفعالها الجرمية، إلا أن الكلمات المؤثرة وتعزيته عائلة فولي لن تمنع خصومه السياسيين من استعمالها في حرب تحميل المسؤوليات، خصوصاً في تأخير هذه الضربات شهرين منذ يونيو/حزيران الماضي. عشرات الغارات الجوية، حتى الآن، على مواقع الدولة الإسلامية، والتي استطاعت أن تعيد سد الموصل، والذي يؤمن الكهرباء لملايين العراقيين، إضافة إلى بعض المناطق على حدود أربيل، من دون تحديد استراتيجية واضحة الأهداف لهذه العملية، أو على الأقل، أن يحدد لها اسماً في حال تمت الإشارة إليها، كسابقاتها من العمليات التي تحمل اسماً وهدفاً محدداً، إضافة إلى الفترة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها، مع تطور الأوضاع على الأرض.
في كلامه منذ أسبوع، حدد وزير الخارجية، جون كيري، ثلاثة أهداف لعملية العراق، الأول، حماية الأميركيين وحركتهم، الثاني، تقديم النصائح والمساعدة للقوات الأمنية العراقية لمحاربة داعش، والثالث الانضمام مع الشركاء الأوروبيين للمساعدة الإنسانية. هذه الأهداف البعيدة مبدئياً عن وجود جنود على الأرض، وهو الخط الأحمر الذي كان حدده أوباما في خطاباته المتكررة، عادت الخارجية الأميركية لتطلب من “البنتاغون” نشر 300 جندي إضافي في العراق، في إشارة إلى تزايد عدد الجنود على الأرض، مع تمديد فترة العمليات وتوسعها.
أظهر استطلاع رأي أجري للأميركيين، نشر الأسبوع الماضي، أن 44 % من المستطلعين يعتقدون أن على أميركا أن تتحرك، وهي نسبة تفوق سابقتها الشهر الماضي، والتي بلغت 39%، كما أظهر الاستطلاع أن 41 % يعتبرون أن على أميركا أن لا تتدخل، وهذه النسبة تراجعت، بعد أن كانت 55% مقارنة في الشهر الماضي. وتظهر هذه الأرقام، أيضاً، أي مدى يتغير المزاج الأميركي، مع بدء العملية، ونتائجها على الأرض، وهو ما يحاول أوباما أن يتحرك على إيقاعه، خوفاً من تداعياتٍ تنعكس سلباً على الانتخابات الأميركية لنواب الكونغرس في أكتوبر/تشرين الثاني المقبل، والتي يبدو أن أوباما يدرك معنى خسارتها لحزبه الديمقراطي، والتي بدأت الاستطلاعات تبشره بها.
لم يكن الهاجس الانتخابي، وحده، شاغل البيت الأبيض، فالإدارة تصارع، هذه الأيام، لكيلا تتحول الوحول العراقية مجدداً إلى حربٍ طويلةٍ، لا تزال صورتها في أذهان الأميركيين، لا سيما بعد تهديدات أطلقتها داعش للأميركيين، بعدما أظهرت صور الصحافي فولي، متوعدة بمزيد من عمليات القتل، في حال استمرار التدخل بالغارات الجوية.
مما لا شك فيه أن الأميركيين لا يريدون استعادة مشاهد قتل أبنائهم، وعودتهم في صناديق إلى ديارهم، ومما لا شك فيه أن خط أوباما الأحمر هو التورط مجدداً في حرب طويلة، استطاع، حتى الآن، عدم الانجرار إليها بسياسة عدم التدخل، إلا أن دخوله، ولو عبر عمليات محدودة، وبدعم من السنة في العراق والخليج، بعدما تسلم رئيس الحكومة الجديد، حيدر العبادي، مسؤولياته بمباركة سعودية وإيرانية، فتح النقاش أميركيا حول الاستراتيجية في هذه العملية، خصوصاً مع توسعها خارج إطار الأهداف المعلنة.
العربي الجديد
عجزنا… بين “داعش” والغرب/ حازم صاغية
ليس بلا دلالة، وهي دلالة معيبة، أنّنا كلّما تحدّثنا عن حركة “داعش” وخطورتها، سألنا الأسئلة الكبيرة إيّاها: ماذا ستفعل بلدان الغرب ردّاً عليها؟ ماذا ستفعل الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحديداً؟ هل يترك الغرب وأمريكا هذه الحركة الشريرة تسرح وتمرح في العراق وسوريّا؟ هل يتركانها تتمدّد إلى بلدان أخرى؟
فالجيش العراقي هُزم أمام “داعش” على أبواب مدينة الموصل، ولم يستطع بهائل عدده وعديده وبالإنفاق الباذخ عليه الحدّ من المذلّة التي شابت هزيمته تلك. وها هو يخوض معارك ضدّ “داعش” في مدينة تكريت وغيرها، من دون أن يظهر في الأفق تقدّم يُذكر. وفيما تنخرط قوّات البشماركة الكرديّة، الضعيفة التسلّح، في حربها مع التنظيم الإجراميّ والإرهابيّ، يتبدّى أنّ حظوظ أيّ انتصار فعليّ على “داعش” ترتبط إلى حدّ بعيد بالغطاء الجويّ الذي يوفّره الطيران الحربيّ الأمريكيّ وبعمليّات قصفه.
لكنّ ما هو أبعد من هذه التفاصيل المبعثرة، على أهميّتها، إنّما يطال قدرتنا الذاتيّة، كمنطقة وشعوب، على اقتلاع هذه المنظّمة، واضطرارنا أمام كلّ تحدٍّ من هذا النوع إلى التعويل على طرف غربيّ يتولّى إنقاذنا، هو في الغالب الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وليس من النادر أن يظهر بيننا من يطالب أمريكا بالإنقاذ فيما هو نفسه يتّهم أمريكا إيّاها بأنّها أوجدت “داعش”، أو أنّها تقف وراءها!
والحال أنّنا نحن من أنتج “داعش” التي خرجت من أرحامنا الكثيرة: من استبداد الأنظمة العبيّة وقسوتها، ولكنْ أيضاً من نظم قيم بالية ومن نظم تعليم رثّة، فضلاً عن الدور الذي اضطلع به استنكافنا المديد والشامل عن الانخراط في ورشة الإصلاح الدينيّ. لكنّنا نبدي، في مقابل مهارتنا في إنتاج “داعش” وأخواتها، عجزاً كاملاً في التعاطي مع هذا المارد الذي خرج مؤخّراً من قمقمنا!
في هذا المعنى فإنّنا نسلك حيال “داعش”، وحيال الظاهرات السياسيّة المصيريّة على عمومها، سلوكاً مختلفاً عن نمط علاقتنا بالسلع الاستهلاكيّة التي نتعامل معها من غير أن نكون منتجين لها. وفي هذا، كما في ذاك، تكمن أسباب وجيهة لدى العالم كي لا يحملنا على محمل الجدّ.
فحكّامنا المستبدّون، الذين لم يسقطوا علينا من سماء صافية، استطاعوا أن يحكموا من دون انقطاع عشرات السنين السوداء. هكذا بقي معمّر القذّافي يحكم ليبيا منذ 1969، وبقي آل الأسد يحكمون سوريّا منذ 1970، فيما بقي صدّام حسين يحكم العراق، نائباً للرئيس ثمّ رئيساً للجمهوريّة، منذ 1968. ولم يسقط صدّام إلاّ على يد تدخّل أمريكيّ كامل، بينما لم يكتمل إسقاط القذّافي إلاّ لأنّ القوّات الأطلسيّة تدخّلت جوّاً فأسقطته. ولأنّ سوريّا لم تنجح في جذب التدخّل الخارجيّ، تفسّخت ثورتها وابتلعتها الحرب الأهليّة.
وهذا، على عمومه، سيّء بما فيه الكفاية. فكأنّنا طرف لا يستطيع شيئاً بذاته، وليس سوى عالة على التاريخ والعالم في آخر المطاف.
وكم يبدو هذا العجز عن إنتاج حلولنا مسؤولاً عن شيوع نظريّات المؤامرة لدينا. ذاك أنّ عالم الانتاج والقرار وما يصحبهما من جهد وتفكير، شيء خارجيّ وغير مفهوم بالمرّة من قِبلنا.
وعلى هذا النحو البائس نمضي عقداً بعد عقد، ونروح نتخبّط في تناقضاتنا الطفليّة التي تحملنا على شتم الغرب وأمريكا، وتحميلهما مسؤوليّة “المؤامرات” المتواصلة علينا، فيما نطالبهما، يوميّاً تقريباً، بتخليصنا ممّا فعلناه بأيدينا. فإذا لم يتدخّل الغربيّون زدناهم شتماً، وإذا تدخّلوا رفضنا الإقرار بأنّهم هم الذين أنقذونا! وهل نحن بحاجة لاستعادة الأمثلة الكثيرة التي يضجّ بها تاريخنا الحديث؟
موقع 24
كيف ننتصر على شيء لا نعرف ما هو؟/ جمال خاشقجي
ها هو «داعش» يحفر قبره بنفسه، مثلما دفع كثيرين إلى قبورهم ظلماً وعدواناً وحماقة، لم يخيّب ظن أحد تابع صعوده، وتنبأ بحتمية هلاكه، فهو يحمل بذور فنائه فيه.
قبل نحو عام نشرت في هذا المكان مقالة عنونتها بـ«داعش وأمير بيشاور». كان ذلك في زمن صعوده في سورية، وتنمره على من سبقه للثورة، فكان كالضيف الذي لم يدعه أحد. رويت في المقالة قصة جرت في القارة الهندية في القرن الـ18، لمقاتل شاب أصبح أميراً لبيشاور بعدما نجحت حركة إسلامية تصحيحية بتحرير المدينة من حكم «مهراجا» سيخي خلال شهرين فقط، وبعدما فرض الأمير الجديد أحكاماً متشددة على سكان المنطقة القبليين، ضاقوا به وثاروا عليه، فأعاد السيخ وجيشهم للحكم من جديد، لم يقضوا عليه وحده، بل على كامل الحركة وزعيمها الروحي أحمد شاه الشهيد.
قصة كلاسيكية تتكرر، تصديقاً للحديث النبوي الشريف «ما شادّ الدين أحد إلا غلبه»، ولكن الضرر لن يتوقف عنده، وإنما سيمتد إلى كل الثورة السورية التي حلمت بدولة حرة ديموقراطية تعددية، وعلى تطلعات سنّة العراق إلى عدل ومساواة وحياة أفضل.
ستخسر «السلفية الجهادية التكفيرية» مرة أخرى كل شيء بعدما استعدت كل العالم، وقهرت كل من وقع تحت يدها بما في ذلك حاضنتها السنيّة، سنشهد فرحة الموصليين عندما يزاح كربها عنهم، مثلما احتفل القندهاريون بهزيمة «طالبان» في 2001، على رغم أنها كانت حاضنتهم. ببساطة لا أحد يحب الغلو والتشدد.
ولكن لا نستعجل في التفاؤل. في النهاية سيسقط «داعش» في صيغته الحالية «الدولة الإسلامية» بعد معركة تطول أو تقصر، ولكن سيبقى حركة إرهابية قاتلة تنشط سراً على الأرض نفسها التي كانت تحكمها، مثلما سبقتها «الإمارة الإسلامية في أفغانستان» إلى المصير نفسه، ولكن ستزيدها الهزيمة توحشاً وكراهية، كما لن تختفي فكرتها المدمرة، فما تم تأسيسه والدعوة إليه حتى اختمر خلال عقود وانتشر حتى تجاوز حدود الحواضر الإسلامية وبلغ مساجد أوروبا والعالم كله، لا يمكن أن يختفي في عام واحد.
سينتصر العالم عسكرياً على «داعش» وتوابعه، ولكن يحتاج إلى عمل منظم وحثيث لمنع ظهور جيل آخر، فمقاتلو اليوم هم الجيل الثالث للسلفية الجهادية التكفيرية، فجيلها الأول كان في مصر التسعينات، ثم الجزائر حيث اشتد عودها. الجيل الثاني هو الذي شهد مواجهة ما بعد 11-9 ممثلاً بـ «القاعدة» في أفغانستان، ثم العراق فالسعودية واليمن، أما زماننا، حيث الخلافة و«الدولة الإسلامية» فهذا الجيل الثالث مع تداخل بين الأجيال.
ولكن يجب الاعتراف بأنه وعلى رغم سطوة «الحرب على الإرهاب» والحملات الإعلامية والفكرية عليه، فإن ماكينة تفريخ «السلفية الجهادية التكفيرية» لا تزال منتجة ونشطة، بل جاءت انتصارات «داعش» الأخيرة في الموصل وما بعدها، محفزة للإنتاج، وجاذبة للمترددين ومولّدة لجيل جديد.
لقد احتاج العالم إلى صدمة كي يتحرك، على الأقل لوقف مد انتصارات «داعش» التي شكلت عامل جذب للمتطرفين المترددين. لقد شهد «داعش» خلال الشهر الماضي أكبر نسبة التحاق به بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان والذي اشتهر بدقة معلوماته، فقدّر أن تعدادهم وصل في سورية وحدها إلى 50 ألف مقاتل، نصفهم من الأجانب.
جاءت الصدمة في استهداف «داعش» للأقليات، والمنظر البشع لنحر الصحافي الأميركي، ما حرك الولايات المتحدة ضدهم بعمليات قصف محدودة، ولكن كانت كافية لأن يحقق المقاتلون الأكراد انتصاراً عليهم في معركة سد الموصل الأسبوع الماضي. بالتأكيد ستؤدي هذه الانتكاسة إلى «تبريد» زخم التعاطف مع التنظيم، وهذا بحد ذاته مكسب في معركة استئصاله الطويلة.
لماذا فشل العالم في وقف خط إنتاج الداعشيين الجدد؟ العاهل السعودي الملك عبدالله، غاضب من الجميع، من العلماء الذين لم يقوموا بدورهم، ومن العالم الذي لم يتحمس لفكرته في تأسيس مركز دولي لمحاربة الإرهاب برعاية الأمم المتحدة، فسلّم سفيره لدى واشنطن وممثل المملكة في الأمم المتحدة 100 مليون دولار تبرعاً للمركز لعل العالم يتحرك ويشارك المملكة اهتمامها. الرئيس الأميركي أوباما قال أخيراً إن «داعش» سرطان يجب استئصاله «بعدما صدم بصور نحر مواطنه». الرئيس الفرنسي هولاند صرح بأن العالم يمر بأخطر مرحلة، ودعا إلى مؤتمر دولي للنظر في سبل مواجهة «داعش»، ولكن كيف؟
من الواضح أن المواجهة العسكرية قد بدأت حتى الآن احتوائية لمنع «داعش» من كسب أراضٍ جديدة، خصوصاً في كردستان التي يطمئن إليها المحلل العسكري الأميركي ليس حباً في الأكراد وإنما لتماسك قيادتهم السياسية وقواتهم، بينما لم يستعد الثقة بالجيش العراقي الذي أكلته الطائفية والانقسام السياسي، فلا يريد أن يكون لجيش طائفي قوات جوية. قد يتغير هذا لو شكّل رئيس الوزراء المعيّن حيدر العبادي حكومته ونجح في ضم سنّة معتبرين إليها. ما يعني أننا أمام حرب طويلة، وقودها شعوب المنطقة بينما ينتقي الأميركي والأوروبي من بعد، من يحمي ومن يؤيد، وعمّن يتخلى ويتركه لمصيره، المهم ألا يكسب «داعش» الحرب ولا يستقر له مقام.
إذا كانت الحرب العسكرية على الأرض صعبة ومعقدة، فإن الحرب الفكرية أكثر صعوبة. لنتخيل قاعة اجتماعات فيها كل من له علاقة بالحرب على الإرهاب، سعودي، مصري، إيراني، إماراتي، قطري، أردني، تركي مع أميركي وأوروبي، بل حتى إسرائيلي، والمطلوب منهم وضع خطة لاستئصال «داعش». كيف سيتفقون ولكل منهم أولوياته، ورؤيته، وتحليله الخاص لمسببات هذه الظاهرة المزعجة، بل إن بعضهم ممن تعامل تحت الطاولة مع التنظيم. يزيد الطين بلة قدر من عدم الثقة وتبادل الاتهام. كيف نستطيع استئصال المرض ونحن حتى الآن لم نتفق على مسبباته. كلنا يصف المرض عندما يقول إنه دموي، لا مكان له في القرن الـ21، متمرد، إرهابي، قاتل، متوحش، خارجي، كل ما سبق توصيف للوحش، ولكن لمّا نتفق بعد على جيناته، لم نستوضح خريطته الوراثية DNA، بل لم نتفق على اسم وتعريف محدد لها، فهو يخرج علينا تارة باسم «القاعدة»، وقبلها «الجماعة الإسلامية» والجهاد في مصر، ثم «الجماعة السلفية المقاتلة» في الجزائر، واليوم «الدولة الإسلامية» و«أنصار الشريعة» و«بوكو حرام» و»حركة الشباب» وحركة «طالبان» بفرعيها. هل كل ما سبق شيء واحد أم حركات متعددة؟ تتفق في العنف والقتل والتكفير، ولكنْ لكل منها صفات وتاريخاً وأسباباً تميزها عن بعضها البعض.
أين الحقيقة ومن يملكها؟ كيف ننتصر إذاً على شيء لا نعرف ما هو؟
* كاتب وإعلامي سعودي
الحياة
لتنظيم «الدولة الإسلامية» إيجابيات: تلاقي الأضداد والأعدقاء!/ عادل مالك
منذ ظهور تنظيم «داعش» (الاسم الحركي لـ «دولة العراق والشام الإسلامية» على سطح الأحداث والتساؤلات كثيرة حوله، لكن من دون إجابات محدّدة عنها. ومن ذلك: هذا التنظيم كيف نشأ؟ مَن المموّل؟ ومَن الذي يدّعي أبوّته أو بنوّته؟ هو ربيب مَن؟ هل هو لقيط؟ أم هل ولد سفّاحاً؟
ويبقى فك رموز نشأة «داعش» بهذا الزخم من الأمور الملحّة، حيث إن توافر أكبر مقدار ممـــكن من المعـــلومات من شأنه أن يلقي الأضـــواء الكاشــفة والكامنة خلف هذا اللغز الكبـــير، بل مجموعة الألغاز. وبانتظار فك رموز هذا التنظيم يجب أن نذكر ما يحمله من سلبيّات وإيجابيات!
في السلبيات، وما أكثرها، فإن تنظيم «داعش» أعاد أو يريد إعادة المنطقة إلى العصر الجاهليّ، وإلى ما قبل الإسلام، هذا الذي يجري الحديث باسمه! وفي الأماكن التي يسيطر عليها عناصر هذا التنظيم حدّث ولا حرج من ممارسات قمعيّة من التخلّف لا يمكن تصوّرها في 2014. فقد عدنا مع «داعش» إلى أسواق النخاسة. وإلى عمليات بيع وشراء السبايا (مئة دولار عن كل فتاة)!
والروايات تعود بنا إلى عصر ألف ليلة وليلة، لكن من الرعب. ففي منطقة دير الزور اقتحم فريق «داعشي» عيادة إحدى الطبيبات وتمّ تنـفيذ الإعدام بالطبيبة لماذا؟ لأنها تعالج المرضى من النساء والرجال! ما هذا الكفر؟ بل ما هذا الفكر التدميري؟
وتعود التساؤلات وبإلحاح شديد: ما هي الجنسيّة التي يحملها هذا التنظيم؟ وأي جواز سفر يحمل أعضاؤه؟ وفي غياب المعلومات المحدّدة تزدهر مواسم الإشاعات كالقول إن «داعش» هو «صنيعة» النظام السوري! وبعض آخر يقول إنه ربيب جذور عراقيّة فيما يرى بعض ثالث أن هذا التنظيم يحمل «البطاقة الخضراء» الأميركية وهي التي تُمنح لبعض المقيمين فيها تمهيداً للحصول على هوية أميركية كاملة!
وبانتظار جلاء أكبر مقدار ممكن من المعلومات عن تكوين «داعش»، المهم البحث عن كيفيّة مواجهة هذه الهمجية في التعاطي مع الآخرين غير الموالين لـ «الداعشيين». بتعبير آخر هل هناك آلية محدّدة أو منظمة لمواجهة زحف هذا التنظيم المدمّر؟
وبمقدار ما يخفت الحديث عن الطائفية فنحن في حاجة لاستخدام بعض رموزها لإيضاح الأمور مثلاً: إن «داعش» يزعم أنه يدافع عن مصالح الإسلام – السنّة. لكن ما هذا الافتئات على الدين الحنيف؟
على الفئات التي يزعم التنظيم أنه يتحدّث باسمها أن تبادر إلى القيام بكل تحرّك يرمي إلى فضح عناصر هذا التنظيم وممارساتهم الدنيئة.
وفي هذا المجال، وعلى سبيل المثل لا الحصر، استمعنا إلى حديث مفتي المملكة العربيّة السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ يتصدّى لهذه الحملة ويقول: «إن أفكار التشدد والتطرّف والإرهاب الذي يُفسد في الأرض ويُهلك الحرث والنسل ليس من الإسلام في شيء، وإنها عدو الإسلام الأوّل، وإن المسلمين هم أوّل ضحاياه كما هو مشاهد في جرائم ما يُسمّى بـ «داعش» و «القاعدة» وما يتفرّع عنهما من الجماعات الخارجيّة». ويضيف: «إنّ هذه لا تُحسب على المسلمين، بل هم من الخوارج وهو امتداد للخوارج الذين هم أوّل فرقة مرتدّة من الدين بسبب تكفيرها المسلمين بالذنوب، فاستحلّت دماءَهم وأموالهم».
لقد تحدّثنا حتّى الآن عن سلبيّات «داعش»، لكن هل له من إيجابيات؟
نعم… ويا للمفارقة!
لقد أدّى بروز «داعش» بهذا الزخم الاقتحاميّ إلى نشوء أكبر عملية خلط أوراق في المنطقة، مع ظهور بعض الجهات المعارضة لهذا التنظيم جمعت التناقضات حتّى بين الدول التي باعدت بينها السياسات تجد نفسها، ولو مرغمة، على وضع حدّ لأخطار إعادة نشر التخلّف وكل ممارسات عصر الجاهليّة، وما قبل الإسلام. فكيف يزعم تنظيم «داعش» أنه يريد تعميم الإسلام على دين الدولة في المواقع التي يدخلونها؟
هكذا، نرى أن تحالفاً عريضاً يجمع من الولايات المتحدة إلى سورية في خوض حرب جويّة ضد عناصر هذا التنظيم. وتولّت طائرات أميركية – من دون طيّار – قصف تجمّعات «داعش» في العراق، بخاصة في مناطق سد الموصل الذي يتصف بأهميّة استراتيجية كبيرة.
وسط كل هذا الخضم العاصف: أين الولايات المتحدة من كل ما يجري في المنطقة، خصوصاً في مواقع جغرافيّة تريد أميركا أن تعتبرها أنها حامية لها، كالعراق على سبيل المثل لا الحصر.
يروي الصحافيّ الأميركي توماس فريدمان ما جرى بينه وبين الرئيس باراك أوباما. وكانت لافتة الإشارة إلى أن اللون الأبيض بدأ «يتسلّل» بوضوح إلى رأس الرئيس الأميركي الداكن اللون، كإشارة إلى أن الهموم والمتاعب والمسؤوليات جعلت الأبيض يظهر بوضوح على رأسه.
والواضح أن البيت الأبيض في عهد قاطنه باراك أوباما أوجد حالاً من الإرباك الشديد تمثّل في التردد وعدم اتخاذ مواقف واضحة حيال ما يجري في العالم وبصورة أخص في منطقة الشرق الأوسط.
لكن «الفظاعات» التي ارتكبها عناصر تنظيم «داعش» أرغمت الرئيس أوباما على قطع إجازته الصيفيّة والعودة إلى واشنطن لترؤس اجتماعات عدّة لأعضاء مجلس الأمن القومي، توجّه بعدها مباشرةً إلى غرفة الصحافة (على غير عادة)، واختار أن يبدأ التعليق على آخر التطوّرات في العراق، حيث قال: «أريد أن أوضح للساسة العراقيّين أن الوقت غير مناسب للعودة إلى الانقسام الذي أضعف البلاد»، مضيفاً… «عندما ترى أميركا حكومة يوثق بها في العراق فهي مستعدّة للانخراط في استراتيجــية إقليمية مشتركة لمكافحة الإرهاب». وفــي هذه الملاحظــات إشارة إلى الأزمة التي رافقـــت إرغام نوري المالكي على التخلّي عن منصب رئيس الحكومة، والتعهد باستئصال «سرطان داعش».
أما من الناحية اللوجيستيّة والعملانيّة على صعيد القتال بين قوّات من الجيش العراقي وعناصر تنظيم «داعش»، فقد لوحظ التركيز على سد الموصل الشهير حيث دارت معارك شرسة للسيطرة على السد نظراً إلى أهميّته البالغة.
وفي معلومات واشنطن أن سد الموصل الذي يحجز حوالى 12 مليار متر مكعب من مياه نهر دجلة قد يغمر مدينتين ويقتل عشرات الآلاف من الأشخاص إذا دمّر أو انهار. وأظهر تقرير أميركي: «أن سد الموصل هو أخطر سد في العالم، وقد يصل فيضان مياهه إلى العاصمة العراقية بغداد. إذاً… لم يجد الرئيس أوباما مخرجاً إلّا بالموافقة على تولي طائرات (من دون طيّار) قصف تجمّعات لـ «داعش»، وهذا ما حدث بالفعل.
إن المصيبة جمعت بين مجموعة أضداد باعدت بينها السياسات وقرّبت بينها أخطار تفشي «داعش» في قلب الجسد العربي، فالتقت جهود الدول والمرجعيات الآتية: المملكة العربية السعودية… سورية، إيران، والولايات المتحدة وتركيا، وبعض الأطراف الأخرى غير الظاهرة في المشهدية العامة لمأساة الشرق الأوسط والتي أضافت إليها ممارسات تنظيم «داعش» المزيد من الويلات والكوارث.
هل يبلغ الأمر بنا حدّ القول: شكراً «داعش»، لقد وحدتَ مواقف الأضداد؟
ربما بالتعبير المجازي، لكن لا يمكن توجيه أي شكر لأي «داعشي» عاث في الأرض فساداً. لقد أعاد إلى الذاكرة الحالة التي سادت في العصر الجاهلي، وما قبل ظهور الإسلام.
وإذا كانت أخطار انتشار «فيروس داعش» في المنطقة أرغم أطرافاً ومراجع عدة على اللقاء – من دون لقاء – لمواجهة خطر مشترك على الجميع، فمن مصلحة الجميع محاربة تنظيم «داعش» ربما بالوسائل العسكريّة آنيّاً وبطرق أخرى بعيدة المدى في وقت لاحق.
وبعد…
أولاً: إن بروز تنظيم «داعش» بهذا الزخم الاقتحامي الفاجر والمدمّر يوجب على مختلف صنّاع القرار في المنطقة والإقليم والعالم اتخاذ موقف موحّد أكثر صلابةً مما هو قائم في الوقت الحاضر. ولو كانت هناك اليقظة الكافية والمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور لما باغت تنظيم «داعش» المنطقة بكاملها.
ثانياً: إن الأقليّات على اختلافها وجدت نفسها ضحيّة الممارسات المفترسة لـ «داعش» حيث أرغم الكثير على مغادرة منازله ومناطقه، وهذا التهديد لا يقتصر فقط على الإيزيديين والمسيحيين فحسب، بل إن الخطر داهم على الجميع. وكانت زيارة بطاركة الشرق أربيلَ، في شمال العراق، واللقاء مع سكان تلك المناطق المهدّدة، بلسماً لجــــراح الكثيرين من سكّان مناطق الموصل وجوارها، وأطلق بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي، باسم الوفد الجامع، صرخة لإنقاذ الأقليّة المسيحيّة، لكن هذا لا يكفي إذا لم يقترن بخطوات عملية يمكن أن تحفظ المنطقة من أخطار وجود تجمّعات دينيّة متطرفة كـ «داعش»، إذ ليس بالدعاء وحده يحيا الإنسان المهدّد بحياته وحياة عائلته بشتّى أنواع القهر والظلم والاستعباد.
ثالثاً: خرجت «الحياة» صباح الخميس بعنوان عريض لافت جاء فيه: «… نحو قرار دولي بـ «قطع رأس داعش» ويعكس هذا العنوان رد الفعل الدولي الغاضب على ممارسات التنظيم، ومنها قطع الرؤوس، والعودة إلى تجارة الرق والعبوديّة وكل مظاهر التخلّف الجاهليّ… وتبقى العبرة في التطبيق، لأنها ليست المرّة الأولى التي تهدّد فيها الدول الغربيّة بتوجيه عقوبات ضد الخارجين عن كل قانون وشريعة وينتهي الأمر ببقاء قرارات مجلس الأمن الدولي أو غيره حبراً على ورق، فيما «داعش» يتابع غزواته المدمّرة.
رابعاً: تؤشّر بعض التطوّرات التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة إلى استشعار الأخطار الماثلة ضد الجميع من دون استثناء أحد، وضرورة العمل على بتر هذه الممارسات التي تقشعر لها الأبدان. فهل إن العالم المتحضّر سيضع تهديداته هذه المرّة موضع التنفيذ، وأن يكون للقرارات الدوليّة أنياب قادرة على تصفية هذه المظاهر الخارجة عن كل تعريف إنساني من التي ابتليت بها المنطقة؟
لـ «داعش» إيجابيات! نريد أن نستخدم هذا التعبير إذا كان يعني تلاقي الأضداد والأعدقاء في المنطقة.
* إعلامي لبناني
الحياة
هل تنجح “الدولة الإسلامية” في امتحان الدولة؟/ حسين أيبش
غيّر تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) اسمه ليصبح فقط “الدولة الإسلامية” وأعلن عن إقامة “حكم الخلافة”. وإذا وضعنا كل الاعتبارات الأخرى جانباً، إلى أي حد تنطبق صفة الدولة على هذه “الدولة الإسلامية”؟
الصفة الأولى والأهم من مواصفات الدولة التي تتوافر لدى “الدولة الإسلامية” هي تصميمها على أن تكون دولة واقتناعها بأنها دولة.
يُنقَل عن الممثل الكوميدي ومنتج الأفلام الأميركي وودي ألن قوله بأن الظهور إلى العلن يشكّل نسبة 90 في المئة من أي شيء كان. كما أن المؤمنين يردّدون قولاً مأثوراً مفاده بأنه على المرء أن يتصرّف وكأن لديه معتقداً دينياً، كي ينمو ذلك المعتقد بطريقة عضوية.
هذا الإصرار العام والخاص على أنها دولة، وعلى أن سلوكها يتماشى مع سلوك الدولة، يميّز “الدولة الإسلامية” عن المجموعات غير الدولتية الأخرى الناجحة جداً – لا بل الأكثر نجاحاً على الأرجح – في العالم العربي.
فـ”حزب الله” مثلاً لا يدّعي أنه دولة. لكنه يتصرّف دائماً باسم لبنان والدولة اللبنانية. عملياً، يمارس في المناطق الخاضعة لسيطرته نوعاً من الخصائص الأساسية للسيادة، لا سيما في ما يتعلق بامتلاكه قوة عسكرية وقدرته على التحرّك بصورة مستقلة عن باقي البلاد. لكن خطابياً على الأقل، لا يدّعي “حزب الله” أنه دولة.
على النقيض، عندما يمارس “حزب الله” حكماً مباشراً في المناطق التي يسيطر عليها في لبنان، غالباً ما يفعل ذلك بالتنسيق مع السلطات اللبنانية، لا بل إنه يدّعي أحياناً الخضوع لها. وهذا كله مجرد ادّعاء بالطبع.
في الواقع، يفعل “حزب الله” ما يحلو له. ومحاولة السيطرة على لبنان هي جزء من ذلك، إنما ليس محاولة إنكار لبنان وإلغائه.
من المتعارف عليه أن الدولة تتطلب شعباً يقيم فيها بصورة مستمرة، ومنطقة سيطرة جغرافية ثابتة أو سيادة، وحكومة واحدة، والقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى.
لا شك في أنه بإمكان “الدولة الإسلامية” الادعاء بأن لديها شعباً دائماً، على الرغم من أن موقفها من ذلك الشعب رفضي بقدر تجاهلها للعراق وسوريا كبلدَين يجب الحفاظ عليهما. تصرّ “الدولة الإسلامية” على أن المناطق التي تسيطر عليها لم تعد جزءاً من سوريا أو العراق، وتعتبر أنه لدى المسلمين في مختلف أنحاء العالم واجب أخلاقي بالقدوم والاستقرار في تلك المناطق والمساهمة في تطوير هذا الكيان التوتاليتاري. في كنف “الدولة الإسلامية”، يؤدّي المقاتلون الأجانب نموذجياً الوظائف والأدوار الأكثر أهمية.
المناطق الخاضعة للسيطرة الكاملة والتامة لـِ”الدولة الإسلامية” في شمال سوريا وغرب العراق تتوسّع مثل شبكة عنكبوتية عبر الأراضي. لكن إذا أضفنا إليها الأراضي الواقعة بينها والتي تسيطر “الدولة الإسلامية” على أجزاء كبيرة منها، تصبح المنطقة الخاضعة للتنظيم أكبر بكثير. وهكذا يجد الملايين أنفسهم يعيشون تحت حكم “الدولة الإسلامية” في بعض البلدات والمدن الأهم، بما فيها الموصل.
وقد ظهر أسلوب الحكم الذي تنتهجه “الدولة الإسلامية” بالشكل الأوضح في الرقة في سوريا. الرقة هي العاصمة الإقليمية للتنظيم، وتُجسّد إلى حد بعيد تجربته الأكثر تطوراً في السيطرة المباشرة.
هناك، تحاول “الدولة الإسلامية” بلا ريب التصرّف وكأنها دولة. وتقدّم الرقة نموذجاً عن السيطرة التي سيحاول التنظيم إرساءها في نهاية المطاف في الموصل والمناطق الأخرى التي استحوذ عليها حديثاً.
تمارس الحكومة الواحدة حكماً توتاليتارياً شاملاً. تفرض قانوناً دينياً صارماً، بما في ذلك من خلال المحاكم و”شرطة دينية” خاصة، وبرنامجها الخاص الواسع النطاق لنشر الدين، وسواها من الإجراءات المتشدّدة التي تهدف إلى فرض النظام في أوضاع فوضوية، وترهيب النقّاد لدفعهم إلى التزام الصمت. تحاول “الدولة الإسلامية” أيضاً غسل أدمغة جيلها الأول من المواطنين من خلال التلقين المكثّف للعقيدة والتربية “الإسلامية” التي تركّز في شكل شبه كامل على الأصولية التي تتقيّد بحرفية النصوص، وتستثني كل المجالات الأخرى.
لقد أثبتت “الدولة الإسلامية” براعتها في توليد تبعية لدى السكان من خلال الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك عبر دعم الأفران، لكنها لم تفلح بالدرجة نفسها في الأنشطة الأكثر تعقيداً الموجّهة نحو الخدمات. فقد ظلت تواجه صعوبة في تأمين المياه والتيار الكهربائي، على الرغم من قيامها بتشغيل مصنع للطاقة الكهربائية قرب حلب يتطلب قدراً كبيراً من التنظيم والخبرة.
لعل أكثر ما تفتقر إليه “الدولة الإسلامية” هو القدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى. فهذا العامل هو دليل قوي على وجود الدولة نتيجة اعتراف الدول الأخرى بها. لكن “الدولة الإسلامية” لا تريد علاقات مع أي حكومة أخرى – لا سيما خارج العالم الإسلامي – لأنها تعتبر نفسها البديل الجذري منها كلها. وهي لا تظهر أي اهتمام ولا قدرة على الدخول في مثل هذه الترتيبات.
ثمة أسئلة جدّية أيضاً عن مدى استقرار حكمها في المناطق التي تخضع الآن لسيطرتها، كما أنها تكبّدت انتكاسات عسكرية إلى جانب توسّعاتها العسكرية في الأشهر الأخيرة. وهكذا فإن المنطقة الخاضعة لسيطرتها تتغيّر باستمرار.
إلا أنه من الواضح أن “الدولة الإسلامية” تعتبر نفسها دولة وتتصرّف على هذا الأساس. بهذا المعنى، لقد ربحت حتى الآن نصف المعركة. فنحن أمام تنظيم يلتزم فكرة أن الروايات تولّد حقائق ذاتية التعريف، لا سيما في صفوف أنصاره والشعوب السيئة الطالع التي تخضع لسيطرته.
هل “الدولة الإسلامية” دولة؟ ليس فعلاً وليس بعد. لكن المسافة التي تفصلها عن التحوّل دولةً أقرب مما قد يخطر في بال معظمنا، لا بل قد تكون قريبة إلى درجةٍ تقلق راحة الجميع.
كبير الباحثين في فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين _ ترجمة نسرين ناضر
تنبيه قيادي من نتائج مواجهة أميركا لـ”داعش”: لا بد من تحصين الحدود منعاً لتسرّب مسلحين/ خليل فليحان
استغرب عدد من السياسيين “الصحوة المفاجئة” للولايات المتحدة الاميركية وفرنسا على ضرورة التصدي لـ”داعش” عندما وصل مسلحو هذا التنظيم الى ابواب اربيل. لم يتأخر الرئيس الاميركي باراك أوباما في اعطاء الاوامر الى المقاتلات بالتوجه من حاملة الطائرات، “جورج بوش الابن” الى الموصل لقصف التجمعات العسكرية للتنظيم قبل دخوله عاصمة اقليم كردستان حيث التوظيفات الاميركية، للدفاع عنها وحمايتها، مع التذكير بان واشنطن لم تتجاوب مع طلب وزير الخارجية العراقية السابق هوشيار زيباري بقصف مقاتلي “الدولة الاسلامية” عندما كانوا يجتاحون الاراضي العراقية من دون مقاومة عسكرية فيما العسكر يسلمون اسلحتهم الى المهاجمين.
وأشاروا الى ان “صدور قرار التصدي متأخراً خير من الا يأتي ابداً”. ولاحظوا تسابقا اميركيا وفرنسيا على طريقة انهاء ظاهرة هذا “التنظيم” من اجل وضع استراتيجية كفيلة بضمان القضاء على هذه الظاهرة التي ترتكب جرائم ضد الانسانية بذبح الخصم الشيعي والعلوي وارغام السني على التقيد بتعليماته، او لقى المصير نفسه وارغام المسيحي على تغيير مذهبه واذا رفض فإما تصفيته او تصنيفه من أهل الذمة وفرض خوات عليه او طرده الى خارج البلاد واحتلال منزله وممتلكاته. وقفز الى واجهة الاعلام ذبح الصحافي الاميركي انتقاما للضربات الجوية التي تستهدف مواقع “داعش” وفرقه العسكرية والتي أخرت تقدمه واعطت زخما لقوات البشمركة الكردية للتغلب على داعش وطرده من مواقع عسكرية. ولفتوا الى ان اوباما لا يزال عند موقفه بمساعدة القوات المحلية البرية من خلال قصف جوي في العراق لدحر مقاتلي “داعش”، وسيعتمد الاسلوب نفسه بتوجيه ضربات جوية الى المناطق التي يتمركزون فيها. وأفادوا بان “قوننة” جرت وستجرى لمحاربة هذا التنظيم الذي صنفوه من اخطر التنظيمات الارهابية ويجب القضاء عليه بكل السبل المتاحة وبسرعة، وقد رفعت في سبيل ذلك الاجراءات الامنية الاميركية لحماية المصالح الحيوية في كل من لبنان وسوريا والعراق والاردن وبعض الدول الخليجية بعد اعلان “داعش” الحرب على اميركا في العراق وخارجه. وتبلغوا معلومات من ديبلوماسيين ان هناك استراتيجية متكاملة يجري الاعداد لها في واشنطن وتحاول باريس المشاركة بها، فالقيادة العسكرية ترى ان انهاء “داعش” يجب ان يتم من الاماكن التي يسيطر عليها في كل من سوريا والعراق، فيما الديبلوماسية الفرنسية تشجع على حصر القتال في المعارضة السورية التي لا تضم غرباء ومد مقاتليها بالسلاح في سوريا لمقاتلة قوات النظام. وكشفت للمرة الاولى انها زودت تلك المعارضة اسلحة وذخائر في الاشهر الماضية وتوقعوا تقديم دعم لتلك القوات لاستهداف داعش في مناطق واسعة من سوريا.
وايد خبير عسكري رداً على سؤال لـ”النهار” توجه القيادة العسكرية المشتركة للجيش الاميركي، لافتا الى ان “خزان التنظيم “داعش” هو في سوريا، وقد انتقلت قوته العسكرية من هناك الى العراق ويجب استئصاله نهائياً”. ونبه الى ضرورة احكام اقفال الحدود لمنع تسرب الكثير من الداعشيين، لا سيما الاجانب منهم بعدما تبين للجهاز الامني الاميركي ان بين هؤلاء اميركيون اعطيت اسماؤهم لسلطات الحدود اللبنانية للافادة عن دخولهم الاراضي اللبنانية. كما ان بريطانيا ودولا اوروبية اخرى حذت حذو اميركا في هذا الاتجاه.
ونصح احد السياسيين الذي كان يقود قوة عسكرية في ما مضى اكثر من مسؤول التقاه اخيرا بضرورة عدم تكرار غلطة عرسال ايا تكن الظروف لانه “ليس كل مرة تسلم الجرة” وامام الجيش الكثير من المهمات الامنية، من دون ان يعني ذلك ترك الحدود الشرقية والشمالية في وجه اي تسرب للارهابيين.
النهار
ثمن التجاهل دماء كثيرة؟/ راجح الخوري
هل كان من الضروري ان تقع كل هذه المذابح وتسيل كل هذه الدماء وآخرها دماء الصحافي الأميركي جيمس فولي لكي يقرر باراك اوباما البدء بتوجيه ضربات جوية محددة الى “داعش”، والسعي لإنشاء تحالف غربي اقليمي للقضاء على هذا التنظيم الارهابي؟
رئيس هيئة الاركان الاميركية الجنرال مارتن ديمبسي نسي تصريحاته قبل اشهر قليلة، وهو اليوم يقف الى جانب تشاك هيغل، ليعلن ان “هناك امكانية لهزيمة الدولة الاسلامية اذا تمت مهاجمة هذا التنظيم المتطرف في سوريا وليس في العراق وحده”، ولكن يا لهذا الاكتشاف المتأخر جداً (!) ففي ١٤ ايار الماضي اعلن ديمبسي نفسه، ان اميركا لن تقدم الى المعارضة السورية التي تقاتل النظام والارهابيين ما تحتاج اليه، وان لا جدوى من دعم من سبق لأوباما ان سمّاهم أطباء الاسنان والفلاحين.
الجنرال جون ألن انتظر طويلاً ليقول: الآن من الضروري تدمير هذا التنظيم بسرعة وإلا فسندفع ثمناً باهظاً، وان من الضروري شن ضربات جوية قوية لمساعدة مقاتلي المعارضة السورية، الذين يقاتلون الارهابيين منذ عام ونيف، وان القبائل السنّية في سوريا مستعدة لمواجهة التنظيم لكنها تناشد الغرب مساعدتها .
عندما احكمت “داعش” السيطرة على مدينة البوكمال السورية في ٢ تموز الماضي اعلن نائب مستشار الأمن القومي الاميركي بن رودز ان المعارضة السورية تواجه “داعش” وان مصدر التهديد الارهابي ليس هذا التنظيم بل النظام السوري، الذي خلق أزمة دموية أدت الى ظهور الارهابيين، وهناك سلسلة طويلة من التصريحات التي يمكن ان تشكل إدانة لسياسة التعامي عن الفظائع في سوريا.
جون ماكين يقول انه حان الوقت أخيراً لمواجهة المنظمة الأكثر وحشية في التاريخ، وعلى اميركا ان تضرب في شكل اقوى، و”الواقع ان الرئيس تجاهل التهديد لفترة طويلة وها نحن اليوم ندفع الثمن، وانه كلما انتظر اوباما أكثر تكيّفت “داعش” وبات الأمر أكثر صعوبة، ومن الضروري ضربها في سوريا”. لكن ماكين لم يتوقف يوماً عن انتقاد سياسة اوباما في سوريا، ففي نهاية أيار قال ان منطقة الحدود بين سوريا والعراق تحولت مقراً لـ”القاعدة” والارهابيين الذين يخططون لهجمات على اميركا، وهذا يعني ان اوباما يواجه فشلاً كاملاً.
حتى السفير الاميركي في سوريا روبرت فورد إستقال احتجاجاً على سياسة البيت الابيض في سوريا بعدما يئس من رفض تسليح المعارضة، وفي ٤ حزيران الماضي اعلن ان غياب دعم المعارضة السورية ادى الى تسريب المقاتلين الى “داعش” وانه ” لو قدمنا مساعدات منذ سنتين الى المعارضة لكانت تمكنت من دحر داعش.
والسؤال: هل كان من الضروري ان تتفاقم المجازر لتستولد “داعش” واخواتها، وهل ستتحرك اميركا جدياً الآن لضربها والقضاء على الارهابيين؟
النهار
“داعش” سوريا قبل “داعش” العراق/ سميح صعب
تنظيم “الدولة الاسلامية” الذي يطلق عليه “داعش” ليس وليد اللحظة وإن أوحت الولايات المتحدة والدول الغربية والعربية التي استفاقت متأخرة على الخطر الذي يشكله هذا التنظيم منذ لحظة تمدده في اتجاه مدينة أربيل عاصمة اقليم كردستان، بعدما كان اجتاح اعتباراً من 9 حزيران الموصل ومساحات شاسعة من شمال العراق وغربه ووسطه وأزال الحدود بين العراق وسوريا.
ولم يولد “داعش” في 9 حزيران، بل ان جذوره ضاربة
في تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق” الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي خلال فترة الاحتلال الاميركي للعراق. لكن التنظيم نما وتوسع بشكله المخيف في ظل الحرب السورية ولم يكن توسعه في العراق إلا نتيجة القوة التي اكتسبها في سوريا.
ولعل المفارقة تكمن في ان الدول الغربية وبعض الدول العربية ولا سيما منها الخليجية لم تكن تنظر الى “داعش” كما تنظر اليه اليوم، علماً انه كان ابتلع ثلث مساحة سوريا قبل ان يهاجم الموصل ويهزم الجيش العراقي والبشمركة الكردية ويسيطر على نحو ثلث العراق.
وربما كان الصمت الغربي والعربي على “داعش” في
سوريا منطلقه وظيفياً وتبريرياً، أي ان وجوده في سوريا يفيد في تآكل النظام السوري وصولاً الى اسقاطه وخصوصاً بعدما تبين ان الرهان على ما تسميه الولايات المتحدة واوروبا معارضة سورية معتدلة ضرب من الوهم، إلا اذا كان الغرب بات يعتبر “جبهة النصرة” التي تمثل الفرع الرسمي لتنظيم”القاعدة” الام من المعارضات السورية المعتدلة.
وعلى رغم الاستفاقة المتأخرة للغرب على الخطر الذي يمثله “داعش”، فإن المقاربة المعتمدة في مواجهته لا تزال تنطلق من طرح تبسيطي للوضع الناشىء. أي ان النظام السوري هو السبب في نشوء “داعش” ولذلك فإن محاربة التنظيم يجب ان تعتمد على تحالف اقليمي لا يضم سوريا وانما يعتمد على دول عربية خليجية وتركيا التي كانت النقطة التي دخل منها مقاتلو التنظيم الاصولي الى سوريا سعياً الى محاربة النظام السوري، ليتبين في النهاية ان تركيا كانت تساهم في تقوية شوكة الجهاديين اكثر من أي دولة أخرى في المنطقة. وكان هذا يجري تحت سمع الغرب ونظره على رغم عامل الدهشة البادية الآن في العو أصم الغربية من وحشية “داعش”.
وها هي اميركا تنزلق مجدداً الى مشاكل الشرق الأوسط لأنها لم تتصد باكراً للخطر الجهادي وربما ظنّت في لحظة من اللحظات ان في امكانها احتواءه عندما يسقط النظام السوري، ليتبين في ما بعد خطأ هذا الرهان.
النهار
اوباما و«داعش»… و«سرطان الفشل»؟
يبدو ان الصحافي الامريكي جيمس فولي كان يجب ان يفقد حياته ذبحا في ذلك المشهد البشع امام العالم، حتى يدرك الرئيس باراك اوباما ان تنظيم داعش يشبه «السرطان»، (ورد هذا التشبيه لخطورة داعش في مقال نشر في هذا المكان قبل اسابيع)، وكأنه لم يكن يرى صور المذابح الجماعية التي لم ينج منها اتباع مذهب، سواء في العراق او سوريا.
واكتفى اوباما بالقول انه «سيفعل ماهو ضروري لتحقيق العدالة»، فيما تتضارب الآراء بشأن ان كان يملك حقا استراتيجية واضحة للتعامل مع ذلك «السرطان»، وهو الأمر الذي لن يكون سهلا بعد ان دخل في مرحلة متأخرة.
ويقول مسؤولون أمريكيون إن من المستبعد أن يعمد أوباما لتوسيع الدور العسكري الأمريكي في العراق أو سوريا، وإنه قد يستمر في توجيه الضربات الجوية، وذلك رغم الضجة التي أثارها ذبح الصحافي الأمريكي في الداخل والخارج، وإنه لا توجد خطط لتغيير كبير في الحملة الأمريكية على مقاتلي داعش.
الا ان الجنرال ديمبسي رئيس هيئة الاركان الامريكية يعترف بأن الغارات الجوية على العراق فقط لا يمكن ان تحقق اهدافها مع التغاضي عن الملاذ الآمن الذي يحظى به داعش في سوريا.
وقال ديمبسي للصحافيين، أمس الجمعة، «هل يمكن هزيمتهم بدون معالجة ذلك الجزء من التنظيم الذي يقيم في سوريا؟ الاجابة لا. ذلك سيتعين معالجته على جانبي حدود غير موجودة بشكل اساسي في هذه المرحلة.»
هذه شهادة امريكية نادرة بفشل سياسة اوباما الحالية، والسؤال هنا ان كان الرئيس الامريكي مستعدا حقا لتوسيع التدخل العسكري على جانبي الحدود السورية العراقية غير القائمة، وهو ما واظب على رفضه لسنوات؟ ام انه سيكتفي بتلك الغارات كنوع من ذر الرماد في العيون؟
وبالطبع فإن الاتهام الجاهز الذي ينتظر اوباما،ان فعل، هو انه ترك سوريا تتحول الى نهر من الدماء (اكثر من مائة وتسعين ألف قتيل حسب تقرير للامم المتحدة أمس)، ثم قرر ان يتدخل لمكافأة القاتل عمليا، اذ ان القضاء على داعش سوف يحسم حرب الميليشيات التي تشهدها البلاد لمصلحة النظام.
ويبدو ان اوباما سيفتقد هذه المرة دعم شريكه الرئيسي في هكذا خطوة، وهو ما اكده وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، الجمعة، باستبعاده اقامة اي نوع من التعاون مع نظام الرئيس السوري بشار الاسد من اجل التصدي لتنظيم الدولة الاسلامية.
وفي المقابل اعتبر قائد الجيش البريطاني السابق لورد دانات الجمعة، انه سيكون من الحكمة اعادة فتح قناة اتصال مع النظام السوري لمكافحة مقاتلي الدولة الاسلامية.
وقال لورد دانات ان «المثل القديم القائل… عدو عدوي هو صديقي… بدأ يكون له تأثير في علاقتنا مع ايران. واعتقد ان الأمر سيكون كذلك في علاقتنا مع الاسد».
وبالفعل اشارت تقارير صحافية الى احتمال وجود صفقة امريكية ـ ايرانية للتعاون ضد داعش عسكريا، مقابل تنازلات تحصل عليها طهران في الاتفاق النهائي بشأن برنامجها النووي.
المؤكد هو ان اوباما يتخبط سياسيا في العراق، تماما كما يفعل في باقي الشرق الاوسط، بل وداخل بلاده ايضا. وهو ما زال وفيا لما يمكن ان نسميه «السرطان من الفشل الشخصي» الذي وصلت بسببه الولايات المتحدة الى مستوى تاريخي من الافتقار الى الرؤية والنفوذ، بل وفقدان الهيبة والاحترام في هذا الجزء من العالم.
اما الواقع فهو ان الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية تاريخية خاصة عن ظهور هذا «السرطان الداعشي» مع غزوها الاجرامي للعراق في العام 2003، ويجب عليها ان تتحمل عواقبه الكارثية.
واذا كان اوباما يعدّ الايام لتنتهي فترة ولايته دون التورط في حرب كبيرة، فإن الانباء غير السارة له هي ان داعش قد اعلن الحرب من جانبه فعلا. وحسب مقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبل ايام فإن ذلك التنظيم الارهابي ربما يكون موجودا فعلا في شوارع عواصم الغرب ومدنه الكبرى، وليس أدل على ذلك من ان الذي قام بذبح الصحافي فولي هو»داعشي بريطاني اسمه جون».
وبالطبع فإن الحديث هنا ليس عن إعادة للتاريخ الدموي الامريكي في العراق، بل عن قيام المجتمع الدولي بما فيه الولايات المتحدة بعمل محدد ومسؤول تجاه هذ الخطر الإرهابي الداهم.
القدس العربي
حتى لو رُفض داعش!/ سامر خير أحمد
بمناسبة داعش، التي يتوازى رفض تصرفاتها عند عامة المسلمين المعاصرين مع قبولهم تفكيرها السياسي بشأن “الدولة” و”الخلافة” و”الحرب”، علينا أن نتذكر أن “التفكير الإسلامي” السائد لا يزال يعتبر الدولة الإسلامية الصحيحة هي تلك المقدسة التي يقودها، ويوجهها، “ربّانيون” لا يأتيهم الباطل، على طريقة دولة الخلافة الراشدة، وصورتها التاريخية المكرّسة، فيما أن ما يذهب إليه آخرون يعتبرون “الدولة الإسلامية” المناسبة لزماننا دولة المواطنين، لأنها التي تنجز مصالح المسلمين المعاصرين، وتمكّنهم من المساهمة في الحضارة البشرية، لا يزال رأياً محدود الانتشار، ولم يصل إلى أذهان عامة العرب والمسلمين، ولم يسيطر على قناعاتهم بعد، على الرغم من أن أصحابه يستندون هم، أيضاً، إلى دولة المدينة المنورة والخلافة الراشدة، ويلاحظون أنها كانت ذات طبيعة بشرية، لا ربانيّة.
هكذا، فإن قبول التفكير السياسي لداعش، أو رفضه، سيظل مرتبطاً بانطباعات الناس عن ماهية الدولة الإسلامية الأولى: ربانية أم بشرية؟ لكن، هل يجوز أن نستغرق في هذا التعارض الظاهر بين الرأيين، ونتناسى أنهما ينبعان من جذر واحد، هو استجداء الشرعية من التاريخ؟! علينا أن نلاحظ مسألتين بخصوص فكرة بشرية دولة الخلافة الأولى.
الأولى: أنها تُكرّس العقبة الأساسية التي ظلت تعاني منها البرامج والأفكار والتطبيقات التي عرفها العالم العربي، على امتداد القرن العشرين، وسببت فشلها الذريع في إنجاز النهوض الحضاري المأمول. تلك العقبة هي اتجاه كل الأفكار، لاختيار نموذج تطبيقي عرفه بشر آخرون غيرنا، سواء عاشوا في زمان آخر أو يعيشون في مكان آخر، والقياس عليه لتحديد مدى وجاهة ما نصنع، وقيمته ونفعه لنا.
فـ”الإسلاميون”، على اختلاف مدارسهم، اتخذوا مجتمع المدينة نموذجاً يقيسون عليه، تماماً كما اتخذ الشيوعيون العرب من قبل الاتحاد السوفياتي نموذجاً يقيسون عليه.. إلخ. وقد منعت فكرة “النموذج” ابتكار تطبيقات وبرامج جديدة بالكامل تناسبنا نحن وحدنا، زماناً ومكاناً.
وتحتفظ، في الوقت نفسه، بالمرجعية الأيديولوجية الأساسية التي تنطلق منها، على طريقة ما حدث، مثلاً، في الصين التي ابتكرت شيوعيتها الخاصة، مستندة فقط إلى النظرية الأصلية، من دون استعمال التطبيقات البشرية الأخرى، بما فيها السوفياتية، فأنجزت نهضتها، أو في دول أميركا اللاتينية التي تبتكر اشتراكيتها الخاصة، مستندة إلى الفكرة المجردة من دون تطبيقاتٍ، جرت في مناطق أخرى من العالم.
في البرامج الإسلامية، يمكننا أن نستند فقط إلى المرجعية الأيديولوجية المتمثلة بالقرآن، لنستخرج تطبيقاتنا نحن، من دون الحاجة لأي نموذج جاهز، حتى لو كان نموذج المدينة، لأنه في النهاية نموذج بشري. وبالتالي، يناسب زمانه ومكانه، ولا يناسبنا نحن بالضرورة.
الثانية: أن القياس على مجتمعٍ وجد قبل مئات السنين، حتى لو كان قياساً إيجابياً، وحتى لو استخدمنا في وصفه مصطلحات معاصرة، مثل المواطنة والدستور والعوامل الاقتصادية، هو قياس يهدر البعد التاريخي في تغيّر بنى المجتمعات البشرية وأحوالها، وطبيعة الدول التي تقوم عليها.
لقد مثلت الثورة الصناعية نقطة تحول كبرى في بنى المجتمعات، وطبيعة الدول. أولاً في الغرب، وتالياً في كل مكان وصل إليه تأثير الغرب، بما في ذلك بلادنا العربية.
صحيح أن مجتعاتنا العربية لم تصل إلى تلك البنى التي وصلت إليها المجتمعات الغربية بعد، إذ ما زالت تراوح، كما يقال، بين الأبوية والحداثة، إلا أن هياكل دولنا معاصرة: فلدينا دساتير وسلطات ثلاث ومؤسسات، مما يعني أننا نحن، أيضاً، عبرنا النقطة المفصلية التي مثّلتها الثورة الصناعية في تاريخ البشرية.
ولذلك، فإن قياس دول ذات شكل معاصر على “دولة”، وجدت قبل الثورة الصناعية المفصلية، هو قياس غير موضوعي، نجد أنه يضطرنا، في حال الإصرار عليه، إما إلى استعمال مصطلحاتنا المعاصرة لوصف تلك الدولة القديمة، مثل الدستور والمواطنة وما شابه، على الرغم من أن تلك الدولة لم تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، أو يضطرنا إلى العكس؛ أي استعمال مفاهيم ومصطلحات تلك “الدولة” القديمة، لوصف دولنا ومجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من أنها لا تناسبنا، ولا تنطبق علينا، وهو ما تورطت فيه حركات إسلامية معاصرة كثيرة، وكثير ممن يدّعون أنهم علماء الإسلام.
هكذا، فحتى لو تغلبت فكرة بشرية “دولة الخلافة الأولى” على فكرة قدسيتها في تفكير عامة العرب والمسلمين، فالنتيجة لن تختلف كثيراً، لأن الإبقاء على شرعية تلك الدولة التاريخية في تقرير إسلامية الدولة من عدم إسلاميتها، في زماننا، هو عين المشكلة!
العربي الجديد
كل الأحداث تؤدي إلى سوريا/ طارق الحميد
أعادت جريمة «داعش» الإرهابية بحق الصحافي الأميركي المنحور التركيز الدولي مجددا على الأزمة السورية وبات النقاش منصبا الآن على ضرورة التعامل مع الملف السوري، وأكثر المحاصرين، والمحرجين، هي الإدارة الأميركية.
ولفهم ذلك فإن القصة الآن ببساطة هي أننا أمام عملية نحر صحافي أميركي على يد إرهابي بريطاني ينتمي لـ«داعش» في سوريا، مما يعني أن الأزمة السورية ليست أزمة منطقتنا وحدها، بل هي أزمة أوروبية – أميركية لا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن القول إن بمقدور الأسد الاستفادة من جرائمه الآن للتعاون ضد «داعش»، خصوصا أن جرائم «داعش» من العراق إلى سوريا تأتي مع حلول ذكرى مرور عام على جريمة الغوطة الكيماوية بسوريا ودون أن يقدم الأسد للعدالة، ودون أن يلتزم الرئيس الأميركي في التحرك ضد الأسد الذي تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها أوباما نفسه. ومما يزيد موقف الرئيس الأميركي تعقيدا إعلان الأمم المتحدة أن عدد القتلى في سوريا قد تجاوز المائة وتسعين ألف قتيل.
وعليه فنحن الآن أمام أزمة تجاوزت كل الحدود أخلاقيا، وأمنيا، وسياسيا، فكيف سيبلور الرئيس الأميركي الآن أي موقف لبلاده لا يحتوي على تحرك جاد ضد الأسد؟ أوروبيا، بات هناك موقف أكثر وضوحا مما هو في أميركا، حيث يقول وزير الخارجية الهولندي، وبلاده عضو في حلف شمال الأطلسي، تعليقا على الموقف من «داعش» بعد جريمة نحر الصحافي الأميركي إنه «لن تدوم الحلول في العراق إذا لم نجد حلا لسوريا»، مع دعوة الوزير إلى تقديم المزيد من الدعم الغربي للمعارضة السورية لمواجهة الأسد. والموقف الهولندي هذا ليس الوحيد في أوروبا حيث هناك الموقف الفرنسي الأكثر تشددا، مع إعلان بريطانيا رفضها التعاون مع الأسد لمواجهة «داعش».
ولا يقف الحرج الأميركي حيال سوريا عند هذا الحد، حيث إن هناك تساؤلات جادة اليوم بأميركا حول استراتيجية الرئيس أوباما، مع التشكيك أصلا بكل ما كان يطرحه أوباما سابقا، وخصوصا بعد الكشف عن عملية إنزال أميركية فاشلة داخل سوريا هذا الصيف لإنقاذ أسرى أميركيين هناك كان من ضمنهم الصحافي المنحور، حيث إن التساؤل الآن هو: كيف تقول الإدارة الأميركية إن التدخل العسكري في سوريا صعب نظرا لامتلاك الأسد لمنظومة دفاعية جوية قوية بينما قام الأميركيون بعمليات إنزال هناك بهذه السهولة؟
وعليه فإن الأزمة السورية اليوم هي أزمة أوروبية – أميركية، وليس بمقدور الرئيس أوباما مواصلة الهروب منها للأمام، وأفضل ما يمكن أن يقال للغرب، وتحديدا أميركا الآن، هو أن تحركهم الجدي ضد «داعش» بالعراق هو ما أدى إلى تخلي إيران عن المالكي، وبالتالي فإن من شأن تحرك غربي أميركي جاد في سوريا الآن أن يغير المعادلة، ويجبر إيران على التخلي عن الأسد، وعدا عن ذلك فهو مضيعة للوقت، والأرواح، وتعميق للأزمة.
صحافي سعودي عمل في صحيفة “المدينة” ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
“داعش” والوهابية/ حبيب فياض
يقتضي الحد من خطر الظاهرة الداعشية عدم الاكتفاء في التعامل معها بما هي بنية موجودة بذاتها، بل التعامل معها من حيث هي جماعة قائمة بغيرها، وبالتالي التوسع في معالجة مسبباتها وظروف نشأتها وامتداداتها. ذلك مطلوب كون «داعش» حالة متحركة غير جامدة ، ممتدة وغير محصورة، وقادرة على التوالد والتعويض عما يلحق بها من نقصان في الامكانات البشرية والمادية. فالداعشية ليست وليدة لحظة استثنائية من تاريخ المنطقة، بل هي نتاج شبه طبيعي لمسار غير طبيعي من التراكمات المؤسسة لتفشي ظاهرة العنف في أوساط العرب والمسلمين.
واذ لا استثناءات في كون المنطقة كلها، بمكوناتها وشعوبها، عرضة للخطر الداعشي، فإن المنهج التتابعي يفضي الى القول بأن المعضلة الداعشية سعودية المنشأ والولادة، وذلك بمعزل عما اذا كانت طبيعة العلاقة بين «داعش» ونظام الحكم في المملكة قائمة على أساس التآلف أو الاختلاف. فالاسلام التكفيري الذي تفرعت منه «داعش» وأخواتها انما هو، بالدرجة الأولى، نتاج البيئة السعودية القائمة بالتواطؤ على ثنائية «الدين» والعشيرة، والخاضعة قهراً لثلاثية التحجر في فهم الدين، الجور في السلطة، والتبعية في العلاقة مع الخارج.
في المملكة، يُختزل الدين بالمذهب الوهابي بوصفه الدين الرسمي والوحيد للدولة. إذ الوهابية بما هي نزعة تكفيرية، ليست مجرد مذهب معترف به في المملكة بل هي متبناة كإطار شرعي وديني للنظام والحكم. وهي بذلك (الوهابية) حاكمة على قاعدتين: التشدد في المعتقد، باعتبار كل من خالف أو أنكر تعاليمها كافرا. والتعسف في الممارسة، بدءا من المطوعين الذين يجوبون في الشوارع والاسواق لإجبار الناس على إقامة الصلاة، مرورا بحرمان المرأة من قيادة السيارة، وليس انتهاء بهدم الأضرحة والمقامات الدينية بتصنيفها من مظاهر الشرك. ينجم عما تقدم أن الوهابية هي الوجه الفقهي والعقائدي لـ«داعش»، فيما هذه الأخيرة هي الوجه «الجهادي» للوهابية.
لا يكفي العامل العسكري وحده لمواجهة الخطر الداعشي بوصفه وجوديا يتهدد المنطقة بأسرها. المواجهة العسكرية من الممكن ان تؤدي الى إضعاف «داعش» ومحاصرتها والحد من فاعليتها وانتشارها، لكنها لن تؤدي الى استئصالها والخلاص من شرورها على طريقة رميها في الصحراء. فالخلاص منها غير ممكن من دون اصلاحات جوهرية وتغييرات بنيوية في البيئات المنتجة لها، وفي مقدمتها البيئة السعودية. ذلك ضروري، اولا من اجل ضمان الحد من التكاثر الداعشي في المجتمعات المصدرة للجماعات التكفيرية، وثانيا من اجل إفساح المجال امام عودة الداعشيين الى بلادهم على امل الاندماج في المجتمع و ممارستهم المعارضة ضمن الوسائل المشروعة، وصولا، ربما، الى المشاركة في السلطة. في غير هذه الحالة ستظل كرة الثلج الداعشية تتدحرج في أكثر من اتجاه.
لا تمكن مواجهة الحراك الداعشي القائم والقادم، من دون استراتيجية موحدة يتم تبنيها من قبل الاطراف المتضررة منه، إضافة الى وقف اشكال الدعم والتأييد التي تقف خلفه. فـ«داعش» المدعومة اقليميا أكبر من دولة، فيما هي المجردة من هذا الدعم جماعة اقرب الى العصابة. و«داعش» المحتضنة محليا تستطيع احتلال جغرافيات واقامة دولة الخلافة، بينما هي الفاقدة لهذا الاحتضان ليست سوى خلايا يقتصر فعلها على القيام بعمليات ارهابية. و«داعش» الحاملة للواء السنة تستطيع اثارة العصبيات واشعال نار الفتنة بين المسلمين، في حين انها المجردة من هذا اللواء مجموعة من المجرمين الخارجين على الاسلام والانسانية.
تضعنا المعضلة الداعشية أمام معادلة مختلفة، وهي أن مواجهة القوات السورية لـ«داعش» عامل حاسم، في حين ان تغييرات جوهرية في النظام السعودي باتت ضرورة للخلاص من هذا الخطر.
السفير
لماذا «داعش» وحده؟/ خالد الدخيل
في كانون الثاني (يناير) الماضي، قلّل الرئيس الأميركي باراك أوباما من شأن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). كان رأيه أن «داعش» أقل شأناً من «القاعدة». هذا ما قاله أوباما في حديث مطول له مع مجلة «نيويوركر» في 27 كانون الثاني الماضي. بعد خمسة أشهر، صار هناك ما يشبه الإجماع في الولايات المتحدة على أن هذا التنظيم هو أخطر ما يتهدد الأمن الأميركي. توحي هذه النتيجة بأن سياسة أوباما رهينة للأحداث أكثر من قدرتها على التأثير في مسارها. في البداية سحب كامل قواته من العراق. الآن يقاوم إمكان إجباره على إعادتها إليه. مقاتلاته عادت بالفعل الى أجواء العراق. ترك مأساة سورية لأقدارها خوفاً من المتطرفين الإسلاميين، فإذا بـ «داعش» – أكثر التنظيمات تطرفاً – يلغي الحدود بين العراق وسورية، ويضع حجر أساس دولته على أراض واسعة في هاتين الدولتين. بعد تلقيه ضربات سلاح الجو الأميركي، قام «داعش» بنحر الصحافي الأميركي جيمس فولي بطريقة بربرية. يقف أوباما الآن أمام مفترق طرق صعب، وهو يشاهد تداعيات سياسات إدارته تجاه المنطقة منذ 2011، والأثر الذي يمكن أن تتركه على إرثه السياسي بعد مغادرة البيت الأبيض.
يبدو أن قيادة «داعش» قرأت رسالة الرئيس الأميركي في كانون الثاني بطريقتها. أوباما لا يقلّل من شأن تنظيمها. إنه يقلّل من شأن ما يحدث في سورية وتأثيره في العراق. بالنسبة الى «داعش»، لا تبدو واشنطن مرهقة من الحروب وحسب، بل يحكمها رئيس سلّم سلفاً بأنه لا شأن له بمعادلة الصراع الذي يدور في الشام. ليس من المستبعد أبداً أن هذه القيادة قرأت أحاديث أوباما عن الموضوع بعناية، وبين هذه القيادة من يتقن اللغة الإنكليزية بحرفية واضحة، كما يتضح من الخطاب الإعلامي للتنظيم. من بين هذه الأحاديث حديثان مطولان لأوباما: أحدهما لمجلة «نيويوركر» المشار إليه، والآخر لموقع «بلومبرغ» بتاريخ 27 شباط (فبراير) من العام نفسه. في كليهما قدم الرئيس أوباما مرافعة مفصلة عن موقفه من سورية، فحواها أن من يعتقد أن تسليح المعارضة السورية كان سيغيّر من الأمر شيئاً هناك واهم. لماذا؟ أولاً لأن المعارضة السورية ما هي إلا خليط من الفلاحين والنجارين والمهندسين والصيادلة والأكاديميين وسواهم ممن تحولوا فجأة إلى معارضين للنظام. هذه المعارضة، كما يقول، غير منظمة، وفقيرة في تجهيزها وفي تدريبها. ثانياً أن النظام السوري يملك جيشاً قوياً، ويحظى بدعم إيران وروسيا، وهو دعم تعتبره كل منهما استراتيجياً بالنسبة اليها. ومؤدى ذلك أن تسليح هذه المعارضة لن يكون بحد ذاته كافياً لقلب المعادلة، بل يتطلب تدخلاً أميركياً. وأوباما ليس مستعداً لذلك، لأنه لا يعتبر أن دعم الثورة السورية أمر استراتيجي لأميركا، كما هو دعم النظام بالنسبة الى الروس والإيرانيين. اكتفى أوباما بنجاحه في إرغام الرئيس السوري على تسليم ترسانة سلاحه الكيماوي.
ما الذي استنتجه «داعش» من ذلك؟ أولاً أن الأميركيين رفعوا أيديهم عسكرياً من الصراع في سورية، ولن يتدخلوا فيه تحت أي ظرف. ثانياً أنه في وسع أي طرف في المعارضة أن يغيّر المعادلة على الأرض هناك إذا كان باستطاعته تحقيق ذلك. وهنا اختار «داعش» توجيه ضربته إلى النقطة الأضعف، العراق. ونتذكر أن العراق صار الأضعف (بعد أن كان الأقوى)، لأن الأميركيين بعد احتلالهم له حلّوا جيشه، ودمروا دولته، وسمحوا مكان ذلك بنمو النفوذ الإيراني، وبتأسيس نظام سياسي يقوم على المحاصصة الطائفية. في ظل هذا الوضع حقق تنظيم «الدولة الإسلامية» أكبر إنجازاته، وصار أكبر خطر يهدد الولايات المتحدة. أقر أوباما أخيراً بذلك متراجعاً عن فرضية المبالغة. وهو إقرار يؤكد علاقة الأحداث في كل من سورية والعراق. هل يشمل هذا الإقرار وجود علاقة بين تجاهل أوباما للثورة السورية وانفجار أزمة «داعش» أمامه في العراق؟ ليس بعد. وزيرة خارجية أوباما السابقة هيلاري كلينتون قالت الأسبوع الماضي في لقاء مطول أيضاً في مجلة «آتلانتيك» إن الفشل في مساعدة الثوار السوريين أدى إلى ظهور «داعش» في العراق. ثم تكاثرت الأصوات في واشنطن بأنه لا يمكن القضاء على «داعش» في العراق، من دون ضربه في سورية أيضاً. أحد هؤلاء رئيس أركان الجيوش الأميركية مارتن ديمبسي.
إن «داعش» يشكل خطراً داهماً، صحيح. لكن الأخطر من ذلك اختزال الأزمة في هذا التنظيم. هو اختزال يعكس رؤية انفعالية أو انتهازية، وكلتاهما تنطوي على كارثة تتهدد الجميع. «داعش» نتيجة، وليس سبباً. لنتذكر أن العمر الزمني لهذا التنظيم لا يتجاوز ثماني سنوات، وأن سياسة أوباما كانت أحد العوامل التي سهّلت نجاحاته الأخيرة. هو طرف واحد في ظاهرة إرهاب تضرب المنطقة، وتتغذى من طائفية متجذرة في ثقافتها. وبما أن الطائفية حال اجتماعية سياسية، فهي تشمل أطرافاً كثيرة. أبرز وأخطر المواجهات في هذه الحال الطائفية في العراق وسورية بين السنّة والشيعة. وعلى خلفية ذلك ظهرت تنظيمات إرهابية كثيرة بعضها سنّي، وبعضها الآخر شيعي. إلى جانب «داعش»، و»جبهة النصرة»، و»جيش المجاهدين» مثلاً على الجانب السنّي، هناك «عصائب الحق»، و»فيلق بدر»، و»كتائب الفضل بن عباس» على سبيل المثال أيضاً في الجانب الشيعي. أصبحت هذه الميليشيات عابرة للدول. ومثلما أن «داعش» يقاتل في العراق وسورية، كذلك تفعل «عصائب الحق»، و»حزب الله» اللبناني. تنامي هذه الميليشيات عدداً وقوة وتوسع دورها أضعف بعض الدول، بل جعل منها أقرب إلى الدول الفاشلة، كما في العراق وسورية. الحوثيون يقومون بالدور نفسه في اليمن.
من هنا فإن اختزال ظاهرة الإرهاب في «داعش» واستهدافه وحده، أو مثيلاته على الجانب السنّي، عدا عن أنه يبتسر الظاهرة، سيعتبر حرباً غربية ضد السنّة، واصطفافاً مذهبياً آخر. وهذه سياسة رعناء ستقوي القاعدة الشعبية لـ «داعش» وأخواته، وستزيد من إضعاف الدول، وبالتالي ستفاقم من خطورة الأزمة، بدلاً من وضع حلول لها. لا يقل خطورة في هذا السياق اقتراح البعض بإشراك إيران في مواجهة «داعش». إيران طرف مباشر في الحرب الطائفية التي تعصف بالمنطقة، لأنها تتبنى وتمول وتدرب كل الميليشيات الشيعية في العراق وسورية ولبنان واليمن، وتوفر لها الغطاء السياسي. إشراكها في مواجهة «داعش» هو عملياً إقرار بمشروعية دعمها للطائفية والإرهاب، وتوفير غطاء دولي لها لتصفية خصومها من الميليشيات السنّية. المطلوب بدلاً من ذلك، وبإلحاح الآن، إعلان موقف دولي واضح وحازم ضد الطائفية بكل أشكالها، وسياسة طويلة النفس تستهدف وضع حد لكل الميليشيات بكل انتماءاتها المذهبية، وتجفيف كل مصادر الدعم لها، الرسمي منها وغير الرسمي.
لا يقل خطورة في السياق نفسه اقتراح البعض التعاون مع نظام الأسد لمواجهة «داعش». أبرز من يقول بهذا السفير الأميركي السابق لدى العراق رايان كروكر. وهو اقتراح أحمق يجهل حقيقة أنه بقدر ما أن ظاهرة «داعش» بدمويتها المتوحشة هي نتاج طبيعي للثقافة السياسية التي رسخها نظام البعث السابق في العراق، هي أيضاً نتاج للبيئة السياسية التي أفرزتها دموية وتوحش نظام الأسد الذي يحكم سورية قبل أن تولد ظاهرة الإرهاب والميليشيات بأكثر من أربعة عقود، وهو اقتراح أحمق لأنه يتجاهل العلاقة العضوية للحال الطائفية في العراق بالحال نفسها في سورية، وأنها المحرك الرئيس للأحداث في كليهما. مواجهة «داعش» تعني مواجهة للإرهاب، ومواجهة الإرهاب تقتضي بالضرورة مواجهة الطائفية. ونظام الأسد هو أبرز قلاع الطائفية في المنطقة الآن، وليس أدل على ذلك من أن بقاءه يستند بشكل أساسي على دعم ميليشيات طائفية أهمها «حزب الله» اللبناني، و»عصائب الحق» العراقية، وكلاهما برعاية ودعم إيرانيين.
السؤال الآن ليس: هل يجب القضاء على «داعش»؟ الأهم: كيف؟ وماذا بعد ذلك؟ «داعش» جزء من نمط سياسي مدمر تاريخه لا يزال معنا. في ثمانينات القرن الماضي دشّن «حزب الله» اللبناني التفجيرات الانتحارية. وفي التسعينات ظهر تنظيم «القاعدة»، وأخذ أعمال العنف إلى أعلى درجاتها آنذاك، بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ووزارة الدفاع في واشنطن. مع بداية العقد الثاني من الألفية الثانية تحوّل «حزب الله» إلى قوة إقليمية تحارب خارج حدودها، وانفصل «داعش» عن «القاعدة»، وبدأ تأسيس دولته آخذاً الجريمة السياسية إلى مرحلة التوحش. هذا مسار تصاعدي يهدّد مفهوم الدولة من أساسه. وجود ميليشيات «داعش» و»حزب الله» وغيرهما في مسرح الأحداث في كل من العراق وسورية، وأن إيران هي القاسم المشترك في هذا المسرح، يعني أن الوضع في العراق وسورية ينتظمه سياق سياسي وأيديولوجي واحد، وأن اختزاله في مكون واحد من دون غيره خطأ سياسي فادح، لن يزيد الوضع إلا قتامة وسوءاً على الجميع.
* كاتب وأكاديمي سعودي
الحياة
هل تصعّد واشنطن في العراق؟/ حسن منيمنة
لئن أُعدّ التسجيل المصور لقتل الصحافي الأميركي جيمس فولي كرسالة إلى الولايات المتحدة، فإنه في واقع الحال اختبار صريح لمدى جدّية قرار الرئيس باراك أوباما تبديل أسلوب النأي بالنفس الذي اعتمده إزاء الأوضاع في الشرق الأوسط. وعلى رغم هول المشهد أميركياً، واحتمال حصول ضربات انتقامية، ليس ما يشير إلى أن النتيجة ستكون التصعيد الذي يؤدي إلى نتيجة فعلية.
أراد أوباما لرئاسته أن تكون تحت شعار إخراج الولايات المتحدة من الحروب التي تورطت بها، وذلك استجابة لرغبة شعبية لا ترى في هذه الحروب ضرورة وطنية وتستهجن كلفتها الباهظة، وتتفق بالتالي مع توجهه القاضي بإيلاء الشأن الداخلي الأولوية. وهو، إذ لم يتمكن من تنفيذ وعده في أفغانستان، بل اضطر إلى توسيع دائرة القتال لتشمل باكستان واليمن في شكل ثابت، والصومال ونواحي أفريقية متحركة في شكل متقطع، بالإضافة إلى عمل عسكري واسع لإسقاط النظام الليبي، فإن إنجازه الرئيس للتأكيد على أنه ملتزم سياسة إنهاء الحروب كان إخراج قواته من العراق. وإذ تعالت الاعتراضات بأن هذا الانسحاب، بطبيعته المباغتة، يفرّط بما خصصته الولايات المتحدة للعراق طوال الأعوام السابقة، ويأتي في وقت لم تستكمل القوات المسلحة العراقية بناء قدراتها لتولي المسؤوليات الملقاة على عاتقها، ولم تتوطد الثقة بين مكونات الطبقة السياسية العراقية بما يسمح بتقدم مستمر للعراق الجديد، فإن الإعلام المؤيد لسياسة أوباما جعل الانسحاب من العراق النموذج الأعلى في اختلاف مسلكه عن نهج سلفه. ولا شك أن الاستقبال الإيجابي لهذا الانسحاب في الأوساط الأميركية كان سبباً مهماً في تمنع أوباما عن الاستجابة للبديهي الحاصل في سورية، حيث كان في وسع التحرك الواضح للولايات المتحدة المساهمة الجدية في إنهاء الأزمة باتجاه إسقاط النظام.
وفي حين تعززت الرؤية في أكثر من موقع بأن إهمال الموضوع السوري، بل التخبط فيه، من شأنه أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة في المنطقة، فإن طاقم أوباما بقي مصرّاً على أن الخط الأكثر نجاعة هو ترك المنطقة بحالها ليجابه بعضها بعضها الآخر، وصولاً إلى إنهاكٍ تتولد من بعده الحلول. بل رأى بعضهم أن تنظيم «الدولة الإسلامية» على قباحة أفعاله، في سعيه إلى إقامة سلطة على أرض، لا يشكل الخطر الذي مثّله تنظيم «القاعدة» على مدى الإعوام الماضية، إذ من المستبعد أن يقدم تنظيم «الدولة» على استعداء خصم جديد في مواجهة تستهلك إنجازات منهجيته التوسعية، وذلك خلافاً لتنظيم «القاعدة» الذي تقوم منهجيته على استدراج الولايات المتحدة ومقارعتها عالمياً.
ثم إن تنظيم «الدولة» وفق هذا التحليل غير قادر على الاستمرار البعيد المدى، لتعارض عقيدته وسلوكياته مع القناعات والعادات لدى من يسعى إلى إخضاعهم.
وإذ شكلت هذه القراءة إلى حد ما المبرر، لمن يحتاجه، لانكفاء أوباما عن معالجة المجريات المستفحِلة في العراق وسورية، فإن الصورة التي حاول البيت الأبيض الحفاظ عليها بدأت تهتز عندما طالت فظائع «الدولة» المسيحيين في الموصل. ولا بد من الإشارة إلى أن ما تعرّض له العراقيون المسيحيون هناك، على هوله وفداحته، ليس إلا مقداراً يسيراً مما فتك ويفتك بسائر ضحايا تنظيم «الدولة» ، إلا أن قيمته الرمزية وأصداءه العالمية وضعت البيت الأبيض على المحك. ومع سقوط المناطق التي ينتشر فيها الأيزيديون، ارتفع مستوى الإحراج. ومع تهديد أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق والذي نجح خلال الأعوام الماضية في تعميق صداقاته مع كل الأطياف السياسية في واشنطن، أصبح أوباما مضطراً إلى التحرك.
ولا بد بالتالي من وضع قرار أوباما بالعودة المفترضة إلى العراق في إطاره السياسي الداخلي الأميركي. إذ لا يستطيع أن يتجاهل ضغط الحليف والخصم في الداخل للإقدام على خطوات تنصر الصديق في الخارج. وعلى رغم تصوير الخطوات المقررة على أنها حاسمة وقاطعة ومن شأنها دحر تنظيم «الدولة»، فإنها كانت تهدف أساساً إلى رسم خطوط حمر أمامه، تحديداً تحصين أربيل. فالإشارة إلى ضرورة الإجماع السياسي في العراق قبل أن تلقي الولايات المتحدة بثقلها العسكري هي تأكيد على عدم الرغبة في العمل الفوري، والكلام على حرب بنفس طويل ينطوي كذلك على التسويف، ووصف أدواتها بالذكية إيضاح بأن الاعتماد قد يكون على طائرات من دون طيار، وهي التي رغم تصعيد عملياتها في باكستان واليمن، لم تتمكن من أي حسم. أي أن أوباما أراد الظهور بمظهر القادر والعازم على التدخل، إنما من دون أن يكون مرغماً على الإقدام عليه.
لكن أوباما ليس وحده مَن يعنيه أن تبقى صورته ناصعة. فتنظيم «الدولة» كذلك معني بأن يظهر بأنه لا يستجيب أي مطلب يدعوه إلى التراجع أو إلى التسوية الضمنية. وهذه السمة أساس لتوسيع هذا التنظيم عملياته بما يتجاوز قدراته المحدودة، كما جرى من خلال فتح معركة في كردستان العراق. لكنها ليست سمة عرضية، إذ أن زعمه بأنه الخلافة المنصورة يلزمه تصعيد المواجهات، لا تأجيلها.
كيف يمكن إذاً التوفيق بين مَن لا يريد المواجهة لكنه مضطر لإشهار الاستعداد للإقدام عليها، وبين مَن يرى في المواجهة تثبيتاً لصدقيته ومشروعيته؟ المسألة صعبة أساساً، ومع الخطوة التصعيدية التي أقدم عليها تنظيم «الدولة» بقتل الصحافي الأميركي فولي تنتقل المسألة من النظري إلى الواقعي. والحل الأقرب إلى الاندراج في إطار الأسلوب الذي اتبعه الرئيس الأميركي قد يكون ضربات موجعة تستهدف مواقع التنظيم، وتحفظ الهيبة الأميركية من دون التوريط البعيد المدى للولايات المتحدة في حرب لا يزال أوباما والعدد الأكبر من الأميركيين لا يعتبرونها حربهم.
الحياة
في الرعب من ذاك التنظيم/ نهلة الشهال
و«داعش» أسهل لفظاً، أو للدقة أكثر إيحاء من التسمية الجديدة بالغرض منه، فـ»الدولة الاسلامية» تتطلب شرحاً واستدراكات. «داعش» أصبح اسم علم في اللغة العربية (بينما كان بالأجنبية عبارة عن تتابع أحرف أولى اختصارية لكلمات:EIIL بالفرنسية و ISIS بالانكليزية… وهكذا بحسب اللغات، فلم يتمكن من تحقيق الجاذبية، بعكس التسمية الجديدة التي أعلنها «الخليفة» البغدادي والتي تحمل معنى بيِّناً صريحاً، وتتيح من جهة ثانية تحميل الإسلام كل الموبقات. وهذه الملاحظة، وإن بدت سياسية – سوسيولوجية إلا أنها لا تتعدى التمرين على اللسانيات!… فلنعد إلى الجد.
«داعش» إذاً يقيم دولته. يُنشئ مدارس ومستشفيات وينظم السير ويرفع القمامة في المناطق التي يسيطر عليها في العراق (أنظر تقريرا أخيرا لـ»فورين بوليسي»)، ويعطي مقابل الضرائب المجباة وصلاً عليه أختام، ويدير المطاحن في الرقة حتى لا ينقص إنتاج الخبز، بل هو ترك بعض الإداريين والخبراء في مناصبهم يعملون حتى لا تقع فوضى في حياة المجتمع. صحيح أن «داعش» يقطع الرؤوس والأيدي، بحسب درجة القصاص المطلوب، ويقتل جماعياً بالرصاص ويسبي ويُهجِّر. ولكن من ينجو من هذا بداية، ثم يقبل بإعادة تربيته وتهذيبه وفق الأصول المرعية، وتعليمه وتثقيفه كذلك، فسيعيش… مطمئناً. وقد نشرت «نيويورك تايمز» أن صائغاً أكد لصحافي أرسلته الى سورية أن «داعش» يكلفه اقل مما كان يدفع كرشى وأتاوات لممثلي السلطة الفاسدين.
ولـ «داعش» نظرية وتحليلات، لعل أبرزها كتاب «إدارة التوحش» الذي يستوقف ولا شك بسبب «حداثته» لجهة المنهج والمحاجّة ووضوح التكتيكات والتعليمات، كما لجهة اللغة والمفردات، على رغم نقشه بتعابير وإحالات دينية، مما لا بد منه كما لا يخفى على أحد… فلنعد إلى الجد!
والعواطف حيال «داعش» مصطخبة. هناك من تفتنهم «فعاليتها». يسحرهم أن بضع مئات من الرجال الملثمين ـ يا للغموض المعزِّز للسطوة ـ المسلحين (وهذا مصدر افتتان آخر)، والذين يمتطون سيارات رباعية الدفع متشابهة الشكل واللون (كما في استعراضات الجيوش النظامية المنضبطة ـ يا للقوة!)، يتمكنون من احتلال مناطق شاسعة من العراق بلمح البصر. يستفيق العالم في أحد الصباحات على خبر غير واقعي: «داعش احتل الموصل». وهي المدينة الثانية (أو الثالثة بعد البصرة) في العراق. ولكن ما بدا مزاحاً ثقيل الظل، أو حادثاً عارضا سينتهي بعد قليل وتعود الأمور إلى سابق عهدها، يستطيل ويستقر ويتمدد. وهو يكشف خواء ونخران الســلطة المقابلة، تلك التي أسسها الاحتلال الأميركي للبلاد ثم خلّفها وراءه، فاستفحلت لدرجة جعلت نظام صدام حسين، حتى في أسوأ أوقاته، يبدو ملائكيا أمامها. فإن كان المذكور قد اختبأ في حفرة، فالمالكي لم يهزه قيد شعرة ما جرى في الموصل، وظل مجادلا بدبَق في أحقيته برئاسة الوزراء، ثم حين يئس راح يشترط، وكل ذلك ليس مجابهة لتغيير جذري أو حتى غير جذري جارٍ، إذ هو لا يتعدى الأشخاص (والأنكى أنه من غير المؤكد أبداً أن الطاقم الجديد أكثر نفعا من سالفه، ولاسيما أنهما من عجينة واحدة…). أسس الأميركان بكل عربدة وخفة ذلك النظام، وافترضوا أن أزماته في السياسة والاجتماع يمكن أن تُبتَلع ببعض الترقيعات، كما حينما انشأوا «الصحوات» لمجابهة عمليات القاعدة. ولعلهم اعتبروا أن المجتمع يتلخص بمعادلات كيميائية او رياضية (كما تشاؤون)، تُنقِص من هنا وتزيد من هناك وتشبك لحية بأخرى، والســـلام. ثم قالوا «غود باي» ورحلوا الى بلادهم البعيدة، تاركين وراءهم أرضا خراباً (وحتى نكون نزيهين، فهم لم يصنعوا الخراب ولا هم اخترعوه، بل زادوا على ما كان، ويمكن الجدل في النسب). وها هم يعودون، مشترطين (هم أيضاً) ألا تطأ أقدامهم الأرض، وان يُكتفى منهم بما يمكنهم صنعه من السماء. سوى أن هذا الموقع ليس بأفضل من ذاك. ومن لم يمكنه أن يكون فعالا هناك، فالأدعى ألا يكون فعالا هنا. هي ورطة مكتملة العناصر، لم تعد تجدي معها مشورة الدكتور ديفيد كيلكالن، الخبير في «مكافحة التمرد»، للجنرال ديفيد بتريوس. والأول كما الثاني (الذي تقاعد في ظروف محرجة كما يعرف الجميع) ضائعان اليوم تماماً. كيلكالن لا ينصح ولا يقترح، بل يكتفي بالتفسير والشرح، ولو ذهب بعيداً يعلِّق: «الدولة الإسلامية هي أخطر جماعة إرهابية على الكرة الأرضية، لأنها تمتلك القدرات القتالية للقاعدة والقدرات الإدارية لحزب الله». وأيضاً: «من الواضح انهم فهموا أهمية الحاكمية الفعالة». شكرا دكتور. وهو سبق له أن انتقد احتلال العراق (في زمانه) ونعته بالقرار الأبله، وان“`تقد قصف الطائرات بلا طيار. ماذا تريد إذاً يا رجل؟ وطبعاً فكل تلك المعارضة والانتقادات لم تمنعه من العمل ككبير المستشارين لدى الإدارة العسكرية الأمريكية، الى جانب تأليف الكتب ونشر المقالات وتأسيس المراكز.
افتتان بعض الشباب (الذين خاب رجاؤهم بكل شيء، والذين تعرضوا للإذلال المديد والتيئيس التام… وهذا مبحث قائم بذاته) بداعش، يقابله رعبٌ حقيقي لدى الأغلبية من الناس على اختلاف بيئاتها. وذلك واحد من أهداف التنظيم/ الدولة، إذ لا تُجهل وظيفة الإرعاب في تحقيق السيطرة. ويساهم إعلام متنافس ومنفلت، يبحث عن إثارة الرعشة، في صناعة ذلك الرعب بالنقل الحي لأخبار وصور التوحش الصادمة، وكأنها مساهمة منه في الترويج لهول الجماعة، بغض النظر عن المقاصد. كما أدى إلى هيمنة الرعب التخويف الذي مارسه الطرف الشيعي حينما تكلم عن الخطر الداهم، وحفَّز بـ»زينب لن تُسبى مرتين» قبل الموصل بكثير. وأخيراً، ولأن الكارثة لاحقة بشكل أخص بالجماعات المستباحة تعريفاً، والمستضعفة، كالمسيحيين والأيزيديين والشبك… وكل من يُظهر علامات اختلاف (رغم أن داعش يقتل السنة كذلك)، فقد بات هؤلاء يتلفتون وراءهم، حتى في أماكن قصية من قرى كسروان. وليس في ذلك ما يُضحك ولا ما يجوز الاستخفاف به. وعلى كل هذه وتلك، فهناك مَن لم يزل يستثمر في الإرعاب من الإرهاب، أي داعش. سلطات ودول لأنها تتناحر في ما بينها أحيانا، وأخرى لأنها تسعى لابتزاز «القوى العظمى»، تخطيطا لانتزاع مكاسب أو دفعاً لمضار… مما يعبر عن مقدار التهافت القائم. ها نحن نعود إلى أصل الموضوع!
الحياة
“داعش” هوليوودهم الواقعي… ونفسنا التي لا نعرفها/ حازم الامين
لـ «داعش» جذر غير شرقي، هو جزء من شبكة جذور يتشكل منها التنظيم، ويختلف فيها عن أشقائه، التنظيمات العنفية و«السلفية الجهادية». كما أن «السلفية الجهادية» أضعف المركبات التي يتشكل منها تنظيم «دولة الخلافة»، ذاك أن السلفية انحازت إلى جماعة «النصرة» وابتعد مشايخها عن الإفتاء لـ»داعش».
الأصل غير الشرقي لـ»داعش» هو ذاك البعد المشهدي والتراجيدي. فالقتل المصور والمُكثف بالصور يتصل بثقافة غير محلية. يتضح ذلك أكثر عندما نعلم أن لتكثيف القتل عبر تصويره وإعطائه عمقاً ملحمياً، دوراً في مسيرة الجماعة. للهلع الذي تُخلفه الصورة وظيفة. فهو ما سبق «داعش» إلى سنجار التي انهارت دفاعاتها بسهولة، وسبقها أيضاً إلى دير الزور فسلمت المدينة نفسها. والحال أن جعل الصورة جزءاً من نشاط دموي وإجرامي أمر مستدخل على ثقافة «السلفية الجهادية». «القاعدة» «البنلادنية» لم يسبق أن وظفت الذبح في نشاطها. لا بل عابت على أبو مصعب الزرقاوي مغالاته في الذبح المصوَّر. وإذا كان الأخير من افتتح زمن الذبح كـ»تقنية جهادية»، فقد قُتل قبل أن يحوله من ذبحٍ للأفراد إلى ذبح لـ»الجماعات».
«داعش» هوليوودية أيضاً، لا بل إنها تمكنت من نقل خيال العنف الهوليوودي إلى مستواه الواقعي. فالبريطاني الذي ذبح الصحافي الأميركي جيمس فولي، والذي كان يرطن الإنكليزية بلهجة لندنية، حرص على أن يُخلف مشهد الذبح المُصور ذعراً لطالما اقتربنا منه في الأفلام الهوليوودية. لا بل إن الفيلم الدعائي الذي صورته «داعش» قبل أشهر عن نفسها في مدينة الفلوجة العراقية، أعادت فيه تصوير مشاهد من المدينة مستعينة تماماً بمشاهد أخرى كانت عرضتها هوليوود في فيلم «البحث عن بن لادن».
الفارق أن هوليوود خيال و»داعش» حقيقة، وهو فارق هائل صنعته جذور غير غربية للتنظيم الدموي. فهوليوود تخاطب غير الممكن وغير الواقعي في الوعي الغربي، فيما «داعش» جعلت غير الممكن ممكناً، وهنا تكمن جاذبيتها بالنسبة إلى أشقياء غربيين قَدموا من أوروبا إلى سورية والعراق. فبالنسبة إلى هؤلاء أتاحت «داعش» أن يحولوا عنفاً افتراضياً ومشهدياً، إلى عنف حقيقي وواقعي. وكم نجد لهذه المعادلة أثراً في جرائم عادية حصلت في المدن الأميركية، أقدم عليها قاتل متسلسل أو طالب في مدرسة أو جندي سابق.
لكن «داعش» استقدمت جذور إجرام أخرى. فهي استجمعت القابلية للعنف وللقتل من كل المصادر. وهو عنف مجرد من أي قيمة وأي معنى. عنف فقط، ولا شيء غير العنف. انتزعت من البعث عنفه وقابليته للقتل، ومن العشائر نزعاتها الثأرية وضغائنها القديمة، ومن الصحراء قسوتها وخشونتها. وهي بهذا المعنى ظاهرة «برانية» لا تضرب جذورها بغير أفعالها. وهذه منتهى «الحداثة الدموية»، ذاك أن الأخيرة تستعين بكل شيء من دون أن تكون مخلصة له. تستعير من الغرب حداثة آلة القتل، ومن العشيرة شكيمتها، ومن البعث ضغائنه، ثم تعود لتقتل الغرب بآلته، ولتطعن العشيرة بأبنائها، ولتعدم الضباط البعثيين الذين قاتلوا إلى جانبها من دون أن يُصبحوا جزءاً منها.
هذه الهوية المُشكّلة من عناصر شديدة الانفجار هي ما يولد كل هذا الموت. عنف «السلفية الجهادية» «البنلادنية» يبدو بسيطاً حيالها، فهو مركب من عنصرين: «الجهادية» بصيغتها الفلسطينية، والسلفية بصيغتها الخليجية. الزواج بين هذين العنصرين أنجب تنظيم «القاعدة». من الواضح أن «داعش» مسألة أخرى. العنف بنموذجه العراقي جزء من هذه الهوية القاتلة، والعشائر المُهمشة أيضاً، والضغائن المذهبية تتقدم في هذه الهوية على أي وجهة عنفية أخرى. وهي هوية بلا ماضٍ، من دون أن يعني ذلك نفي الأصل الثقافي والتاريخي لهذا العنف. فالماضي معطى منسجم في الهويات، بينما الماضي في هوية «داعش» غير منسجم وغير قابل لأن يتعايش مع نفسه.
ثمة شيء يشبه انتحار الأشرار. السائر إلى موته يريد لغيره ميتة أشد ألماً، ويريد أن يُلوث وعي الناجين بمشاهد موتهم المحتمل. لا تدعي «داعش» أكثر من ذلك. لا تريد لأحد أن يقتنع أو أن يقبل، تريد بث الخوف فقط، وهي لا تلوح بالموت لكي يعتبر من لم يعتبر. هي تُقدم على الموت ولا تلوح به، والأسباب سابقة على حياة من تقتلهم. الأيزيديون يجب أن يُقتلوا لأنهم أيزيديون قبل أن يولدوا. لا وقت لديها لإعفائهم من الموت، ففي الطريق من الموصل إلى أربيل يجب أن يموت الجميع. لم يجر ذلك بموجب خطة، إنما جرى لأن واقعاً يمكن أن يتحول خيالاً وليس العكس. فما نُقل عن الناجين الأيزيديين من روايات عن المجزرة يجعلك تشعر بأن كليشيه «تحويل الخيال إلى واقع» انقلب ليصبح «تحويل الواقع إلى خيال».
إلى هذا الحد تبدو «داعش» غير حقيقية. فالتدرج من مشاهد القتل الفردي المصور الذي باشره الزرقاوي، إلى مشاهد القتل الجماعي المُصور أيضاً، ترافق مع استدخال مكثف للخيال الهوليودي، ومع توظيف هائل لطاقات الكراهية التي تُضمرها صحراء الأنبار لنفسها ولأبعاضها، وهذا كله يُنتج موتاً واقعياً لكنه غير قابل للتصديق.
وإذا كانت «داعش» بهذا المعنى غير حقيقية، إلا أنها، بهذا المعنى أيضاً، موجودة في كل واحد منا. ذاك أننا نعيش في زمن نحن معرّضون فيه لأن يستيقظ غير الحقيقي في أنفسنا. هذا اللاوعي الشقي الذي لم تتمكن مجتمعاتنا البائسة من معالجة صدوعه. فـ»داعش» على ما كشفت الوقائع ليست قواماً ذهنياً تشكل في مسجد أو من خبرة أو قناعة، بل هي استيقاظٌ مفاجئ لشقاء قديم غير مُدرك. فجأة وجد الرجل نفسه عنصراً في «داعش». فجأة اكتشف أن الأيزيديين «يعبدون النار» وأن جيرانه المسيحيين في الموصل «أهل كتاب» يجب أن يدفعوا الجزية أو أن يتحولوا إلى الإسلام. وفي الـ»فجأة» هذه تكمن دموية «داعش» وتكمن غير حقيقيتها، أي في أنها ليست امتداداً لشيء نعرفه عن أنفسنا، وأنها تكمن في شيء لا نعرفه عن أنفسنا.
أما هؤلاء الأشقياء الغربيون الذين يُصوروننا بكاميراتهم كقتلة وكمقتولين، فقد جاؤوا للاشتراك في مشهد ظنته هوليوود خيالياً، فجعلناه لها حقيقياً… فأي سعادة هم فيها الآن!.
الحياة