نحن بخير اطمئنوا
ميشيل كيلو
لست من أبناء الجيل الحالي . أنا من جيل ولد قبل منتصف القرن الماضي، وجمع خبراته واكتسب وعيه في خضم النضال من أجل الاستقلال الوطني، وبروز الثورة المصرية والعداء للغرب، ودخول الاتحاد السوفييتي والفكرة الاشتراكية بقوة إلى المنطقة العربية . ولا أحسبني مبالغاً إذا قلت إنني حاولت دوماً، بدرجات متفاوتة من التوفيق، دمج لحظات ثلاث في رؤيتي ومواقفي هي : الوطنية والقومية والنزعة الإنسانية/ الكونية، التي اعتقدت أنها تتجسد فيهما، وأنهما فسحتها التي يجب أن تتحقق من خلالها فينا نحن العرب، فلم أفهم الأممية إلا كبعد كوني للوطنية يجعل سائر البشر أخوتي، ولم أع الوطنية إلا كترجمة للقومية في مستوى الوطن، وأرى في القومية غير الوطنية في صعيدها العربي العام . بما أن هذه اللحظات الثلاث كانت وظلت متقاطعة متفاعلة في رؤيتي، فقد كانت في حاجة إلى حامل مشترك اعتقدت أنه الإنسان ككائن نوعي، وفي حالتي كوطني وقومي، ككائن كوني يتعين ويتساوى،عندنا وفي كل مكان، بحريته وليس بأي شيء غيرها، فهي تزيده وطنية وقومية، بينما تنمي الوطنية والقومية إنسانيته وكونيته، وبالتالي حريته وابتعاده عن أي تعصب أو انغلاق .
لست من الجيل الحالي، لو كنت منه لكان انتمائي إليه مبعث فخري وسعادتي . أليس هو من يلقي بنفسه إلى التهلكة اليوم كي يخرجنا من نار احتجاز استبدادي قتل الوطنية والقومية والكونية، واغتال حاملها : الإنسان بما هو ذات حرة وتتعين بالحرية، فإن فقدها أضاع كل شيء غير الرغبة في استعادتها، مثلما تؤكد ثورات العالم الحديثة من أجل الحرية، التي بدأت قبل عشرين عاماً هناك، في أوروبا، ثم انتقل إعصارها إلينا هنا نهاية عام ،2010 ويبدو أنه سيتواصل إلى أن يعيدها إلينا بعد أن ضيعناها من أجل أشياء أخرى توهمنا أنها أكثر أهمية منها، فلم يبق لنا بضياعها أي شيء . ولولا الجيل الحالي لما استعدنا اليوم من جديد ذلك الأمل، الذي ملأ قلوبنا عندما كنا شباناً، وجعلنا نعتقد أن خلاص العرب وحريتهم رهن بالمظاهرة القادمة، فلم نغادر الشارع أو نتوقف عن العمل والتضحية من أجل ما كنا نتوق إليه: وطن عربي حر، ومواطن فرد حر، ومجتمع عمل وعدالة ومساواة .
أتحدث عن النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي . في ذلك الزمن تكاثرت المؤامرات على سوريا والعرب . وعندما وقع عدوان السويس عام 1956 على مصر، نسف العمال خط أنبوب النفط الأمريكي القادم من السعودية، الذي يصب في مدينة بانياس الساحلية – فك الله أسرها – فهي تتعرض لهجوم عسكري منظم . يومها، أعد جيش سوريا آنذاك كل ما يلزم لدخول الحرب إلى جانب مصر، وكاد يدخلها لولا تحذير مصري صارم، ووزع السلاح على الشعب، حتى إن اللاذقية ذات الخمسة وستين ألف مواطن تلقت اثني عشر ألف قطعة سلاح ظلت في أيدي أبنائها طيلة ستة أشهر، من دون أن تسجل حادثة عنف واحدة بين المواطنين، مع أن هؤلاء كانوا يتولون حراسة الساحل كله، ومرافق المدينة الحيوية، ويسهرون الليل بالآلاف في كل مكان داخلها وفي الضواحي القريبة، بقيادة وإشراف ضباط وصف ضباط من الجيش السوري كانوا يشاطرونهم الوطنية والرغبة في الحرية . حدث هذا كله عام 1956/ ،1957 في ظل حكومة كان يقودها المغفور له صبري العسلي، ساندها في البرلمان تجمع أغلبي ضم أحزاباً متنوعة، من الشيوعيين إلى فصائل من الحزب الوطني . بعد إفشال المؤامرات، تفاعل النضال الوطني في الصعيد القومي، إلى أن أجبر الشعب والجيش جمال عبدالناصر، بطل الأمة ورمزها آنذاك واليوم، على قبول الوحدة الاندماجية، بعد أن كان متردداً أول الأمر في شأنها .
هذا التطور المتنوع، الوطني/ القومي والتصاعدي، وقع كله خلال عامين ونيف، من دون أن يكون في بلادنا نظام يسمي نفسه ثورياً أو وحدوياً . كان في سوريا شعب، وكان هناك أحزاب وصحافة حرة وبرلمان منتخب ووزارة مسؤولة أمامه وجيش وطني ونقابات عمالية حرة وفلاحون يناضلون في سبيل العدالة، وكانت الانقلابات التي تحدث لا تبطل مبدأ الحرية بل تكيف نفسها وأوضاعها معه . . إلخ، ذلك مكنّ بلادنا من تحقيق تطلعاتها خلال هذا الوقت القصير . تلك الإنجازات كانت الاستمرار الطبيعي لنجاحات وطنية ترتبت على النضال في سبيل الاستقلال وطرد الأجنبي من وطننا، الذي قرب بين فئات الشعب وصهرها في بوتقة قامت على الانتماء إلى جسدية سياسية واحدة أرضيتها الحرية . ثم، وقع شيء خطير أحل السلطة محل الشعب، وأدخل سوريا في متاهة لا تعرف إلى اليوم كيف، وما إذا كانت ستخرج منها، أهم سماتها أن الوطنية اقتصرت خلالها أكثر فأكثر على السلطة ومالكيها، وأن الشعب صار خارجها، بينما توطدت فكرة غريبة ترى أن النظام هو الوطن، وهو الشعب والأمة، فإن سقط أو ضعف وقعت الواقعة وسقطت سوريا وتخلت عن التزاماتها وأدوارها الوطنية والقومية، وانضمت إلى المعسكر الإمبريالي/ الصهيوني، وشاركت حكماً في القضاء على ما تبقى من مقاومة له في الوطن العربي، وخاصة منها حزب الله .
لست من السذاجة بحيث أبدأ بتذكير إخوتي في الحزب بوقائع التاريخ . ولست بحاجة أيضاً إلى إيراد إثباتات تؤكد أن السياسة ابنة الجغرافيا، كما كان يقول نابليون، وأنه لم يوجد ولن يوجد أبداً وضع يكون الشعب خلاله في موقع الخيانة والسلطة في موقع الوطنية . ولن أثبت أن الشعب السوري لن يتخلى عن أراضيه المحتلة أو يبيع بلاده للأجانب، وأنه كان وطنياً وقومياً قبل عام ،1963 وسيعاود سيرته هذه، تحت أي ظرف . أعتقد جازماً أن من يحمل أفكاراً كهذه عن سوريا وشعبها هو على خطأ، وأنه يجهل من هي الجهة الحقيقية، التي تضمن وطنيتنا وقوميتنا وروح المقاومة فينا ورغبتنا في تحرير أرضنا واستعادة وحدة دولتنا وسيادتها على جميع أراضينا . في النهاية، تقول التجارب اليومية إن كل من زار سوريا ولو مرة واحدة يعلم أن مواطنيها عاملوه كواحد منهم، وأنه كان بين أهله وتمتع دون منة بكرم شعبها وحبه للآخرين، ووجد نفسه في وضع آمن مريح، لا يسأله أحد من أين أتى وإلى أين يذهب، وإنما يلقى الترحاب والمودة أينما حل وحيثما ارتحل .
قبل عام 1963 بكثير، كانت سوريا تسمى “قلب العروبة النابض “ . لو فكر المرء بالتظاهرات التي خرجت عام 1955/ 56 احتجاجاً على اعتقال شابة جزائرية عادية اسمها جميلة بوحيرد، وبلغ عددها عشرات الآلاف على مدار الشهور والأعوام، لعرف حقاً معنى هذه التسمية ولوافق عليها، ولأدرك صحة ودقة فكرة قالها فيلسوف روماني هي: لكل إنسان على الأرض وطنان، وطنه الأصلي وسوريا، ولما خاف على سوريا أو منها، ولنام على حرير، لأن شعبها هو الذي يُكره حكوماته على انتهاج سياسات وطنية وقومية، وهو أكبر من أن يتخلى عن قيمه، وأنبل من أن يتظاهر بالوطنية والقومية قرابة نصف قرن، بينما يضمر عكسهما وينوي التخلي عنهما والانقلاب على الأفكار والممارسات النابعة منهما، والغدر بالقائلين بهما والداعين لهما والمناضلين في سبيلهما .
أردت التذكير ببعض ما عشته شخصياً، لاعتقادي أن الذكرى تنفع المؤمنين، وأن من لا ذاكرة له لا وعي له، ولا فائدة منه ولا رجاء فيه، وأن شعباً يمكن أن ينسى تاريخه الخاص، الذي صنعه بدمائه وتضحياته، لا يستحق هذا التاريخ وما تخلله من حرية وكرامة . لكن شعب سوريا، الذي يستحق الحرية لا ولن ينسى قيمه، التي أرسى دولته عليها، كي لا يفقد هويته ويضيع حاضره ومستقبله، ويهلك – لا سمح الله – مع الهالكين . سوريا بخير، لا تخافوا عليها .
الخليج