هل خرجنا من قوقعة الماضي ذات يوم؟/ ناصر الرباط
النقاش الدائر في العراق اليوم حول سور بغداد المزمع إنشاؤه بطول ١٠٠ كلم على طول مناطق حزام المدينة الشمالية والغربية والجنوبية، يوحي بأن القائمين على أمن العاصمة العراقية عجزوا عن إيجاد حلٍ ناجعٍ لمشكلاتهم مع تسلل السيارات المفخخة والانتحاريين من «داعش» وربما غيرها، وقرروا العودة إلى الحـــلول المجــربــة من العــصور الكلاسيكية والوسطى. فعلى رغم أن المشروع بحد ذاته لا يختلف جذرياً عن جدار إسرائيل العنصري الفاصل أو الجدار الذي يريد ترامب بناءه على الحدود مع المكسيك، فإنه في حال بغداد أكثر قروسطيةً في تفكيره، إذ يهدف إلى الإحاطة بالعاصمة وعزلها عن محيطها المناطقي في أراضي الدولة نفسها، مختلفاً في ذلك جذرياً عن النموذجين الإسرائيلي والأميركي اللذين يصدران عن فهم معاصر للفصل بين أراضي دولتين متباينتين.
على رغم ذلك، ربما أمكننا رؤية جدار بغداد كرمز مادي لواقع عربي معرفي ما زال يستند في محاكمته للأمور إلى عقلية قبل – حداثية، بل ربما قروسطية أو أقدم. أمثولة جدار بغداد هذه وغيرها من مظاهر القروسطية في الواقع المعيش اليوم على طول العالم العربي وعرضه تفتح الباب واسعاً أمام التساؤل ما لو كنا كثقافة وهوية قد خرجنا من الماضي واعتنقنا الحداثة ذات يوم، كما تدعي أدبيات عصر النهضة من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أو أدبيات المرحلة الثورية في الستينات والسبعينات، أم أننا فقط أطللنا على الحداثة لوهلة ثم نكصنا الى ماضينا المجرب والمعروف وقبعنا فيه، والعالم من حولنا يتغير بتسارع متزايد ومرعب.
لا يعني هذا التساؤل أننا نعيش في الماضي، فنحن بالتأكيد نعيش في الحاضر ونتعامل مع أدواته ونستمتع بمنجزاته ونعاني ويلاته، كما غيرنا من أمم الأرض المختلفة. لكنه يعني أننا نفكر في الماضي وننظر للأمور من خلال عدسة عقلية غابرة ما زالت مفاهيمها وأوامرها ونواهيها تسيطر على قراراتنا وردود أفعالنا وتعاملنا مع بعضنا بعضاً ومع غيرنا. هذه العقلية هي التي تحدد فهمنا للتاريخ والعلم والفكر النقدي، سلباً على الغالب وإدانةً أو رفضاً في أحيان كثيرة. وهي التي تحكم نظرتنا للآخر، أكان مغايراً وطنياً أو عرقياً أو دينياً أو جنسياً، وتؤطر علاقتنا معه: حذر وجهل وأحكام مسبقة تحتمي بسياج من ادعاء الأخلاق بالٍ ومهترئ. وهي أيضاً التي تفصل رجالنا عن نسائنا ونساءنا عن رجالنا، وتضع لكل من الطرفين قواعد صارمة لعالمين متوازيين (أكثر صرامة وتعنتاً تجاه النساء طبعاً) لا يعرفان بعضهما إلا من خلال نظرة منمطة صقلتها مفاهيم عن الشرف والرجولة والعيب والسترة تعود إلى قرون خوالٍ، يوم كان أجدادنا المتخيَّلون (أي عرب البداوة) يضربون في الفيافي ويتغازون ويتسابون ويشببون بالمهزوم منهم أو بنسائه المسبيات.
فوق ذلك كله، هذه العقلية هي التي ترغم شعوبنا على القبول بالحاكم الغالب والمستبد بغض النظر عن أهليته للحكم بدعوى أنه بمثابة أب للجميع، وحده يعرف ما يصلحهم ووحده القادر على إنجازه، وأن القيام عليه فتنة والرضا به طاعة. هناك طبعاً الكثير غير ذلك من كوابح التقدم التي تجد لنفسها مبرراً في العقلية القروسطية السائدة التي يبدو أنها، بعد ترنح بين هيمنة وأفول دام حوالى القرن، عادت مجدداً لتطغى على الفكر والسياسة والمجتمع.
لا خلاف على أن النهضة العربية التي بزغت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت محاولة جريئة، وإن كانت ساذجة نوعاً ما، للحاق بركب الثقافة العالمية التي فُهمت حينها على أنها ثقافة «عواصم النور» الأوروبية. الزخم الذي أدخلته هذه النهضة على المجال المعرفي في بلادنا لم يلبث أن اصطدم بالعقلية الموروثة السائدة. وبدلاً من هزيمتها والحلول محلها، اضطر سريعاً للرضوخ لبعض شروطها في قبول اقتباس بعض المعرفة الحديثة ورفض الكثير من مبادئها ومنطلقاتها ومعطياتها الأساسية، مثل اتخاذ العلم ميزاناً للحقيقة والإقرار بحقوق الفرد الآخذة بالتوسع (وفي شكل خاص الإقرار بحقوق الفرد الأنثوي) واعتماد ثنائية الجسد والنفس في تعريف الانسان.
اضطر المجددون، ما عدا قلة قليلة منهم، للرضوخ لتسوية معرفية أوهنت فاعلية فكرهم الحداثي واستنزفته في صراعات لا طائل منها أهمها النقاش المستعر بين الحداثة والأصالة الذي شغل الثقافة العربية لما يقارب القرن من الزمن. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فقد تكالبت على الدعوة الحداثية نفسها السلطات الاستعمارية والنيو – استعمارية والمجموعات الحاكمة التــقليـــدية والطــغاة العــسكريـون والمغامــرون السياسيون والمزايدون الأصوليون إلى أن تداعت تحت ثقل تناقضات واقعها السياسية والاجتماعية والمعرفية. وخلا المجال للعقلية القروسطية مع صعود تيارات عقائدية إسلامية في العقود الثلاثة الماضية ترفض الحداثة من أساسها، بل تناضل ضدها بعنف غير مسبوق وحمية لا تفتر، على أساس أنها غريبة وهدامة ومعادية للإسلام.
عندما نشر برونو لاتور كتابه الجدلي المهم «لم نكن أبداً حداثيين»، عام ١٩٩١، كان هدفه أن يبين أن البتر المفترض بين العلم والإيمان قبله، أو بين الطبيعة والمجتمع، ليس بتلك الحدية التي بنينا عليها نظرتنا لثقافتنا المعاصرة، وأن الحداثة المفترضة التي قطعت جذورها الدينية وانطلقت حرة من كل ارتباط تاريخي بمعرفة سابقة، ليست كذلك. ولكن لاتور لم ينف قط أن الحداثة نقلت الفكر من إطار إلى إطار آخر. كل ما فعله حقاً هو أنه «أرّخ» الحداثة بأن جعلها امتداداً لما سبقها بدل أن تكون انقطاعاً تاماً عنه وهجّنها بأن ربطها بالناس والأشياء والمفاهيم في جدلية مثلثة. عنوان كتاب لاتور للأسف ينطبق أكثر ما ينطبق علينا اليوم. فنحن، كما يبدو لي، لم نكن أبداً حداثيين، ليس بمعنى لاتور، أي بعدم قطعنا مع الماضي وخطاباته ومناهجه ومفاهيمه في تبنينا للحداثة، ولكن بمعنى أكثر بساطة: فنحن لم نلج الحداثة حقاً حتى عندما حاول بعضنا إرشادنا إلى مدخلها. فقد قاومها حراس الأصالة وتمترسوا وراء مفاهيمهم القروسطية القامعة وانتصروا على المجددين الحداثيين إلا في ما ندر، وفي مجالات ثقافية لم يهتم التقليديون بها أصلاً، كالأدب والفن والسينما، إلا من منظور منعها أو تقنينها. أما مجالات حقوق الأفراد والاجتماع والسياسة والقانون فهي اليوم كما كانت قبل مئات السنين: مقترة، مقررة سلفاً، مكممة، وخاضعة لسلاطين الفقه القروسطي ومناهجهم العتيقة.
* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
الحياة