يمكن للأعداء أن يتفاوضوا دون أن تسقط العداوة
هوشنك أوسي
كتعبير عن السأم واليأس من التخاذل الدولي والعربي والإسلامي حيال حمامّات الدم التي تعيشها سورية منذ سبعة أشهر، بفعل آلة القمع والتدمير التي يديرها النظام بمنتهى الوحشيّة والوقاحة، رفع المتظاهرون في مدينة عامودا الكرديّة، شمال شرق سورية، في إحدى المظاهرات الاحتجاجيّة، لافتة تطالب الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” بالتدخّل في سورية، لكون النظام قد حوّل الملاعب الرياضيّة الى معسكرات اعتقال وتعذيب!. ذلك أن ايّاً من المؤسسات الدوليّة، لم تفعل ما يمكن ردع رصاص النظام السوري في ان يتجه الى رؤوس وصدور المتظاهرين المطالبين بالحرية والديمقراطيّة واسقاط النظام. هذه السخريّة السوداء التي أبداها المتظاهرون السوريون تعبيراً على نقدهم وسخطهم للموقف الدولي والعربي الذي لم يرقَ بعد الى حجم معاناتهم وعذاباتهم وتضحياتهم اليوميّة التي يبذلونها على امتداد عمر الانتفاضة السوريّة، منذ سبعة أشهر تقريباً، أتت المعارضة السوريّة، لتضع العصي في عجلة تدويل الانتفاضة السوريّة. وتعرقل وتفرمل مساعي تشديد العزلة على النظام السوري.
وعطفاً على ما سلف، أقلّ ما يقال في البيان الختامي عن مجلس الجامعة العربيّة، على مستوى وزراء الخارجيّة العرب، في ما خصّ الأزمة السوريّة، وما تضمّنه من قرارات هامّة: إن الهدف الرئيس منه، هو رفع الغطاء الروسي _ الصيني عن النظام السوري، كمدخل أو كخطوة اولى نحو تدويل الانتفاضة السوريّة. إلاّ ان هذا المسعى العربي، والخليجي على وجه الخصوص، اصطدم بتسرع المجلس الوطني السوري، عبر رفضه للبيان، بخاصة الحوار مع النظام، وهو منح النظام السوري، وداعميه الروس والصينيين، توثيقاً على أن المعارضة، تتهرّب من الحلول السلميّة للأزمة مع النظام. طبعاً، موقف المجلس الوطني السوري، تدثّر بأهزوجة “الانقياد والوفاء لقرار الشارع السوري المنتفض وتضحياته، الرافض لأي حوار مع النظام”. وسنأتي على مناقشة منشأ هذا الموقف لاحقاً.
وكان متوقّعاً أن تكون مقررات الاجتماع الطارئ للجامعة العربيّة، بمثابة “شروط تعجيزيّة”، بالنسبة للنظام السوري، وأنه سيرفضها، جملةً وتفصيلا. ذلك انه لن يتخلّى عن المعالجة الامنيّة، ولن ينهي المظاهر المسلّحة، ولن يجنح للحوار مع المعارضة السوريّة، وتحديداً مع المجلس الوطني، ناهيكم عن تولّي رئيس الوزراء، وزير الخارجيّة القطري رئاسة اللجنة المعنيّة بالاتصال بالنظام وقوى المعارضة السوريّة. وكان بإمكان الأخيرة، تسجيل هدفٍ ذهبي وقاتل في مرمى النظام على الملعب الروسي _ الصيني، بقبول مقررات البيان، باعتبارها الخطوة الاولى في مسيرة الاعتراف الرسمي بالمجلس الوطني السوري، عربيّاً ودوليّاً، كأحد أبرز كتل المعارضة السوريّة. إلاّ أن الانصياع للضغط التركي، هو الذي كان وراء رفض المجلس لبيان الجامعة العربيّة. وقد يتساءل أحدهم؛ ما علاقة تركيا برفض المجلس الوطني لمقررات الجامعة العربيّة؟. يكفي جواباً: إن تركيا، وبعد فشل مساعيها، في تليين موقف النظام من مشاركة جماعة الاخوان المسلمين في السلطة، ومنحها بعض الوزارات السياديّة، كما تناقلته وكالات الانباء، ثم فشل انقرة في فرض الاجندة التركيّة على النظام بالتهديد والوعيد، عبر نماذج حلّ يخرج النظام من أزمته، حين كانت في بدايتها، ويضمن دخول الاخوان في العمليّة السياسيّة، لذا، فأن أيّ نجاح لأيّ حلّ، خارج المطبخ التركي، سيطيح بالمساعي التركيّة الراميّة لفرض نفسها، أوروبيّاً وأميركيّاً، على أنها الممسكة بزمام المبادرة في سوريا، وأنها القادرة على ضبط إيقاع اللعبة، وصوغ قواعدها. وبالتالي، ولو كُتِبَت لمبادرة الجامعة العربيّة النجاح، فهذا سيعني، من جملة ما يعنيه، الفشل المريع والذريع للدور والتدخّل التركي في شؤون وشجون المعارضة السوريّة. وبالتالي، معارضة المجلس الوطني لقرار الجامعة العربيّة، منشأه تركي، بامتياز. والحال هذه، ليست هنالك أيّة مبالغة في القول: ان الرابحين من رفض المجلس الوطني لمقررات الجامعة العربيّة هو النظام، وروسيا والصين وايران من جهة، وتركيا من جهة اخرى، والخاسر هو المجلس الوطني، والمعارضة السوريّة ككل. ذلك ان قبول المجلس وترحيبه، حتّى ولو كان شكليّاً، بنصّ البيان، كان سيضع النظام السوري في موقف حرج أمام داعميه الروس والصينيين.
أثناء اندلاع الحروب بين الدول والأحلاف والجماعات والاحزاب وحتّى الأشخاص، وعلى مرّ التاريخ، دوماً كان هنالك حيّز للتفاوض والحوار، سعياً للخروج من الأزمات بأقلّ الأكلاف وأكبر نسبة من الأرباح. في السياسة، وأثناء اندلاع الحروب واشتداد الازمات، الكلام عن الضحايا والوفاء لدمائهم، لا يكون بزيادة منسوب الدم، وزيادة جيش الشهداء، بشكل مباشر أو بغيره، بل بمحاولات إخراج البلاد من دوّامات الدم. وإلاّ لماذا ارتضى الرسول الكريم محمد صلح الحديبيّة!؟. وبعد ان تعزز واشتدّ عضد المسلمين، فتحوا مكّة، وأطاحوا بالاصنام، وكانت الثورة التي غيّرت مسار تاريخ المنطقة والعالم.
وفي السياق نفسه، لا يستقيم كلام جماعة الاخوان المسلمين، ورفضها الحوار مع النظام، بحجّة ان (الشارع عاوز كده)، ولأن عدد ضحايا الانتفاضة تجاوز خمسة آلاف شهيد، مع قبول الجماعة الدخول في حوار مع النظام، قبل الانتفاضة، عبر الوسيط التركي (حزب العدالة والتنمية)، وقبله الوسيط الاردني (الاخوان المسلمين) وبل أوقفت لفترة، ناشطها المعارض للنظام، رغم ان الاخير سحق تمرّد الاخوان المسلّح، وقتل ما يزيد عن 40 الف شخص، في حماة وحلب ودمشق وادلب، نهاية السبعينات ومطلع الثمانيات؟. أوليس قبول الاخوان التحاور مع النظام، وقتئذ، خيانة لدماء شهداء مجزرة حماة وتدمر وصيدنايا؟!، طبعاً لا.
قصارى القول: قد يكون قبول الحوار أحد أبرز أدوات الثورات السلميّة لقلب انظمة الحكم، إن أجاد الثوريون استخدامها بمهارة وحنكة ودهاء. وقد يكون الحوار وسيلة ضغط، وتجريد النظام من الصدقية والشرعيّة، وزيادة عزلته. وهذا ما لا يريد بعض أطياف المعارضة فهمه وتجربته. وبل “يخوّنون” أصحاب هذا الخيار. ومسألة قبول المعارضة شيء يرفضه النظام سلفاً، يعزز قوّة النظام، لا يضعفها.
بالنتيجة، اشترك المجلس الوطني السوري المعلن عنه في اسطنبول، من حيث يدري أو لا يدري، في تقويّة موقف النظام السوري لدى داعميه، بعد ان كانت اسهمه تتراجع في البورصة الروسيّة _ الصينيّة، من جهة، ومن جهة اخرى، عرقلت مساعي الاعتراف العربي بالمجلس الوطني، كأحد أبرز كتل المعارضة السوريّة. ويخشى ان استمرار آلة النظام السوري في قمح حركة الاحتجاج، تحت التغطية الروسيّة _ الصينيّة، قد تودي بالانتفاضة، وتقتل فرص التفاوض مع النظام، وصولاً لبتر اذرعه الامنيّة وتجفيف منابعه الاستبداديّة وتفكيك منظومته، ولو تدريجيّاً. وبالتالي، كل الخشية ان يصل الحال بالمعارضة السوريّة الى انعدام الفرص المتاحة لديها حاليّاً، وتُجبر على الدخول في حوار مع النظام، بشروط ومطالب أقلّ بكثير مما هو متاح ومتوفّر الآن.
ولا يمكن اعتبار هذا الكلام، من صنف عدم الدعوة الى اسقاط النظام، بل هي الدعوة الى اقتلاعه، وتجفيف منابعه، ولو تباعاً وعلى مراحل، وبأقلّ الاكلاف، حتّى لو اضطرّ الامر للتفاوض معه. فحتّى الأعداء يتفاوضون، دون ان تسقط العداوة. ثم من قال: إن التفاوض مع النظام، هو قبول ورضوخ وإذعان واستسلام له. ومن قال: إن التفاوض مع نظامٍ، من طينة النظام السوري، ليست بحرب تحرير سياسي ومجتمعي وقانوني للدولة من دولة الامن والشبيّحة، حتّى لو كانت هذه الحرب طويلة الأمد؟.
المستقبل