الفيلسوف والمفكر والشاعر التونسي فتحي المسكيني: وعد الدولة القومية بالحداثة لم يعد كافياً وثمة حاجة إلى انتماء جديد
روعة قاسم
اعتبر الفيلسوف والمفكر والشاعر التونسي فتحي المسكيني في حواره لصحيفة «القدس العربي» أننا لا نمرّ نحو «شرق أوسط جديد» (حسب تعابير غربية عنيفة وكولونيالية) بل نحو وضعية انتماء من نوع جديد، لم يعد فيها وعد الدولة القومية بالحداثة كافياً. كما اعتبر أن الخارج ليس عدوّا بالضرورة فنحن، في رأيه، مُعَوْلَمون بلا رجعة، ومن ثمّ فإنّ التفكير في المشاكل الكبرى هو تفكير عالميّ أو لا يكون. وكلّ تفاوض محلّي عن مشاكلنا، في رأيه، هو عمى تاريخي عن طبيعة مستقبل هذه الشعوب وما ينقصنا هو بالتحديد تمرين جديد على العالميّة. كما اعتبر المسكيني أن الإرهاب ليس «فتنة» أزمة ولا «عنفاً» بل هو ظاهرة «عدميّة» تتعلق بانهيار سلّم القيم التي قامت عليها فكرة الإنسانية الحالية. كما اعتبر أن معارك الهوية انتهت وبشكل مؤلم لأن «الثورات» الجارية منذ حين ـ وهي في رأيه ثورات وليست مجرد انتفاضات ـ لا يمكن إخمادها كما تعوّدت الدولة الأمة على فعل ذلك في الفترة الدكتاتورية من دول الاستقلال الوطني.
وفيما يلي نص الحوار:
○ في العالم العربي اليوم صراعات متعددة الأشكال والأبعاد، في أيّ سياق يمكن أن نضعها؟ وإلى ماذا تؤسس هذه الأزمات وهل نحن أمام شرق أوسط جديد؟
- «نحن» كثيرا ما نستعل مصطلح «العالم العربي» دونما مساءلة خاصة. والحال أنّه علاوة على أنّ هذه تسمية «غربية» معاصرة، نحن في اختلاف عميق حول معنى «العالم» أو معنى «العروبة» في اللحظة الراهنة. قد جاء الوقت كي نأسف على ما كان يتمتّع به أسلافنا من اتفاق أخلاقي عميق حول انتمائهم وقدرتهم على تدبير صراعاتهم من الداخل، أي بوصفها حسب عبارة سعيدة لبول ريكور «نزاعات تأويلية»، نعني حول أفق الفهم المناسب أو الأليق لأنفسهم أو لنمط كينونتهم في «العالم». إنّ مفهوم العالم قد تغيّر بشكل مرعب. كما أنّ «عروبة» انتمائنا إلى أنفسنا قد اهتزّت بشكل حادّ. ولذلك علينا أن نسأل: هل نملك حقّا مشاكلنا؟ إنّ المشاكل ثروة رمزية لا تسيطر عليها الشعوب إلاّ نادرا. والحال أنّنا منذ قرنين تقريبا ونحن نستورد مشاكلنا، ثمّ نحاول في يأس واضح ومكرّس أن نعثر لها عن حلول ملائمة. علينا أوّلا أن نستحقّ مشاكلنا؛ ثمّ عندئذ يصبح السياق الذي تُطرَح فيه تلك المشاكل قابلا للتوصيف. وكإجابة مؤقتة يمكننا أن نجازف بالقول: إنّنا لم نفعل إلى حدّ الآن سوى خوض تمارين واسعة النطاق في ترجمة مشاكلنا في معجم الهويّة. والحال أنّ «العالم العربي» تسمية تشكيليّة لا تتضمّن بالضرورة أيّ براديغم هووي للانتماء. إنّ صراعاتنا هي في بنيتها مشاكل «عالميّة» وليست «عربيّة» إلاّ من جهة الموضوع فحسب. وطالما نحن نعتبرها مشاكل خاصة «بنا»، أي بوصفها مشاكل هووية، فنحن لم نبدأ بعدُ في استحقاقها، فما بالك بالتفكير الجدّي في معالجتها. نحن على الأرجح في لحظة انتقال بنيوية من أفق الدولة القومية التي عشنا فيها إلى حدّ الآن ـ والتي دخلت في أزمة عميقة منذ أن فشلت دول الاستقلال الوطني في وعودها «الحداثية» ـ إلى أفق مجتمعات معولمة لم تعد فيها دولة الهوية هي السقف الرمزي للتعبير عنها ومن ثمّ لنمط المشروعية الذي تؤسّس عليها سلطتها. ولذلك نحن لا نمرّ إلى «شرق أوسط جديد» (حسب تعابير غربية عنيفة وكولونيالية) بل نحو وضعية انتماء من نوع جديد، لم يعد فيها وعد الدولة القومية بالحداثة كافياً.
○ كمفكر وشاعر أين يلتقي الشعر والفلسفة وأين يفترقا؟
- ما يجمع بين الشعر والفلسفة هو ما سمّاه نيتشه ذات مرة «باثوس المسافة». إنّ اختراع الحداثة الأكبر هو ظاهرة «الحياة العادية» أو اليومية، حيث يقضي الأفراد أعمارهم دون أيّ قدرة على الانتماء الأصيل إلى أنفسهم. وكلّ ما هو «عاديّ» أو «يومي» هو خال من المسافة. وليس من الصدفة أنّ الشعر والفلسفة يوجدان على حدود الحياة اليومية ولا ينتميان إليها إلاّ عرضاً. يقول فتغنشتاين: «ما يمكن أن يُشار إليه لا يمكن أن يُقال». يقف الشعر كما الفلسفة في خانة المشار إليها في أفق ثقافة أو عصر ما. ولذلك فالشعر والفلسفة لا «يقولان» شيئا بحصر المعنى، نعني في مصطلح «علوم الطبيعة» التي تحوّلت في العصور الحديثة إلى مقياس داخلي لكلّ ادّعاء للحقيقة. هما «يشيران» فقط إلى ما لا يمكن قوله من طرف شعب ما أو ثقافة ما أو عصر ما. ولذلك يقول فتغنشتاين:»إنّ حدود لغتي هي حدود عالمي». لكنّ هذا الإثبات لا يصدق إلاّ على علوم الطبيعة وعلى كلّ خطاب حول الحقيقة. أمّا الشعر فهو مثل الفلسفة لا يعدنا بشيء، بل فقط يشير إلى ما يتخطى حدود لغتنا في كل مرة. ولأنّنا لا نوجد أبدا داخل لغتنا كما داخل قفص مغلق، فنحن لا نستطيع أبدا أن نغلق اللغة علينا. نحن كائنات من الزجاج الأخلاقي الذي يرى نفسه في كل اتجاه، رغم كونه لا يقول أكثر ممّا تسمح به لغته. كلّ قصيدة، مثل كل فكرة رائعة، هي إشارة إلى ما لا يمكن قوله في حدود مؤسسة الحقيقة التي يعتمد عليها مجتمع ما في فهمه ذاته أو في السيطرة على العالم من حوله.
○ كيف تقيّمون اليوم وضع الجامعة التونسية وهل نجحت في تخريج نخب فكرية قادرة على تحريك المشهد الراكد؟ وعلى إعادة توجيه الثورة إن صح التعبير؟
- يقول أفلاطون في نصّ يُعرف باسم «الرسالة السابعة» (326 أ ـ ب):» إنّ الجنس البشري لن يمكنه أن يضع حدّا لمصائبه قبل أن ينجح عِرْقُ الذين يُقبلون بكلّ حقيقتهم على الفلسفة، في الوصول إلى السلطة السياسية، أو قبل أن يُقبل حكّام الدول بكلّ حقيقتهم على الفلسفة، وذلك بفضل تقدير إلهيّ ما.» ـ هذا الأمر الأخلاقي القديم يجري في عروق كلّ متفلسف مهما كان شأنه، وعليه قامت فكرة «الجامعة» في تقاليد الفلسفة الغربية: إنّ «الجامعة» هي موضع إنتاج المعنى الكوني في ثقافة ما. لكنّ «تقييم اليوم» ليس بالضرورة في علاقة مع «ماهية» الجامعة بعامة ولا حتى مع مستطاع الجامعة التونسية. لا يجب أبدا أن نبتزّ أيّ تقاليد جامعيّة باستعمال وضع «الأزمة» ماهيةً لها. أزمةُ أيّ جامعة هي جزء من عالم الحياة الذي تقف داخله. وما ينبغي أن نتهمه ليس الجامعة بل أفق المعنى الذي تقف في نطاقه. نعم، نجحت الجامعة التونسية «في تخريج نخب فكرية قادرة على تحريك المشهد الراكد وعلى إعادة توجيه الثورة إن صح التعبير»…وهذا أمرٌ لا يُقاس من الداخل. بل إنّ نجاح الكفاءات التونسية في صلب الجماعات العلمية العالمية في أوروبا وبقية العالم هو الدليل المؤسساتي على نجاح الجامعة في تأدية مهمّتها. إلاّ أنّ الجامعة ليست مهمّة فقط. ثمّة مطلب أخلاقي أكثر خطورة يخيّم على كلّ جامعة: أنّها لا تسيطر على معنى المعارف أو العلوم التي تنتجها. ومن ثمّ فإنّ مهمّتها تظلّ مهدّدة بأفق مجتمعي لا يؤمن بها. لقد انتقلت الدولة الأمة من دولة الشعب إلى دولة المجتمع، ومن ثمّ لم يعد يحقّ للجامعة «الوطنية» أن تدّعي أيّ صلاحية قوميّة. لم يعد يحقّ للجامعة أن تنتج أيّ «نخبة» بعينها. من دون مشروع أخلاقي «قومي»، أي يتكلم باسم هويّة تاريخية بعينها لشعب من الشعوب، لا يمكن للجامعة أن تنتج «نخبة» وتقدّمها إلى المجتمع باعتبارها الهيئة المسؤولة عن الخلاص. إنّ انتظار ظهور نخبة مكلّفة بالمصير هو نفسه تصوّر اهتزّ مع اهتزاز مفهوم «الشعب» ودولة الشعب التي قامت عليه. من أجل ذلك لا يمكن «إعادة توجيه الثورة» بالاعتماد على النخب. علاوة على أنّ النخبة إلى حدّ الآن هي عبارة فضفاضة ولا تسيطر على دلالتها.
يقول هيدغر في خطاب العمادة الذي عنوانه «إثبات الجامعة الألمانية لذاتها»:»ذلك بأنّ الأمر الحاسم في فعل الزعامة ليس هو مجرّد المشي في المقدمة، بل هو القوّة التي تمكّن من المشي وحيداً، وليس ذلك عناداً أو رغبةً في الحكم، بل بمقتضى تقدير جدُّ عميق وتعهّد واسع النطاق».
هل لدينا اليوم من يجازف بالمشي وحيدا نحو مستقبل أمّة برمّتها؟
○ أين دور المثقف اليوم في كل ما يحصل في العالم العربي وأين النخب ولماذا القرار الأول والأخير يعطى للسياسي والعسكري ويرتهن للخارج؟
- حين تخيّم عتمةٌ ما على دور «المثقف» فهذا يعني أنّ المشكل ليس صحّيا، نعني غير ناتج عن حراك تاريخي داخليّ في مسيرة مجتمع ما. وهذا النوع من التساؤل الإنكاري حول دور «النخب» هو جزء من تصوّر صامت يقوم على ابتزاز الثقافة باسم المطالب السياسية للشعوب. علينا أن نميّز بين مهامّ الثقافة ومعارك السياسة، والخلط بينهما ليس بريئا أبدا. لطالما تعاملت الدولة القومية مع المثقفين من جهة الابتزاز الأخلاقي لمهمّتهم: فهم إمّا «مع» دولة الهوية، دولة الزعيم الأوحد، الملهم، المرشد، وإمّا أنّها «ضدّ» رسالته «التاريخية» ومن ثمّ تسلّط اللعنة الهوويّة على المثقفين بوصفهم أعداء لأمّتهم، أمّا بعد سقوط دولة الهوية الديكتاتورية وأخذنا نعوّضها بحكومات ما بعد الثورة (من دون تغيير حقيقي لمنطق الدولة) فقد بدأ ابتزاز المثقفين باسم الدور الذي يجب أن يؤدّوه في تصحيح مسار الثورة أو توجيهه. لكنّ مفهوم «الدور» نفسه ينبغي مراجعته. هذا التصوّر المسرحي أو حتى الكوميدي لمنزلة المثقف لم يعد له مكان. لا يفشل المثقف إلاّ حين نريد منه أن يتحوّل إلى سياسي أو حتى إلى عسكري. وهو متى قبِل هذا التحدّي فهو مثقف فاسد أو مستقيل. المثقفون لا «دور» لهم؛ بل فقط «مهمّات» عليهم إنجازها بقطع النظر عن أيّ برنامج حكومي أو رسمي للواجب. والمثقف الذي ينجز مهمّته هو ينجز مطلباً داخليا في مسيرة الثقافة الروحية أو الرمزية في أفق المجتمع أو الشعب الذي يقبل الانتماء إليه. وإذا كان «القرار الأول والأخير يُعطى للسياسي والعسكري» فهذا أمر يتعلق بمنطق السلطة ولا علاقة له بالثقافة إلاّ بشكل غير مباشر. نعني: ثمّة ثقافة «عميقة» (سلّم القيم الأساسية أو مصادر النفس في أفق شعب ما) هي التي تمنح السياسي أو العسكري أولويّة موهومة على المثقفين؛ وشعوبنا جاهزة لذلك، رغم كل ضجيجها حول دور المثقفين. هذه شعوب لا تنتظر الخلاص من المثقفين؛ بل هي تحرمهم سلفاً من الاضطلاع بمهمّتهم بسبب ما تسلّطه عليهم من رقابة أخلاقويّة ولاهوتويّة مقيتة على حرية التعبير أو على حرية الاستعمال العمومي لعقولهم. أمّا عن «الارتهان للخارج» فلا يجدر بنا أن نواصل فهم معنى «الخارج» في معجم الدولة القومية التي تزعزعت وفقدت نجاعتها التاريخية. الخارج ليس عدوّا بالضرورة: نحن مُعَوْلَمون بلا رجعة، ومن ثمّ فإنّ التفكير في المشاكل الكبرى هو تفكير عالميّ أو لا يكون. وكلّ تفاوض محلّي عن مشاكلنا هو عمى تاريخي عن طبيعة مستقبل هذه الشعوب. ما ينقصنا هو بالتحديد: تمرين جديد على العالميّة.
○ من أبرز التحديات التي تواجه واقعنا اليوم الإرهاب، فهل يمكن اعتباره نتاجا لضياع الهوية الحقيقية؟ وكيف يمكن معالجتها فكريا وفلسفيا ودينيا في منظوركم؟
- الإرهاب ليس هوّية لأحد. إلاّ أنّه يمكن أن يكون نتاجاً لوضع هوويّ مأزوم. كنت قد حاولت البحث عن إجابة فلسفية عن سؤال «ما هو الإرهاب ؟» في مقالة مطوّلة منذ سنة 1997، وأُعيد نشره سنة 2001 في كتابي «الهوية والزمان. تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن» (بيروت، دار الطليعة) قبل أن يصبح هذا السؤال من المعاني المطروحة في الطريق على حدّ عبارة الجاحظ الرشيقة. وكانت الفكرة العليا هي أنّ الإرهاب ليس «فتنة» (في معنى أزمة الملة) ولا «عنفاً» (في معنى أزمة الدولة الحديثة) بل هو ظاهرة «عدميّة» تتعلق بانهيار سلّم القيم التي قامت عليها فكرة الإنسانية الحالية، وليس بكمّية التدمير التي تحرّكها. إنّ الإرهاب من ظواهر المستقبل. وبهذا المعنى هو ظاهرة «ما بعد ـ حديثة» تعلّق صلاحية كلّ من الملة والدولة الحقوقية في نفس الوقت. ولذلك فالإرهاب ليس دينيا (أو إسلامويّا) إلاّ عرضاً. وطالما نحن لم نتصدّ بالمساءلة العالميّة لماهية الإرهاب، نعني لنمط السؤال عن معنى الكينونة الذي يفترضه في نطاق عصر التقنية كعصر ميتافيزيقي من نوع جديد، فنحن نؤجّل دونما انقطاع إمكانية خوض مناظرة شرسة معه. لا توجد «هوية حقيقية»، بل كما أشار إلى ذلك إدوارد سعيد، ليس ثمّة منذ الآن إلاّ هويات «هجينة». ومن ثمّ كلّ تحدّيات الإرهاب اليوم هي تحدّيات هجينة، أي بلا ماهية.أمّا «كيف يمكن معالجتها فكريا وفلسفيا ودينيا» فليس على المثقفين غير متابعة عملهم الأليق بهم: تحرير أكثر ما يمكن من إمكانيات الحرية في عالم الحياة المتاح في هذا العصر ما بعد الحديث. نعني رسم الخط الفاصل، كما نبّه على ذلك الفيلسوف الإيطالي المعاصر أغمبن: بين «الحيوان» و»الحياة». ربما إلى حدّ الآن لم نعرف إلاّ دولة الحيوان؛ علينا أن نتمرّن منذ الآن على دولة الحياة.
○ ما هي أبرز المحاور الفلسفية التي تشتغلون عليها اليوم وما أسباب ارتباطكم بالفيلسوف الألماني هيدغر؟
- ما أنا بصدد الاشتغال عليه اليوم هو ترجمة كتاب هابرماس العمدة: «نظرية الفعل التواصلي» وقد فرغت للتوّ من نقل المجلّد الأوّل منه. وأنا أعتبر أنّ الترجمة هي التمرين الفلسفي الحقيقي راهنا؛ وما عداه هو اعتياش على فتات الترجمات من دون قدرة على خوض معركة تأويلية عميقة مع مشاكلها. لا يتعلق الأمر بالتنظير للترجمة أو بالحثّ الأخلاقي أو المنهجي عليها من أجل سدّ ثغرات في المكتبة الفلسفية أو الفكرية بالعربية. بل بشيء آخر أكثر جسامة: إنّ الترجمة هي نمط التفلسف الحالي. ولا يجب أن نستعمل الترجمات الرديئة أو التقنية باعتبارها دليلا ضدّ ماهية الترجمة. إنّ الرداءة هي دوماً جزء من الاستعمال العمومي للعقل. وما سمّاه كانط «العقل الكسول» وما سمّاه هيدغر «الهُمْ» هو في الأغلب الأعمّ العقل اليومي الذي يدير شؤون الحياة الثقافية في مجتمعاتنا المعاصرة. أمّا سبب «ارتباطي بالفيلسوف الألماني هيدغر» فهو في الحقيقة جزء من ارتباطي بكلّ ما هو «ألماني» في الفلسفة منذ كانط: نعني بذلك السيطرة على النتائج الفلسفية لما سمّاه جان غرايش، أحد شرّاح هيدغر الفرنسيين المرموقين، دخول الإنسانية الحديثة في «العصر التأويلي للعقل». ولكوننا نحن العرب نتوفّر على ذاكرة تراثية عميقة ليس لنا اليوم ولا ينبغي أن يكون لنا معها إلاّ علاقة «تأويليّة» بالمعنى النيتشوي لهذا المصطلح، أي علاقة إبداعيّة جذرية، فإنّي ولّيت وجهي نحو الفلسفة الألمانية من كانط إلى هابرماس بحثا عن أكثر ما يمكن من أدوات التأويل التي تحتاج إليها ثقافتنا العالمة الحالية. لكنّني لا أعتبر ذلك مجرّد تمرين مدرسي أو مجرّد إنتاج «ثقافي»؛ بل أعتبر ذلك نمطاً عسيرا ومخصوصا من التفلسف الخاص بنا في هذا الحقبة من تاريخ عقولنا. وهيدغر، خاصة كما يتكلم في كتابه العظيم، «الكينونة والزمان» (1927)، والذي وُصف في الغرب بأنّه أكبر حدث فلسفي منذ كتاب هيغل «فينومينولوجيا الروح» (1807)، والذي كنت خصّصت له أوّل عمل لي في الدراسات العليا سنة 1987، ـ هيدغر هذا ليس شخصاً أو مجرد «عميد» في الحقبة النازية، بل هو أفلاطون القرن العشرين: حيث أنّ الأغلبية الساحقة من المصطلحات والتحدّيات الفلسفية التي تهيمن على نمط اشتغال الفلاسفة في العالم راهنا، في أيّ بقعة من عصر التقنية، هي متأتّية من نصوص هيدغر. ولذلك فإنّ ترجمة «الكينونة والزمان»، أو ترجمة بعض أهمّ النصوص التي تركت بصمتها على التقليد الفلسفي العظيم الذي أسّسه الألمان من كانط إلى اليوم، مثل «الدين في حدود مجرد العقل» أو «جنيالوجيا الأخلاق» أو «نظرية الفعل التواصلي».. هو موقف فلسفي واع بذاته، وليس مهنة. نعني: نوعا مخصوصا من الاضطلاع بمشاكلنا الروحية والتأويلية العميقة بطريقة «فلسفية».
○ تطرحون في كتابتكم الفلسفية إشكاليات عديدة منها الحرية والهوية فكيف يمكننا معاجلتها فلسفيا؟
- يبدو أنّ معارك الهوية قد انتهت. وبشكل مؤلم. ذلك أنّ «الثورات» الجارية منذ حين ـ وهي ثورات وليست مجرد انتفاضات يمكن إخمادها كما تعوّدت الدولة الأمة على فعل ذلك في الفترة الديكتاتورية من دول الاستقلال الوطني ـ ليس لها في الأغلب الأعمّ من نتيجة جليلة حاسمة سوى هذا النوع من الاقتناع: أنّ إسكات الشعوب أو تخديرها بالحميات الهوويّة أو القومية لم يعد ممكنا. وهذا الشعور بالمسافة المؤلمة عن كلّ ما هو هوويّ سوف يصل إلى أيّ مكان من جغرافيا الدول لدينا. هذا أمر مؤقت فحسب. وعبثاً تحاول بعض الدول ممارسة العمى التاريخي عمّا تريده الشعوب: إنّها تريد أن تتحوّل إلى «مجتمعات» لا تستحيل فيها «الحياة» ولا تقوم على مجرّد «الانتماء» فقط. ليست الحرية غير شكل الحياة فحسب؛ ما عدا ذلك هو ضجيج هوويّ.
○ هل هناك وصفة فكرية وثقافية يمكن أن تساعد على تحقيق النهضة الفكرية العربية على أسس صحيحة وما الذي يصنع الفيصل في رأيكم بين تجارب الدول الناجحة والفاشلة؟
- كان القدماء، ـ ونيتشه أعجبته هذه الفكرة في شبابه ـ يميلون إلى اعتبار الفيلسوف «طبيباً»، وإن كان ذلك ليس للأبدان فقط. وهذا التصوّر الطبّي لصورة الفيلسوف اعتنقها المسلمون وذهبوا إلى حدّ الحديث عن «طبّ روحاني» يكون مقابلا لطب الأبدان. وبناءً على هذا النوع من الاستعارة العلاجيّة أمكن التفكير في مطالبة المثقف بــ»وصفة فكرية وثقافية» للمشاكل التي تحفّ بنا. لن نناقش المسائل الإبستيمولوجية التي تنجرّ عن نقل نموذج الطب إلى ميدان الفكر أو الثقافة؛ لكنّنا لن نغفل عن التنبيه إلى أنّ هذا التصوّر الطبّي يفترض أيضا في المقابل أنّ مشاكلنا هي بمثابة «أمراض» وأنّنا «مرضى» تاريخيّون. وأنّ شفاءنا يتمثّل في إرساء «نهضة فكرية عربية على أسس صحيحة». ولكن من قال إنّنا لم ننهض بعدُ إلى حدّ الآن؟ وإلى أيّ مدى يليق بنا ـ وبتاريخنا الرمزي الواسع النطاق ـ أن نستلف نموذج «النهضة الإيطالية»مقياساً لنهضتـنا؟ نعني: مقياس التجديد في «الفنون والتقنيات» بوصفه هو ماهية الحداثة. هل نحن جاهزون فعلاً لاعتبار «الفنون والتقنيات» هي ماهية المستقبل؟ ومن قال إنّ توصيف الإنسانوين الإيطاليين في القرن الرابع عشر بأنّ نمط الانتقال من «عصر الظلمات» إلى «الأزمنة الجديدة» إنّما يتمّ بالعودة إلى النصوص الكلاسيكية اليونانية والرومانية ـ هو توصيف لم يفقد اليوم وجاهته؟ ثمّ: من يريد حقّا أن تقع نهضة «فكرية»، وليس «أخلاقية» أو «دينية» أو «سياسية» بحصر المعنى؟ هل سمعة «التفكير» (وخاصة التفكير الحرّ) جيّدة ولا غبار إليها إلى هذا الحدّ؟ وهل نحن متفقون اليوم عن معنى أن يكون المرء أو العقل «عربيّا»؟ وذلك بعد كل ما وقع من تقطيع لأوصال «الدولة الأمة» وتحويلها إلى تهمة هوويّة؟ ـ أمّا عمّا «يصنع الفيصل في رأيي بين تجارب الدول الناجحة والفاشلة» فهي بلا ريب وضع الحريات. ليس هذه الحرية أو تلك ـ كلّ دولة يمكن أن تسمح بجملة من الحريات الأساسية، ليس لأنّها حريات «بما هي كذلك»، بل بوصفها جزءً لا يتجزّأ من منظومة السلطة التي تستمدّ منها تلك الدولة مشروعيتها العميقة، مثل حرية المعتقد أو العمل، الخ… ـ بل أعني بالتحديد الحريات الحرة، أي تلك التي يختارها «المواطنون» (وليس «الرعايا») بقطع النظر عن منطق الدولة الذي يترصد كلّ استعمال عمومي للحرية. وبعبارة حادّة: ما يفصل بين «الدول الناجحة والفاشلة» هو مدى قدرتها أو استعدادها لتحمّل حرية مواطنيها، وذلك يعني عندنا: مدى قدرتها أو استعدادها لتحمّل ظهور الفلاسفة على أرضها. ـ إنّ الفلسفة هي فنّ تحرير الحرية في أيّ مكان تحكمه دولة ما، من كلّ ما يمكن أن يعوق استعمال الناس لعقولهم. وهذا هو الامتحان الحقيقي في وجود الدول: في مدى نجاحها أو فشلها في اختراع الحياة «القابلة للحياة» كما تقول فيلسوفة الجندر الأمريكية جويت بتلر، التي عملت منذ فترة على ترجمة كتابها المثير «مشكلة الجندر». نحن مدعوّون إلى تحويل عميق في «جندر» الشعوب التي ننتمي إليها، فهي لم تعد تستطيع تحمّل المزيد من السجون الهووية.
القدس العربي