كمال اللبواني

آفاق الثورة


د. محمد كمال اللبواني

 (( قل  لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ))

ظاهر الصراع الدائر على الأراضي السورية اليوم ( و الذي لا يريد البغض تسميته بالثورة )، هو صراع بين مجموعات شباب وبين أجهزة سلطة رسمية وغير رسمية .  تستخدم فيه السلطة كل أشكال القمع ، ويستخدم الناشطون كل أنواع النضال والمقاومة .

لكن الرصيد الرمزي لكل طرف في هذا الصراع عميق جدا وبعيد أكثر كثيرا مما براه من لا يملكون بصيرة في قراءة التاريخ . فالنظام اليوم بشخوصه ليس هو من صنع ما نحن عليه ونريد تغييره ، بل هم أشخاص اعتباطيون ، ارتضوا لأنفسهم المكانة

التي دفعتهم شروط حياتهم وظروفهم إليها ، فوجدوا أنفسهم وهم يسعون نحو زيادة حصتهم من الثروة والسلطة ،  في أمكنة ( كانوا يحسدون عليها ولم يعودوا كذلك ) ، بينما ظروف حياة بقية أفراد الشعب دفعتهم نحو الثورة على أوضاعهم  دونما اختيار

لهم في ذلك أيضا ، لكن من كان يحلل ويدرس ، هو فقط من كان يستطيع اختيار موقعه بين هذه الاصطفافات .

إن نوع نظام الحكم في سوريا ليس نادرا ، فهو نموذج عن الأنظمة الشمولية ، التي سادت في أكثر من نصف العالم ونصف العالم  العربي ، وهو لا يختلف عنها ربما إلا في الدرجة ، انه نظام الحكم العسكري الأمني الشمولي الستاليني ،  الذي تحتل فيه

الدولة كل الحياة الاجتماعية , ولا تترك أي هامش حرية للفرد أو للمجموعات لا  الأهلية ولا المدنية ، والذي سوف يتجه طبيعيا نحو الفساد والاستبداد  ، ثم مركزة هذا الفساد ، و مركزة ملكية السلطة ، والذي سوف ينتهي بمحاولة توريثها ، مستعيدا نظام

السلطنة التقليدي ، بعد أن كان ثورة عليه ، وثورة من أجل التحديث والتمدن كما ادعى ، فقام بإجبار  قوى المجتمع ، على عمليات تحديث حطمت أنظمة حياتهم التقليدية ، وربطتهم بالسلطة العاجزة عن استيعابهم ، فكانت النتيجة أن رمتهم إلى حضيض البؤس

والبطالة وانعدام الأفق والكرامة والحرية ، وعاشت هي فقط في نعيم الاستبداد والفساد والبطر الذي لم يدم ، مما هيأ كل ظروف الحالة الثورية التي طالت وستطال كل الأنظمة العربية الشمولية الحديثة ، بينما بقيت بقية الدول التي لم تخطو خطوات واسعة

نحو التحديث والعسكرة ، وحافظت على مكونات المجتمع الأهلية التقليدية واعترفت بها ، بقيت في منأى عن هذه الثورات ، رغم أنها أنظمة سلطانية في أساسها وتفتقر كثيرا للديمقراطية ، لكنها قادرة مع ذلك  على تصريف الأزمات الحاصلة بين السلطة

والشعب عبر أقنية المجتمع الأهلي ، وهي مع ذلك بحاجة ماسة للتطوير والتحديث بما يتناسب مع العصر ومع تطور مجتمعاتها المدنية ، لكنها ليست في حالة ثورية كالتي حدثت في بقية الدول ، إنما بحاجة للتحول وبسرعة نحو الملكيات الدستورية قبل

أن تهددها أي أزمة طارئة  ،  وأعتقد أن أنظمة دول الخليج التي اتخذت موقفا مشرفا من الثورات العربية فاجأنا جميعا ، قادرة بهذه العقلية على فهم التاريخ ، وعلى تلبية طموحات شعبها ، لننضم متحدين نحو عالم الحداثة والحرية والعدالة ،  حاملين

معنا هويتنا التي نعتز بها ، وقيمنا التي نعتز أنها ناتجة عن ديننا الحنيف .

(( نقصد بالمجتمع الأهلي القبيلة والعائلة والطائفة والقومية و المناطقية ، وكل التقسيمات العمودية الثابتة في المجتمع ، والتي لا خيار لنا فيها ، ونقصد بالمجتمع المدني كل الانتماءات التي نختارها بحكم موقعنا ومهنتنا وآرائنا وهوايتنا أي الحزب

والجمعية والنادي والنقابة .و و  .  ))

فنظام الاستبداد والفساد الشمولي الحاكم يختصر أيضا سبعة قرون من التخلف والانحطاط والبلاهة ,  بكل ما تحمله من ثقافة الخسة والذل والجبن التي تفرض على الرعية .. والذي قامت الثورة عليه كله مستوردة  قيم الحرية   والديمقراطية من الغرب ،

ومستعيدة قيم الشهامة والكرامة والنزاهة من تراثها الإسلامي العريق ، حتى شهدنا صورا للبطولة والتضحية تتكرر اليوم , تشابه إلى حد كبير ما كان يحدث . في بداية الدعوة مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، وكأن جذوة هذا الدين الأولى

قد عادت . مبشرة بنهاية عصر الانحطاط وبداية عصر الحضارة من جديد ، والتي هي ليست نقيضا أو عدوة للحضارة الغربية ، بل رافدا إليها ، هي (أي الحضارة العالمية)  بأمس الحاجة لدور العرب والمسلمين فيها ، ليضيفوا لها قيما وأخلاقا ,

بعد أن أمعنت في الاعتماد على القوة والتكنولوجيا , وأهملت إلى حد ما , الجانب الروحي والإنساني والفلسفي في غمرة سحرها  بتطور قدراتها المادية الهائل .

لذلك أرى أنها ثورة .. بل ثورة نادرة في التاريخ , بل حدث سيغير العالم إنشاء الله ، وشرف أراد لنا الله أن نشهده ونشارك فيه ، وقد الهم الله دول العالم الغربي الحر ، على التقاط هذه اللحظة التاريخية . ومد يد العون لهذه التحركات الشعبية ،

في حين أن بقية دول الاستبداد والفساد والمافيات والتشبيح , وقفت تستميت في الدفاع عن الخطر القادم إليها من الشرق الأوسط . وهذا ليس مستغربا لمن يعقل  ويرى . انه ربيع عربي وإسلامي , بل ربيع عالمي جديد يخطو بهذا العالم نحو

سوية أعلى من الحضارة .. وأنا مؤمن تماما بذلك بل أكاد أراه بأم عيني ، يحدث على شكل تغيرات دراماتيكية  في السياسة , وفي نمط العيش , ليس أقله انهيار الحدود التي تفصل بين الدول , وتطور وسائل الحصول على الطاقة واستعمال الآلة ,

مدشنة عصرا جديدا من الحضارة لا يحتاج فيها الإنسان إلا إلى الإبداع والابتكار ،  يطغى فيها الجانب الذهني الروحي الافتراضي على الجانب المادي الفيزيائي .

ولذلك أدعو كل دول العالم العربي والإسلامي لالتقاط هذه اللحظة ، وبشكل خاص الشعب الإيراني الشقيق ، لكي نتجاوز مرحلة الانقسام التي طالت ، والتخلف الذي لا يجب أن يستمر بعد الآن ، وأشكر بشكل خاص الدور الرائد الذي تلعبه قطر

وتركيا وفرنسا ، دون أن ينتقص ذلك من دور بقية الدول و كل أصدقاء الحرية في العالم ،  وأدعو كل فرد للتفكير بعيدا عن يومياته الخاصة ،  في مشروع نهضة فتح الله لنا أبوابه ، بعد أن غيرنا ما بأنفسنا , وهزمنا ما فيها من غش وخوف ,

وعلت حناجرنا بصوت الله أكبر ( وهي جريمة تتسبب في الاعتقال ، و يعاقب عليها القانون السوري حاليا ) فلا حول ولا قوة إلا بالله .

 هذه الدعوة الثورية الجامعة ، التي يشترك فيها كل أطياف الفكر والفلسفات ، والتي هي ثورة مدنية حقوقية بامتياز ، والتي ربما برز فيها الشكل التراثي الذي يستمد قيم البطولة من الرموز الإسلامية التاريخية , واستفادت من دور المساجد في

إشعال شرارتها ، هي ليست ثورة إسلامية ، بل ثورة مدنية حديثة وثورة داخل الإسلام التقليدي أيضا  ، الذي أعاد إنتاج التخلف وخدم بقاء الاستبداد طويلا  ، و لا يجب أن تفهم بأي شكل من الأشكال على أنها في مواجهة المسيحية أو الديانات

والطوائف الأخرى , بل هي معها بما تحمله من قيم مشتركة مع الإسلام  ،  بل هي دعوة من أجل إعادة الاعتبار لكل الأديان وللقيم الروحية والفلسفية جمعاء , والتي هي موحدة بوحدة الإنسانية وبوحدانية الله سبحانه ملهم الحق ومصدره .

وهذه ليست دعوة للدولة الدينية ، بل دعوة للدولة المدنية , التي تفصل السياسة عن الدين ولا تلغيه ، و الذي يحافظ على دوره الحقيقي في مكانه الأصلي ،  أقصد القلوب والضمائر , التي تحرك البشر الأحرار المسئولين عن اختياراتهم ,

غير المجبرين عليها كالأنعام . ولا هي دعوة للتخلف وللعودة للماضي ، بل هي دعوة لتحديث قراءتنا للدين بما نحمله من عقل ومعارف حديثة , لنكتشف معا أن ديننا الحنيف يستطيع وبسهولة التلاؤم بشكل سلس ومنطقي مع كل نظم الحياة الحديثة ،

ومع التغيرات الاجتماعية المرتبطة بها حكما ، وهو المشروع الذي عملت عليه في سنوات سجني الطويل والذي سوف أناقشه معكم لو أعطانا الله بعض العمر والقدرة ، وتركنا النظام السوري خارج أسوار معتقلاته  . لكن طرح مسائل فكرية معقدة

يحتاج لمناخ سياسي هادئ ، لذلك نأمل لو تساعدونا في حل الأزمة في سوريا ، بأسرع وأسهل الطرق ، بحيث يحدث التغيير الديمقراطي المنشود ،  ونتمكن من فتح ورشة العمل الحضاري الفكري معا .

بارك الله في أمتنا شرقها وغربها  ، شامها ويمنها ومصرها وخليجها ، وأمدنا بما يقوينا على قول الحق وإعلاء كلمته ..  والله الموفق   )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى