آه.. زينب
عمر حرقوص
كما لو أن الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين كتب قصيدته لضحية القتل في سوريا زينب الحصني، كأنه اراد لزينب التي قتلها العدو الإسرائيلي خلال واحد من اجتياحاته أن يتذكرها الناس دائماً، فكانت القصيدة كأنها مكتوبة ايضاً من اجل زينب الفتاة السورية التي اعتقلها “الشبيحة”، وتركوها جثة من أربع قطع.
زينب، “الدمعة وجه الأرض، والأرض دخان، لو نشرت دالية البيت ضفائرها، لعرفنا سر الأغصان، لو صاح الديك على هذه الكرة الأرضية، لعرفنا سر الصوت، لو أن الفجر تأخر ثانية عن موعده، لنجونا، لكن الموت”.. الموت هو إذاً الذي يواجه الشبان السوريين في تحركاتهم السلمية، أو الموت ولا شيء آخر.
في سوريا صورة زينب الشابة الصغيرة تختلف كلياً عن الصور التي رآها الناس، فعرفوا معنى الوحشية.
يكمل شمس الدين: “آه زينب.. هذا الدوري على الشرفة، هذا الطين، وهذا الماء، وهذا اللعب. الخبز. القهر. الغابات. شجر الحور دخان، والنهر دخان ورذاذ المطر الناعم فوق الجرح دخان، فلتفتح يا آذار شبابيك التيه، لطفل يبحث عن لعبته، في قبر أبيه”.
انتفاضة شعبية سلمية يشارك فيها كل أنواع المجتمع المدني والديني والثقافي السوري، في مواجهة ديكتاتور قادر على القتل والقتل ومن ثم القتل بدم بارد أو حام؛ قتل لا يتوقف ومجزرة يومية لا تجد لها رد فعل حقيقي في العالم لمواجهتها، ولا حتى موقف بصوت عال أمام النزيف اليومي لعشرات الشبان الذين يقتلون في التظاهرات أو في منازلهم أو يعتقلون ويختفون إلى “الأبد” كما هو شعار الحزب الحاكم مع رئيسه.
وقصص الاعتقال والموت كثيرة، من درعا إلى حمص وغيرها، فقبل ايام حين اعتقل الأمن السوري زينب الحصني بعدما داهم منزل أهلها ولم يجد أخاها المطلوب بسبب مشاركته في التظاهرات، أُخذت الفتاة إلى سجن الشبيحة، فقام شقيقها بتسليم نفسه للأمن على أمل إطلاق سراح زينب، بعد ثلاثة ايام طلبوا من والدته أن تزور براد الموتى في المستشفى العسكري لتتعرف إلى جثة ابنها، هناك تعرفت إلى ابنها المقتول بعدد من الرصاصات في رأسه وجسده، وتعرفت بالصدفة ايضاً إلى جثة ابنتها زينب المقطعة لأربع قطع… الجنون بحد ذاته مورس في تقطيع ابنة الثمانية عشر ربيعاً.
شمس الدين كأنه كان هنا قبل ثلاثين عاما: “زينب، جرس المدرسة ـ الخوف، الأزهار ـ الخوف، الكتب ـ الخوف، القلم المكسور، الممحاة.. لماذا؟، من ألبسك الثوب الأسود؟، من قص ضفيرتك الشقراء، وقص الشفة المرجانة؟، قومي نلعب، قبل رحيل الأشجار” … فترحل زينب كما توقع لها الشاعر، وأكثر من ذلك لا تترك أثراً من خفتها.
تحولت الفتاة إلى ايقونة في حياة رفاقها من صبايا وشباب سوريا، بكوا عليها وتكلم شقيق لها باق على قيد الحياة قصة شقيقته التي كانت بالنسبة له طفلة، بكى خلال تصوير فيديو منقول على “يوتيوب” أو كأن دموعه تحجرت، كان يختنق هناك وكانت أمه في غرفة أخرى من البيت تبكي وتتمنى أن يصمت عن هول ما رأى، أو أن يهرب من هذه الدنيا لئلا يقتل هو ايضاً ويحول إلى مسلخ الجلود البشرية.
” (ألف_لام)، نتجول في أطراف الحقل، ونأسر كل فراشات الغابة، (ألف_لام)، ونعود فنطلقها، حين تعاتبنا الأزهار، (ألف_لام)، ونقول تعلمنا، من ثدي الأم بأن نطلق أسرانا، (ألف_لام)، فلماذا دمنا يلبس كل الأزهار؟، (ألف_لام)، ونعاتب هذا الحزن قليلا، (ألف_لام)، لا نسمع غير هوى الثلج، على الجسد المنهار، يا واهب هذي الشمس، لهذي القدم العمياء، من يطفئ برد الشمس، بحر الماء؟، من يقتلنا، آه .. زينب”
صراع يتفاقم في سوريا والشبان منذ ستة اشهر ونصف يصرّون على سلمية التحرك، يرفضون أن يكونوا مجرمين مثل قاتلهم، ويؤكدون دوماً على أن الايام بينهم وبين النظام، “أن تقتلنا لا يعني أننا سنعود إلى بيوتنا، فترك الشارع سيكون ثمنه أغلى بكثير مما ندفعه الآن”، كما قالوا في عدة تظاهرات.
الانتفاضات السلمية في العالم تحتاج إلى كثير من الوعي والهدوء والقيادة الحكيمة، وفي الحالة السورية تحتاج هذه الانتفاضة إلى غاندي جديد، أو حتى إلى عشرة مثل غاندي يحملون هذه الحكمة التي يتمتع بها الناس هناك في الداخل، فمشاهد المعتقلين الذين يعودون قتلى من بين يدي الشبيحة، ومشاهد عائلات المختفين، وكذلك الشبان الذين يقتلون في التظاهرات لأنهم يطالبون بالحرية، يجعل الرعب يدب في قلوب الناس الذين يجلسون يومياً إلى التلفاز، يغيّرون الاقنية عبر “الريموت كونترول” يشاهدون مسلسلاً مكسيكياً أو يتابعون مباريات كرة قدم وينشدون قليلاً أو كثيراً إلى الخبر السوري. هؤلاء أي الساكنون خارج المجزرة السورية لا يمكن ولا للحظة ان يفهموا هذا الصبر السوري الرائع الذي بالتأكيد سيذكره التاريخ إن كان هذا النظام ابقى بعضاً من هؤلاء الشبان أحياء قبل أن يدمر مدنهم وينهي آخر أمل لتغيير حقيقي في هذا الشرق.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=487719