أحمد الشلبي في بيروت
أسعد أبو خليل
لا أدري من دعا أحمد الشلبي إلى بيروت، ولا أدري من ظن أنّ الشلبي هو حجّة في شؤون حقوق الإنسان والحريّات. من المؤكّد أنّ مؤتمر التضامن مع الشعب البحريني، المُحاصر من حكمه، حظي بموافقة أو مباركة من حزب الله، وأنّ محطة «المنار» غطّت المؤتمر وهي عالمة بمضامينه وخطبائه. المهم أنّ هناك من ظنّ أنّ هناك من نسي من هو أحمد الشلبي. أحمد الشلبي ظلّ لسنوات، أو أكثر بقليل، رمزاً عربيّاً معروفاً في الغرب، وكانت أبواب حكومات الغرب مفتوحة أمامه، كما هي تُفتح اليوم أمام مصطفى عبد الناتو. تدفّقت المساعدات الماليّة لحركته في التسعينيات وما بعد، وهناك من صدّق أنّ تنظيمه ـــــ وهو لم يكن أكبر من حجم واحد من تنظيمات الاتحادات الاشتراكيّة العربيّة التي انتشرت إبّان الحرب الأهليّة في لبنان ـــــ هو الناطق باسم الشعب العراقي. وكان الشلبي يعد الغربيّين والصهاينة بتغييرات في السياسة الخارجيّة العراقيّة، بعد إسقاط نظام صدّام، وأرسل كذلك من يطمئن إسرائيل إلى نيّاته الحسنة (كان صديقه كنعان مكيّة وثيق الصلة بإسرائيل والصهاينة في الغرب، إلى درجة أنّه حاز دكتوراه فخريّة، أو اثنتيْن ـــــ لا يهمّ العدد ــ من جامعة إسرائيليّة).
قبل التعليق على زيارة الشلبي لبيروت، وهي ليست الأولى منذ غزو العراق، يجب تقويم مسيرة الرجل. أحمد الشلبي رجل عاصر أزمات وحقبات وحروب عدّة، وأدى أدواراً متعدّدة في أكثر من بلد. من يذكر أنّه رافق عادل عسيران إلى مؤتمريْ جنيف ولوزان؟ (من قرّر بعد نشوب الحرب الأهليّة أنّ عادل عسيران لا يزال يصلح ليتحدّث باسم المتحاربين أو حتى باسم القابعين في المنازل، أم أنّ الحنين للإقطاع هو الذي جرّ أمين الجميّل لدعوته؟). سمعت باسم أحمد الشلبي للمرّة الأولى في منتصف الثمانينيات، عندما أشارت عليّ جودث كبّر، المحلّلة في شؤون الشرق الأوسط في أكثر من مركز أبحاث والوثيقة الصلة بإدارات غابرة في واشنطن، بضرورة الاجتماع به في بيروت، عندما كنت أجري أبحاثي لأطروحة الدكتوراه عن مواضيع تتصل بالحرب وبالصراعات في لبنان. عَرّفته بأنّه «مموّل» لحركة أمل، وأعطتني رقم هاتفه. وصلت إلى بيروت ولم أهاتفه، لا أدري لماذا. وكان الشلبي قد غادر بيروت إلى عمّان إبّان الحرب الأهليّة، حيث أصبح وثيق الصلة بالنظام الحاكم في عمّان، وأدار بنك الرافديْن. قصّة خلافه مع الملك حسين لم تُعرف خفاياها بعد، ومن المرجّح أنّ الطرفيْن كذبا في حديثهما عن الموضوع. من المؤكّد أنّ الملك حسين ليس في وارد إبعاد مدير بنك من باب النزاهة ومحاربة الفساد، إذا صدّقنا رواية الملك عن إفلاس البنك. وقد تكون رواية الشلبي عن ضغط صدّام على الملك حسين مُبالغاً فيها؛ لأنّه لم يكن ذا دور معروف آنذاك. وبعدما غادر الشلبي الأردن، بدأت مرحلة إعداده لدور ما في عراق ما بعد صدّام.
أحمد الشلبي عمد إلى التزام عقيدة كل الأنظمة العربيّة في واشنطن منذ حرب الخليج الأولى: عرف أنّ المفتاح إلى قلب الكونغرس والبيت الأبيض يمرّ بالضرورة عبر الصهاينة والإسرائيليّين في واشنطن. إنّ الرواية التفصيليّة لقصّة أحمد الشلبي (وقد ملأت أكثر من كتاب ومقالة) تبدأ بقصّة صداقته مع المؤرّخ الصهيوني برنارد لويس. نحن العرب نُلام على ميلنا إلى نظريّة المؤامرة، لكن من يلومنا عندما نقرأ في مجلّة «فانيتي فير»، قبل سنوات، أنّ الذي فتح أبواب الكونغرس والبيت الأبيض أمام الشلبي لم يكن إلا ذلك الصهيوني العتيق، الذي ضخ كراهية وخوفاً من الإسلام والعرب قبل أن تصبح تلك الكراهية موضة سياسيّة هنا. يحتاج لويس إلى دراسة نقديّة، أو لأطروحة دكتوراه، عن دوره السياسي والأكاديمي في خدمة مصالح إسرائيل عبر العقود. استقى صامويل هانتنغتون أطروحته عن صراع الحضارات من مقولات مبكّرة للويس. لكن دافع لويس إلى تبنّي أحمد الشلبي، أوائل التسعينيات، مسألة تحتاج إلى دراسة، وهي ـــــ ككلّ أمر يتعلّق بلويس ـــــ ترتبط برؤيته لمصلحة إسرائيل التي تعلو على أي مصلحة. لويس أقام علاقات وطيدة مع الجنرالات الأتراك أثناء حكم العسكر، وكان المُستبدّ كنعان أفرين يحرص على لقاء خاص معه أثناء مروره في واشنطن. طبعاً، فقد لويس هيامه بالعسكر، بعدما تطوّرت تركيّا نحو الديموقراطيّة، وبعدما ساءت العلاقة بين تركيا وإسرائيل.
لكن الشلبي لم يفتح علاقة مع الصهاينة وحدهم، بل مع عتاة الصهاينة. كان المحافظون الجدد سريعي الانبهار بالشلبي. شخصيّته جذّابة (على ما يُقال) وهو صاحب معرفة متنوّعة يستطيع أن يتنقّل في الحديث بين التاريخ الإسلامي والعلوم الحديثة إلى السياسة المعاصرة. لكن المحافظين الجدد لم يتخذوه نديماً لهم، ولم يقرّبوه من صنع القرار حبّاً بشخصيّته. المحافظون الجدد كانوا اليمينيّين المُتمرّدين على سياسة أميركا في 1991، عندما رفض جورج بوش الأب أن تتقدّم القوات الأميركيّة الغازية نحو بغداد. لم ترض إسرائيل وحلفاؤها بتحجيم العراق: المُراد كان تحطيمه.
وعمد الشلبي إلى فتح قلوب الصهاينة: لم يتكل على فرد واحد، بل تقرّب من كل عتاة الصهاينة في الكونغرس، من الحزبيْن على حدّ سواء. عرف كيف يُسمعهم ما يريدون سماعه. كذلك، عرف كيف يوحي لهم أنّ حزبه الصغير (المؤتمر الوطني العراقي ـــــ من يذكره في معمعة الأحزاب الطائفيّة في عراق ـــــ تحت ـــــ الاحتلال؟) هو حزب مؤثّر في الساحة العراقيّة. والعقليّة الاستعماريّة تنقاد بسرعة لرجل يردّد وراءها شعارات أميركا (الفارغة) عن الحريّة والديموقراطيّة. وقد أثلج الرجل صدورهم عندما أصدر طمأنات من جيبه (من رصيد شعبي لا يملكه) عن نيات الشعب العراقي حيال إسرائيل. وعدهم، كما ذكرت الصحف الغربيّة، باتفاق سلام بين العراق وإسرائيل، حالما يسقط نظام صدّام. دعاية المؤتمر الوطني العراقي أرادت أن تجعل من عداء نظام صدّام لإسرائيل متغيّراً (وذلك العداء السطحي من نظام صدّام خضع لصعود وهبوط ورافقته علاقات ورسائل سريّة في الثمانينيات ـــــ أدت فيها لوري ميلروي دوراً ـــــ عندما كان صدّام طفل الحكومات الغربيّة والعربيّة المدلّل). كلّ العرب في المعارضات العربيّة الذين استجدوا عطفاً وتأييداً أميركيّاً لجأوا للوسيلة (أو الخدعة) ذاتها: ان يعدوا بسلام ووئام مع إسرائيل حالما يصلون إلى السلطة السياسيّة. ألم يقل برنار هنير ليفي لنتنياهو إنّ مصطفى عبد الناتو وعده بعلاقات وطيدة بين ليبيا وإسرائيل بعد سقوط القذافي؟ صدّق الوعد مواطن ليبي أراد أن يفتح كنيساً (وهذا حقّه كمواطن) في ليبيا، إلا أنّ تظاهرة دهمته وفرضت إغلاق الكنيس. مسكين من يصدّق وعود من لا يملك القدرة على تنفيذ الوعد.
طبعاً، تتساءل عن سذاجة مُفترضة في علاقات أميركا برجل لم يحظَ مؤتمره الوطني العرمرمي بمقعد واحد في الانتخابات النيابيّة ما قبل الأخيرة (تحت الاحتلال). ألم تكن الحكومة الأميركيّة عالمة بافتقاره إلى القاعدة الشعبيّة قبل الغزو؟ لكن صراعات محتدمة دارت رحاها آنذاك بين أجهزة حكم واستخبارات مختلفة في العاصمة الأميركيّة، ونشرت «نيويورك تايمز» خبراً قبل الغزو المجنون عن تقرير سرّي أعدّته وكالة الاستخبارات الأميركيّة تضمّن تقويماً للشلبي قبل الغزو، جاء فيه أنّ معظم الشعب العراقي لم يكن قد سمع به بعد، وأنّ القلّة التي سمعت به شعرت بـ«الغثيان» عندما ورد ذكره. لكن نيّة تصديق اللامعقول كانت سائدة في الإدارة الأميركيّة، وخصوصاً عندما يتطابق اللامعقول مع النيّات الاستعماريّة والأهداف الصهيونيّة. أصبح الشلبي الطفل المُدلّل للمحافظين الجدد. وقد ساعده في ذلك حليفه الديموقراطي المُحافظ، جيمس ولزي، الذي شغل منصب إدارة وكالة الاستخبارات الأميركيّة في عهد كلينتون، ولفترة قصيرة. ولزي، الليكودي المُتعصّب، يحتفظ بعلاقات وثيقة مع المتنفّذين في شؤون الدفاع والاستخبارات في كلا الحزبيْن. وقد أعطى شهادة الصدقيّة للشلبي ولمزاعمه. ولزي كان المُنسّق لفريق المحافظين الجدد، وذلك بسبب انتمائه إلى الحزب الديموقراطيّ، ما أعطاه شبكة علاقات واسعة في الكونغرس وفي الحكومة.
لكن هناك ما هو أكثر من ذلك. إنّ كتاب أرام رستن، «الرجل الذي دفع أميركا نحو الحرب» (وهو لم يُترجم إلى العربيّة) عن أحمد الشلبي والإعداد للحرب على العراق يكاد يضع اللوم على الشلبي في نشوب الحرب الأميركيّة على العراق. يريد رستن وغيره منّا أن نقتنع بأنّ أميركا تنقاد مُرغمة ورغماً عن إرادتها من قبل أحمد الشلبي. أي يريدون منّا أن نقتنع بأنّ أميركا بريئة، وأنّ استخباراتها بريئة، وأنّ الذنب على شلّة من المعارضين العرب الذين خدعوا الحكومة الأميركيّة البريئة والساذجة. من يصدّق تلك المقولة ممن هم فوق سن السابعة؟ لكن «جهاز الاستخبارات» الذي أنشأه الشلبي داخل حزبه لم تكن مهمته تجميع المعلومات، بل مدّ الولايات المتحدة بتلك المزاعم التي لم تتجمّع لدى الاستخبارات الغربيّة. أي أنّ الشلبي كان مسؤولاً عن اختلاق الأكاذيب التي لم تستطع الحكومة الأميركيّة تحويلها إلى حقائق. كان أحمد الشلبي يضخّ «منشقّين» من العراق والكل كان يزخر بمعلومات خطيرة عن أسلحة الدمار الشامل، وكأنّ الأسلحة منتشرة في شوارع بغداد. ومهما كان الزعم مضحكاً، كان قابلاً للتصديق. يذكر البعض خطاب كولن باول أمام مجلس الأمن، الذي تحدّث فيه عن مصانع أسلحة دمار شامل متنقّلة. كان المصدر هو واحداً من المُنشقّين الذين عرضهم الشلبي على الحكومة الأميركيّة وعلى الصحافة أيضاً (كانت الصحافيّة جوديث ميلر، التي تعرّضت للطرد من «نيويورك تايمز»، تنشر كل ما يقول لها الشلبي، من دون أن تتأكد من صحته).
عاد الشلبي إلى العراق. ومسرحيّة ساحة الفردوس التي أعدتها الفرقة الفنيّة في وزارة الدفاع الأميركيّة أسندت دوراً أساسيّاً إلى حارس شخصي من عشرات جلبهم الشلبي معه برفقة القوّات الأميركيّة المُحتلّة. قام ذلك الشخص المُزوّد بمطرقة شبه عملاقة بدقّ تمثال صدّام، لكنّه استعان بالقوّات الأميركيّة بعدما استعصى عليه التمثال. أما الشلبي، فأنشأ قاعدة عسكريّة له في قلب بغداد، وكان يحظى بدعم مباشر من وزارة الدفاع الأميركيّة التي كانت تدفع له الملايين من أجل مدّها بالمعلومات «الاستخباريّة» التي لم يتوقّف الشلبي عن ضخّها من مصادره الخاصّة (مطبخ تصدير ما تحتاجه الإدارة من ذرائع). لكن علاقته بقوّات الاحتلال مرّت بمدّ وجزر: كان يحظى بدعم من بعض الفرقاء في الإدارة، لكنّه كان نجماً في الحقبة التي تلت الاجتياح عندما جلس في مقاعد الضيوف الكبار في الكونغرس يوم ألقى جورج بوش خطبة عن الحرب في العراق. لكن أجهزة أخرى في الحكومة الأميركيّة لم تكن تثق به، وحاولت أن تبعده عن مراكز الصدارة. غير أنّ المحافظين الجدد في البيت الأبيض وفي وزارة الدفاع شكّلوا حماية وغطاءً سياسيّاً له. وحاز الشلبي مركزاً في مجلس الحكم الذي عيّنه المُحتلّ، وبدأت مسيرته السياسيّة بالانعطاف (أو لنقل إنّه دخل في الغشاوات التي يعانيها صديقه وليد جنبلاط).
البعض الذي كان يتمنّى أن يصبح أحمد الشلبي رئيساً لوزراء العراق، وأن يصبح كنعان مكيّة رئيساً للعراق (كان ذلك اختيار بول وولفويتز الذي نال اعتذاراً ذليلاً من وليد جنبلاط). لكن الانتخابات الأولى في العراق أظهرت أنّ تطلّعات الشعب العراقي وأهواءه كانت في اتجاه مختلف عن توجّهات المحافظين الجدد وتمنياتهم (طبعاً، يجب النظر بعين الريبة إلى نتائج أي انتخابات تعجّ فيها الأموال السعوديّة والغربيّة والتدخّلات الخارجيّة ـــــ على طريقة انتخابات لبنان ـــــ وخصوصاً إذا كان البلد خاضعاً للاحتلال المُباشر. لا تجرؤ أجهزة إعلام الثورة المضادة العربيّة، السعوديّة والقطريّة، على الإشارة إلى العراق كبلد مُحتلّ.) عرف الشلبي أنّ لا مكان له ولمؤتمره العراقي في مروحة الاختيارات الشعبيّة. عندها، أثبت أنّ الطائفيّة هي الملاذ الأخير لأوغاد السياسة في العالم العربي (كما فعل السنيورة عندما أقام مصلى في السرايا الحكومية ـــــ ودعا إليه مفتي الدولة المدنيّة). كذلك تقرّب الشلبي من فقيه الاحتلال، علي السيستاني (سيذكر التاريخ العربي المُعاصر أنّ السيستاني أدّى خدمات جلّى للاحتلال الأميركي، كذلك إنّ مذكّرات نبيه برّي عن حرب تمّوز في «السفير» تدلّ على أنّ السيستاني كان يتبادل الرسائل المباشرة وغير المُباشرة مع الإدارة الأميركيّة، خلافاً لمزاعمه عن رفضه التواصل مع الاحتلال).
الشلبي بدأ أيضاً بتوثيق علاقته مع إيران، وهي علاقة لم تنقطع يوماً. فجأة، بعدما استنفد الاحتلال أغراضه منه، وبعدما ثبت بالقاطع أنّ الرجل لا يتمتّع بأي شعبيّة في العراق، بدأت الحرب عليه، وأصبح شخصاً غير مرغوب فيه. وتغيّرت لهجة الشلبي بالنسبة إلى الاحتلال: لكنّه مثل دمية الاحتلال (والسعوديّة) إياد علاوي (هل من يثبت رواية علاوي الخياليّة عن محاولة اغتياله بالفأس من قبل عملاء صدّام في لندن منتصف السبعينيات، بعدما كان في عداد فريقه؟): يخاطب الغرب بلغة ويخاطب العرب بلغة مُختلفة. عندما تستمع إلى خطاب الشلبي (أو العلاوي) في العربيّة، تخال أنّك تستمع إلى قادة في المقاومة العربيّة.
وبالتدريج، فقد الشلبي زمام السيطرة وتحوّل تنظيمه إلى مجموعة هامشيّة صغيرة تتمتّع بأموال الشلبي (وأموال المُحسنين، طبعاً). ظلّ الشلبي يتقرّب من السيستاني، وقد اصطحب معه الليكودي الأميركي، فؤاد عجمي، أكثر من مرّة لزيارته، كما روى الأخير في كتابه عن العراق. لكن الشلبي يُعدّ نفسه لمرحلة ما بعد الاحتلال. ولعلّ نتائج الانتخابات ما قبل الأخيرة، التي لم يحصل فيها على معقد واحد، غيّرت حساباته، وأصبح قريباً من مقتدى الصدر، الذي تصدّق عليه بأصوات في الانتخابات الأخيرة من أجل أن يتمثّل في البرلمان. الشلبي أصبح تابعاً للفريق الموالي لإيران في الحلبة السياسيّة العراقيّة. ليس له أي رصيد سياسي مُستقل، وكل شعاراته المدنيّة تبخّرت (وهذا مآل شعارات الحريريّة عن الدولة المدنيّة كما رأينا في طرابلس أخيراً، عندما رفع سلفيّون صورة أسامة بن لادن والشيخ عدنان العرعور).
لكن لماذا ظهر الشلبي في مؤتمر عن البحرين في لبنان؟ ولماذا أنشأ الشلبي جمعيّة تضامن مع الشعب البحريني؟ هل أصبح الشلبي داعية لحقوق الإنسان من دون أن ندري؟ طبعاً، لاحظ سليم الحص وغيره من المعترضين أنّ ظهور الشلبي وهو يندّد بالتدخّل الخارجي في شأن البحرين هو أمر نافر، فانسحبوا. ولم يجد الشلبي ما يردّ عليه إلا الهتاف الغريب «يسقط الجهلة» و«يسقط الجهل»، وأضاف كلاماً عن عملاء صدّام. ذلك هو الاتهام الجاهز ضد كلّ من يندّد بالاحتلال وأدواته: هو عميل لصدّام. (في أواخر التسعينيات، زار جيمس بيكر الجامعة التي أدرّس فيها، وألقى كلمة أمام الهيئة التعليميّة. كنت جالساً أعض على النواجذ أنتظر من دون صبر نهاية كلامه. وقفتُ وألقيت كلمة رددت فيها على مزاعمه وأنهيته بسؤال: ألا تستحقّ أن تقف أنت وجورج بوش خلف القضبان في محكمة بسبب جرائم حرب غزو 1991؟ فما كان منه ـــــ على طريقة الشلبي ـــــ إلا أن اتهمني بأنّني من مؤيّدي صدّام).
كيف يجرؤ الشلبي على التنديد بالتدخّل العسكري السعودي السافر والظالم في البحرين، وهو الذي أتى على متن الدبّابات الأميركيّة إلى العراق؟ بأي حق يكتسب الشلبي صدقيّة في الحديث عن حقوق الإنسان وهو الذي ظهر على برامج تلفزيونيّة أميركيّة ليشكر جورج بوش على غزو العراق؟
لكن السؤال يجب أن يُوجّه إلى مُضيفي الشلبي في لبنان. من رأى أنّ الشلبي (الذي مثله مثل أياد علاوي يتردّد باستمرار إلى لبنان بسبب علاقاته السياسيّة والماليّة والاجتماعيّة الواسعة) يصلح للحديث في موضوع الانتفاضة البحرينيّة؟ وما علاقة حزب الله بالأمر الذي جرى التستّر عليه بسرعة؟ ولماذا لم تصدر الجهة الداعية بياناً لتوضيح سبب دعوة الشلبي. كذلك فإنّ قناة «المنار»، وهي ناطق رسمي باسم حزب الله، نقلت المؤتمر وكلمة الشلبي مباشرة على الهواء، وفي ذلك تبنٍّ لخطاب الشلبي. إنّ مشكلة حزب الله في السمعة الطائفيّة تتفاقم، ولكن يجب رصدها وتحليلها بعيداً عن أبواق الطائفيّة والمذهبيّة في إعلام آل سعود وآل ثاني. ليس صحيحاً أنّ حزب الله يتحالف مع النظام السوري على أساس طائفي: ينسى البعض أنّ الحزب كان في انطلاقته الأولى معادياً للنظام السوري وخاض ضدّه معارك بعضها معروف، وبعضها لا يزال مجهولاً. تريد أدوات آل سعود في الإعلام العربي تحويل كل قوّة مقاومة ضد إسرائيل إلى قوّة طائفيّة ومذهبيّة صرفة. لهؤلاء، وليوسف القرضاوي واتحاده الرجعي، أغراض طائفيّة وسياسيّة مرتبطة بالثورة المضادة التي تفعل فعلها في مصر وغيرها. إنّ تحالف حزب الله مع النظام السوري، وسكوته عن قتل الشعب السوري عرّضه لانتقادات سهلة جاهزة (ومُبرّرة)، ورفع علامات استفهام عن حقيقة مناصرته لانتفاضات الشعب العربي. لكن تحالفه مع القوى الطائفيّة في العراق مسألة أخرى.
لا يمكن فهم موقف الحزب الليّن أو المُتعاطف مع الأحزاب السياسيّة السائدة في العراق. لقد أسهم الحزب، من دون أن يدري، في تزخيم الدعاية السعوديّة المنشأ ضدّه: سهّل الحزب تصنيف أعدائه لموافقه في الخانة الطائفيّة ـــــ المذهبيّة من ناحية موقفه من الاحتلال الأميركي في العراق، بصرف النظر عن دعم سرّي من الحزب لفصائل في المقاومة العراقيّة، لأنّ الناس يحكمون استناداً إلى ما يُقال لهم في أجهزة إعلام خبيثة ومُتحالفة مع العدو الإسرائيلي، لا إلى ما لا يعلمون. يُفترض أن يكون أحمد الشلبي وإياد علاوي غير مرغوب بهما في أوساط المقاومات العربيّة. لا يمكن أن نحوّل غزو العراق والاحتلال الوحشي إلى حدث عابر في حياتنا المعاصرة. ودور أحمد الشلبي أسهم في جرّ الويلات إلى منطقنا العربيّة. إنّ قبول صدقيّة الشلبي في حقوق الإنسان (واختار أن يتخصّص في شأن البحرين فقط لأسبابه الطائفيّة المذهبيّة) يتناقض مع مسلك الرجل ومسيرته السياسيّة. يجب أن لا ننسى. هل بتنا نعتاد الاحتلالات ونسامح أدوات الاحتلال؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
الأخبار