أسئلة سوريا اليوم هي ذاتها العراقية بالأمس
شاكر الأنباري
في الثامن من آذار ألف وتسعمائة وثلاث وستين استولى حزب البعث على السلطة في سوريا، وفي السنة ذاتها استولى ذلك الحزب على السلطة في العراق. ورغم انه لم يحتفظ بها في العراق طويلاً، إلا أنه عاد الى السلطة مرة ثانية بعد خمس سنوات، وبقي في الحكم حتى يوم سقوطه على أيدي القوات الأميركية في التاسع من نيسان ألفين وثلاثة. حزب البعث في سوريا ما زال في السلطة لكنه يقترب من نهايته بسرعة برقية، قد لا يكون الفارق بينها وبين نهاية بعث العراق عقد واحد فقط من السنين، على أقصى تقدير. حكم البعث في الدولتين انطبع بصفات متقاربة، تصبح بعض الأحيان متطابقة.
على سبيل المثال سيرة صدام حسين وعائلته تشبه سيرة حافظ الأسد وعائلته. الرئيس لديه أخ اسمه برزان، ولديه ولدان هما عدي وقصي، أعدّ الأول في البداية لكي يكون خليفته لكنه تعرض لمحاولة اغتيال وأخرج من دائرة التوريث. اتجهت الأنظار الى قصي الذي أصبح يمتلك اليد الطولى في العراق، وكان يعد كي يكون الرئيس القادم. حافظ الأسد لديه أخ اسمه رفعت، وإبنان واعدان أولهما باسل الأسد دُرّب لكي يرث الحكم لكنه قتل بحادث سيارة على طريق المطار، فتم تأهيل الطبيب بشار لكي يصبح رئيساً بعد موت والده، وهذا ما حصل.
وإذا توسعنا برؤية المتشابهات في نمط الحكم نجد أن بغداد ودمشق، البعثيتين، بنتا السلطة على مبدأ تحالف مع أحزاب ضعيفة، تابعة، فيما سمي بالجبهة الوطنية. في بغداد تم ضرب تلك الجبهة وإزالتها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بينما استمرت في دمشق حتى اليوم، لكنها وكما يعرف الجميع عبارة عن تجمع، تافه، نفعي، متحجر، تابع لسلطة البعث ليس إلا. وطغمة الجبهة ما هي إلا طغمة الحكم ذاتها، لكن تحت يافطات شيوعية وقومية.
اعتمدت السلطة في العراق على أجهزة قمعية مخيفة، مدنية وعسكرية، مارست التعذيب، والتصفيات، لكل من يعارض نمط الحكم، ومدت أذرعها الى الخارج فكان العراقي يخشى من دخول حتى مكاتب الخطوط الجوية العراقية فكيف بالسفارات! والسفارات ذاتها عبارة عن واجهات مخابراتية لتعقب المعارضين في الخارج، وعقد الصفقات العسكرية، والترويج لوجه افتراضي كاذب لنظام قبيح وبربري. في سوريا الحقيقة ذاتها، ربما لهذا السبب لم ينشق أي من الدبلوماسيين السوريين عن النظام، حتى بعد أن أصبح واضحاً أنه يذبح شعبه ويبيد مدنه على المكشوف. نواف الفارس سفير بشار في بغداد قد يكون استثناء حتى هذه اللحظة. ورغم وجود حزب يعرف بنفسه على انه علماني، أي فوق الميول الطائفية والدينية والمذهبية، سواء في العراق أو سورية، إلا أن الواقع يقول ان سلطة البعث في العراق اعتمدت في المفاتيح المهمة، والركائز الأساسية من الحكم على السنّة، وفي سورية على العلويين، الأمر الذي سيؤدي لاحقا الى نتائج كارثية للطائفتين، وهذا ما جرى للعراق بعد إزالة النظام، وربما سيجري ذلك في سورية بعد اليوم الأول من إسقاط نظام الأسد. الجيش العراقي الذي بُني ليكون مدافعا عن الوطن، ومن أجل تحرير فلسطين، حسب اليافطة الآيديولوجية لحزب البعث، استخدم من قبل النظام لا للدفاع عن الحدود أو تحرير فلسطين، بل لشن حروب دموية على الأكراد أولاً، ولاحقاً على إيران، ثم احتلال الكويت لإلحاقها بالعراق، وتوغل في الأراضي السعودية، ثم ليتمزق شذرا على يد قوات التحالف في حربين كونيتين، ليصبح بعد ذلك جيشاً منحلاً، تُباع دباباته ومدافعه وطائراته في الأسواق العالمية كخردة رخيصة.
الجيش السوري الذي أعد لتحرير الجولان، وفلسطين، والدفاع عن شرف الأمة كما تقول الآيديولوجيا البعثية في دمشق، انقلب بدباباته وطائراته وقواته الخاصة لا ليحارب دولاً خارجية انما ليفتك بحمص، ودرعا، ودير الزور، والرستن، وإدلب، ومخيمات الفلسطينيين، في أغرب حرب يقوم بها جيش وطني ضد مدنه وقراه وشعبه. وكما أحرق الجيش العراقي بلدة حلبجة بغاز السارين ذات مرة، وسدّ ينابيع كردستان بالخرسانة، وهجّر آلاف القرى من السفوح والوديان، أحرق جيش الأسد غابات اللاذقية، وأحراش نهر العاصي، وتلال سهل الغاب، ودمر الأوابد التاريخية في الحصن والسويداء وبصرى الشام وحمص، الأوابد التي كانت حواضر عالمية علّمت البشرية كتابة هواجسهم، وفنونهم، وأيامهم.
لكن الصورة بين البلدين تمتلك اختلافاتها الجوهرية أيضاً. أسقط بعث العراق على يد مئات آلاف الجنود الأمميين حين تحالفت ضده أكثر من خمسين دولة. أسقط هو وجيشه ودولته البوليسية، ومفاتيحه الطائفية، في حرب خارجية لم يكن للشعب دور فيها، مع التذمر الكبير الذي كان يختزنه، والمآسي الاجتماعية التي حصلت خلال عقود من الحكم. وضع سوريا سيكون مختلفا على الأغلب، فالشعب هو من سيسقط جلاديه، وهو من سيؤسس لنظام حكم جديد. ومن خلال الفيسبوك، والندوات، والمؤتمرات التي يناقش فيها المثقفون والمفكرون السوريون لأسئلة الحاضر والمستقبل، يمكن ملاحظة تشابهات كثيرة للأسئلة التي كان العراقيون يطرحونها بعد سقوط النظام. لعل سؤال من هو السوري اليوم واحد من أهم الأسئلة المثارة في وجه الثورة السورية. هل هو العلوي، الكردي، الدرزي، السني، الإسماعيلي، المسيحي، المسلم، الخ، وما هو نمط الحكم القادم في ضوء هذا التنوع وتضارب الآراء والأهواء والطموحات، قومية ودينية ومذهبية؟ هل يكفي القول الشعب السوري واحد؟ هل يؤمن النظام القادم ان الشعب السوري واحد فعلاً؟ ومن هي هذه القوة التي تؤمن بهذا فعلاً لا قولاً فقط؟ وماذا عن الاستحقاقات المذهبية والقومية وحتى المناطقية؟ ما هو مصير البعثيين الذين وقفوا مع القتل والذبح حتى اللحظة الأخيرة؟
كما في العراق فرض النظام البعثي هوية سورية واحدة على الجميع، لكنه فرضها بالقوة، والشعار، والعنف الفكري، فتمت مصادرة الحقوق القومية للأكراد على سبيل المثال، بحجة الهوية العربية السورية، ورتب البيت الداخلي للحكم على أساس طائفي، بينما تم تدمير الذاكرة السابقة للشعب على ضوء قراءة البعث للتاريخ القريب لسورية، وذلك تمهيدا لترسيخ الحكم الشمولي العسكري القائم على فكرة ارعاب الخصوم. ذلك الواقع وما يثيره من أسئلة تم اختصاره في العراق بهيمنة الاسلام السياسي على السلطة، وهذا ما جعل الحلول لتلك الأسئلة المستعصية شبه مستحيل. ولكن الاسلام السياسي في العراق جاء عبر عملية قيصرية قامت بها قوة محتلة، عكس ما سيحصل في سورية في القريب العاجل. وخطورة وصول اسلام سياسي الى بلد متنوع مذهبياً، وقومياً، ودينياً، تتجلى في ترسيخ التناقضات، وربما تأجيجها بدلاً من حلها. وقد تكون هذه البديهية واحدة من اشكالات ثورات الربيع العربي قاطبة.
مشكلة الاسلام السياسي في العراق انه لم يستطع الخروج من عباءته المذهبية، وهنا تكمن خطورة الاسلام السياسي السوري أيضاً، فسوريا متنوعة الأديان والمذاهب، وامكانية وصول الاسلام السياسي الى السلطة ستكون كارثية هي الأخرى، وهو درس عراقي بامتياز ينبغي عدم الاستهانة به، مع كل ملابساته السابقة. في الدرس العراقي كان المفكرون، والمثقفون، والمحللون، يعتقدون ان رحيل نظام صدام حسين سيؤسس ليوتوبيا ديمقراطية معاصرة، وتبين لاحقا ان هذه المقاربة كانت مقاربة رومانسية بامتياز. سقوط نظام البعث فتح الباب لشرور كامنة، تاريخية وبنيوية وواقعية، وهذا على الأغلب ما سيحصل في سورية. المركب الجديد سيكون سابحا على ثارات، وجرائم، ومئات آلاف القتلة، ومآس اجتماعية لها أصداء كبيرة في أرواح الملايين، وخراب شامل لمدن وقرى وبنية تحتية. سيكون الثمن باهظاً حقاً، لكن الذنب يقع على نظام رفع شعاره منذ البدء: إما الأسد أو نحرق البلد، وهو الشعار ذاته الذي رفعه بعثيو صدام، وإن كان بصيغة أخرى.
المستقبل