صفحات الرأي

أسطورة الدولة الدينية/ خالد غزال

 

 

تحمل الكتب المقدسة للأديان التوحيدية الكثير من الأساطير، بعضها يجري التعاطي معه في وصفه بات من الماضي، بعضها الآخر لا يزال يلهم الحاضر ويسعى إلى التحقق. إضافة إلى ما ورد في الكتب المقدسة، عمل اللاهوت الديني على تكوين أساطير جديدة يدّعي أنها مستلهمة من النصوص المقدسة، أو هي تفسير لما بدا غامضاً فيها. من المعروف أنّ الأساطير تشكل رموزًا تدخل في الوجدان الشعبي وتحرّك فيه مشاعر، وتعطيه أملاً بمستقبل يقع غالبا في عالم الخيال.

قامت إسرائيل كدولة يهودية على أسطورة أرض الميعاد التي وعد الله بني إسرائيل بها، وقامت أسطورة البابا على أنه ممثل المسيح على الأرض ويحكم باسمه. أما في الإسلام، فلا حدود للأسطورة الدينية التي تبدأ من وجود الدولة الدينية زمن النبي مرورًا بالخلافة الراشدية المثالية في التطبيق، وصولاً إلى الخلافة الإسلامية التي تمثل دولة الإسلام منذ العهد الأموي إلى العهد العثماني، وأخيرًا إلى ادعاء قيام دولة دينية في إيران، هي في حقيقتها دولة أوتوقراطية مستبدة. إذا كانت اليهودية قد حققت أسطورتها عبر قيام دولة اسرائيل، وانكفأت المسيحية إلى دولة الفاتيكان بعد الصراع المرير والحروب الأهلية في أوروبا لفصل الدين عن الدولة، فإن الاسلام اليوم يعيش في ذروة الأساطير والحلم بتحققها، من حيث الشعارات المرفوعة منذ عقود لإعادة الخلافة وإقامة الدولة الدينية على مثال الخلفاء الراشدين. تعمقت الأسطورة وبدت لأصحابها قاب قوسين من التحقق بعد الانتفاضات في العالم العربي ووصول التيارات الإسلامية الى الحكم.

 

أولاً: هل اسرائيل دولة دينية؟

على رغم أنّ الحركة الصهيونية انطلقت كحركة سياسية وثيقة الصلة بالمشاريع الاستعمارية للسيطرة على المناطق العربية واقتسامها خلال أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، إلاّ أنها انطلقت من الأسطورة الدينية الواردة في التوراة من أنّ الله وعد بني إسرائيل على لسان النبي ابرهيم بأرض الميعاد التي هي أرض فلسطين، فوسعت التعبئة الإيديولوجية عبر شعار أرض فلسطين بلا شعب لشعب بلا أرض، أي اليهود. تحققت للشعب اليهودي دولته في العام 1948 بتواطؤ واضح من المجتمع الغربي، في وصفها دولة الشعب اليهودي، وترجمت إسرائيل هذا الشعار بدعوة اليهود للمجيء إلى “أرض الميعاد” بعدما تحقق لهم وعد الله. هل إسرائيل في حقيقتها دولة دينية منذ قيامها، وما الذي أصابها على امتداد ستة عقود من تكوّنها؟

للوهلة الأولى، تبدو إسرائيل دولة دينية عنصرية. فالإسم، “إسرائيل”، جاء من اسم النبي يعقوب، كما أنّ عَلَم الدولة اعتمد نجمة النبي داوود شعاراً لها. يضاف إلى ذلك أنّ بعض الدعم الآتي من الغرب الأوروبي المسيحي يستند إلى منظور ديني ينطلق من نبوءة ظهور “المسيح” فى أرض الميعاد المشار إليها في العهدين القديم والجديد. لكن التدقيق في النشأة والقوانين التشريعية التي رافقت قيام الدولة كانت تنفي عن اسرائيل صفة الدولة الدينية.

عندما وضع الآباء المؤسسون لدولة اسرئيل قوانين نظامها وكيفية تعاملها مع مواطنيها، كانت تشريعات علمانية على غرار المجتمعات الغربية. لا يوجد في قانون الدولة أي إشارة إلى الشريعة اليهودية كمصدر للتشريع أو اعتبار هذه الشريعة مصدرًا من مصادر التشريع. ويقوم نظام الحكم فيها على المبادئ الديموقراطية وعلى إرادة الشعب كمصدر لشرعية الحكم، وعلى حق المواطنين في اختيار حكامهم من دون أي شروط مسبقة في ما يتعلق بتدينهم أو معتقدهم. كما لا يعطي القانون رجال الدين – الحاخامات- أي سلطة في التشريع أو اختيار الحاكم، بل يتساوى الحاخامون في المواطنية من حيث الحقوق والواجبات مع فئات الشعب. وإذا كانت بعض الفئات من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية قد أعطيت بعض الامتيازات، فلا يعود ذلك إلى عهد إلهي أو إلى نص شرعي منصوص عليه في التوراة. أما الأحزاب الدينية، فتتمتع بحق المشاركة في السياسة أسوة بغيرها من الأحزاب غير الدينية، ولا تحظى بامتيازات خاصة في هذا المجال.

هذا هو الأصل في قيام دولة إسرائيل. على امتداد تطورها، حصلت تغيرات سياسية واجتماعية تتصل بالصراع العربي – الصهيوني والنظرة الإسرائيلية إلى هذا الصراع، جعلت الأحزاب الدينية تطفو إلى السطح، وتذهب بشعاراتها السياسية في اتجاه تحويل اسرائيل دولة دينية تعتمد على التشريعات اليهودية المستقاة من العهد القديم، وهو صراع يخفت أو يصعد بين العلمانيين والمتدينين وفق تغيّر ميزان القوى السياسي والاجتماعي داخل اسرائيل.

 

ثانياً: هل عرفت المسيحية دولة دينية؟

في السؤال هل عرفت المسيحية وجود دولة دينية أم لا، يذهب الجواب إلى القول بأنها عرفتها بمعنى، ولم تعرفها بمعنى آخر، خلال تاريخها الممتد منذ عشرين قرناً. في النظرة إلى الواقع الراهن، يمكن القول بوجود دولة دينية متحققة هي دولة الفاتيكان التي تأسست وفق معاهدة لاتيران 1929، أيام الحكم الفاشي في إيطاليا، وتشمل الإعتراف بالسيادة الكاملة للكرسي الرسولي على دولة الفاتيكان.

في مراجعة تاريخ العلاقة بين السلطتين الدينية والزمنية في المسيحية، نلحظ عملية صراعية مستديمة امتدت طوال عقود وصولاً إلى القرن العشرين. منذ القرون الأولى للمسيحية، بدأت الصراعات من خلال سعي الأساقفة إلى الإمساك بالسلطتين الدينية والزمنية، وسعي الحاكم إلى التفلت من هذه الهيمنة، ودأبه في المقابل على إلحاق الأبرشية بسلطته، وتوظيف رجل الدين في خدمته. ازداد الصراع حدة بعدما وطدت المسيحية مواقعها فصارت من كبار ملاّكي الأراضي، واكتسبت قوة سياسية إلى جانب قوتها الروحية، مما جعلها تتدخل في كل الشؤون السياسية، وصولًا إلى التحكم في تنصيب الملوك والأباطرة، وإجبارهم على اكتساب مشروعية الحكم من البابوات. ذلك كله تحت عنوان أنّ البابا هو ممثل المسيح على الأرض، وبموجب السلطات المعطاة له من الله، على جميع الحكّام الخضوع لسلطته. لم يكن الخلاف يدور على السلطة الروحية التي يمثّلها البابا، لكن جنوح البابوات إلى الهيمنة على السلطة الزمنية وإلحاق الحكّام بهم، جعل المعركة دوماً مفتوحة، ولم تتوقف إلاّ بعد حروب دامية أوصلت إلى تكريس الدولة المدنية في أوروبا، وإلغاء هيمنة السلطات الدينية في فرض قوانينها وتشريعاتها على الدولة. زاد من حدة الصراع نظرية “الحق الإلهي” في السلطة التي أعلن الملوك أنها ممنوحة لهم وليس للبابوات.

 

اللاهوت المسيحي أداة الكنيسة في الهيمنة

اذا كانت هيمنة رجال الدين على السلطة السياسية شهدت مدًا وجزرًا على امتداد قرون، ولم تكن في غالب الأحيان لصالح الكنيسة، إلاّ أنّ اللاهوت المسيحي الذي تكوّن على امتداد قرون كان الأداة الأساسية في يد الكنيسة لفرض هيمنتها الفكرية والدينية على المجتمع في جميع مناحي مجالاته. في هذا المجال كان هناك ما يشبه التواطؤ بين الكنيسة والسلطة الزمنية، بحيث يتبادل الطرفان المصالح المشتركة، فتطلق السلطة الزمنية يد الكنيسة في فرض لاهوتها على المجتمع وتُخضعه لسيطرة أفكارها وتمارس سلطة مادية على مَن يخالف تعاليم الكنيسة، فيما تقدم الكنيسة، مقابل ذلك، المشروعية الدينية للسلطة الزمنية، بحيث تأمر بإطاعة الحاكم والخضوع لقوانينه. استمرت هذه العلاقة ولم تنفجر إلاّ في سياق التقدم الإقتصادي والعلمي والفكري الذي بدأت تشهده أوروبا منذ عصر النهضة، حيث بدت نتائجه الفكرية والعلمية متناقضة مع اللاهوت المسيحي المفروض على الفكر. لاحقاً، انفجر هذا التناقض ووصل إلى ذروته في عصر الأنوار الذي انتج فكرًا سياسياً وعلمياً قوّض المنظومات الفكرية للكنيسة، التي ردّت عليه بعنف مادي وفكري، سواء عبر محاكم التفتيش التي كانت تمتلك سلطات زمنية باسم المحافظة على المبادئ الدينية، أو من خلال توظيف نفوذ الكنيسة لدى السلطة الزمنية لمعاقبة مخالفي منظومتها الدينية والفكرية.

مارست محاكم التفتيش السلطة باسم الدين المسيحي، وكانت فتاوى القتل والتعذيب تستند إلى المنظومة اللاهوتية التي كانت ترشد رجال الدين في الممارسة. كانت المحاكم سلطة دينية بكل معنى الكلمة، وإن لم تكن دولة دينية. التقاطع في المصالح بين الكنيسة والدولة، كان العنصر الفاعل في تمكين رجال الدين من تسليط المحاكم على المسيحيين، من العامة إلى رجال العلم والفلسفة، فلم تنج فئة من فئات المجتمع الا ونالت ما تستحق من العقاب لدى أي مخالفة يرى رجل الدين أنّ هذا المواطن قد ارتكبها. كانت الأحكام استنسابية واعتباطية، ذهب ضحيتها الآلاف من البشر، كله باسم الحق والرعاية الإلهية.

 

ثالثاً: الإسلام والدولة الدينية

إذا كانت الدولة الدينية في اليهودية والمسيحية قد اتخذت منحى الخلط بين الديني والسياسي، بحيث يصعب الحديث عن تحقق الدولة الدينية بمعناها الفعلي، إلاّ أنّ الأمر يختلف بالنسبة إلى الإسلام وتياراته السياسية. إنّ تعبير “أسطورة الدولة الدينية” يطال في واقع الأمر الإسلام، حيث تتموضع هذه الأسطورة بشكل عميق في الوجدان الإسلامي، وتدفع إلى رفع شعار استعادة الدولة الدينية ومعها الخلافة الإسلامية، في وصفه العامل الأساس الذي يعيد إلى المسلمين موقعهم الذي تآمر “الغرب والكفّار” على تقويضه. إن التاريخ الإسلامي والعربي لا يثبت فعلياً أنّ دولة دينية قد تحققت في يوم من الأيام، وأنّ فكر التيارات الإسلامية في هذا المجال ليس أكثر من أساطير ترغب من خلالها تأجيج الوعي الإسلامي وتعبئة الجماهير في الصراع السياسي والاجتماعي وأهدافها في الاستيلاء على السلطة. لا يعني أنّ الشعار لم يكن من دون أساس في التاريخ، فقد تواطأ النظام السياسي مع المؤسسة الدينية في توصيف الحكم القائم بأنه يتبع الشريعة الإسلامية وبأنه خير تمثيل للمسلمين.

 

الإسلام دين لا دولة

قبل تعيين بعض العوامل التي جعلت شعار الدولة الدينية شعارًا متجددًا، لا بد من التوقف أمام السجال الذي لم ينقطع عما إذا كان الإسلام ديناً ودولة، أم رسالة دينية في الأصل والأساس. لا يوجد في الفكر الإسلامي أو العربي القديم أي مفهوم للدولة، بل إنّ مفهوم الدولة الدينية حديث ارتبط بنشؤ التيارات الدينية الإسلامية في القرن العشرين. يمكن القول إنّ هذا المفهوم تلازم مع فكر “الأخوان المسلمين” الذي ربط فيه المؤسس حسن البنّا بين السياسة والدين في الإسلام. في العودة إلى النص الديني الإسلامي المقدس، لا نرى في القرآن أي حديث عن السياسة، ولم يقل القرآن بضرورة الدولة ومنافعها على المسلمين، بل ركّز على وعد المسلمين بالجنّة وخيراتها، ونصر الله والفتح، لأن الدين يقوم على الهداية والتبشير. بل إنّ الإسلام يمكن اختصاره بكونه رسالة إنسانية وقيماً روحية وأخلاقية في الأساس.

قال “الأخوان المسلمون”، آباء كل التيارات الإسلامية لاحقاً، إن الإسلام هو عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل وصلاة وجهاد ومصحف وسيف. والحكومة الإسلامية ركن من أركان الإسلام. هذه الدولة الدينية تستمد سلطانها من الله، فالحاكمية له. إذا كانت التيارات الإسلامية تتنوع في التعبير عن شعار الدولة الدينية وتُدخل عليه تحسينات من هنا أو هناك وفقاً لمقتضيات الحاجة، وتبعاً للظروف السياسية والاجتماعية التي تفرض المواربة في الطرح، إلاّ أنّ الأساس النظري الذي حدّدها الكاتب الهندي الأصل أبو الأعلى المودودي والتزمه “الأخوان المسلمون” يظل من الثوابت في برامج الأحزاب والتيارات الإسلامية.

مقابل هذه الوجهة في قراءة الدولة الدينية، كان لعلماء مسلمين آراء جريئة دحضت كل نظرية كون الإسلام ديناً ودولة، وأصرت على أنه دين لا دولة. مثّل الشيخ علي عبد الرازق واجهة الصدام في الربع الأول من القرن العشرين، من خلال كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، الذي كان، ولا يزال، المرجع الأهم في التمييز بين الدين والدولة، ونفى أن يكون الإسلام قال بالخلافة ووجوبها. قبل عبد الرازق، كانت للشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية آراء مهمة في هذا الموضوع كونها صادرة عن مفتي الديار المصرية وعن شيخ أزهريّ ذي موقع أساسيّ في المؤسسة الدينيّة، حول مسألة الدين والدولة والسلطة. نفى الشيخ عبده نمط السلطة السائد في الإسلام فأكّد عدم وجود شيء اسمه السلطة الدينيّة، وإذا كان من سلطة بالمفهوم الدينيّ، فهي التي تقوم “على الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر”، وهذا هو جوهر الدعوة الدينيّة في الميدان الأخلاقيّ والإنسانيّ. ذهب عبده بعيداً في الجزم بأنّ الخليفة هو حاكم مدنيّ من جميع الوجوه، وبأنّ الشرع الإسلاميّ لم يأت على بيان كيفية إدارة أمور الناس اليومية أو وضع قواعد لنظام الحكم، وحتى ما جرت الإشارة إليه في شأن “الشورى” لا يتعدّى مجرد إشارة عابرة في النص الدينيّ أو في بعض الأحاديث، بل إنّ هناك ما يلفت إلى التأكيد المتواصل من الرسول أنّ المسلمين “أدرى بشؤون دنياهم”.

 

عوامل تجدد شعار الدولة الدينية

منذ اندلاع الانتفاضات في العالم العربي، ارتفع شعار إقامة الدولة الدينية التي انتظرها المسلمون طويلاً وأوفى الله بوعده في إعادتها إلى مجتمعاتهم، وفق ما يردد زعماء التيارات الإسلامية. لم يسقط الشعار من فراغ، بل كانت عوامله تتفاعل على امتداد عقود، وكانت له أسبابه الموضوعية والذاتية المتصلة بتطور المجتمعات العربية.

شكل النصف الثاني من القرن العشرين مرحلة أساسية في صعود الأحزاب والتيارات الإسلامية وحراكها السياسي وتحوّلها لاعباً في الحياة الإجتماعية والسياسية، عربياً وعالمياً. يدلّل على ذلك المنحى العنفي الذي سلكه ويسلكه معظم التيارات التي تنتمي إلى هذا الإسلام. لم تغب هذه التيارات عن التاريخ الإسلامي، لكنها كانت في كل مرحلة من تطوره تتخذ لنفسها شكلاً متوافقاً مع الواقع السياسي والإجتماعي السائد. يشكل النص الديني الإسلامي الرسمي (القرآن والأحاديث النبوية) الأساس الإيديولوجي الذي تتغذّى منه أفكارها وتستند إليه في تبرير مشروعيتها وممارستها. لكنّ النص الديني لم يشكّل يوماً عنصراً كافياً لتحوّل التيارات الاسلامية إلى مشروع سياسي كما هو حاصل منذ نصف قرن حتى اليوم. يحتاج النص الديني المتكوّن في شكل إيديولوجيا، إلى عوامل من التأزم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، وفشل المشاريع السائدة، بما يمكّنه من أن يقدّم نفسه المشروع السياسي البديل الذي ينقذ من الأزمات. لذا لم يكن غريباً أن تتقاطع كلّ المشاريع الإسلامية، على رغم تنوّعها وتضارب مصالحها احياناً، عند شعار موحّد يقول إن “الإسلام هو الحل”.

إذا كانت التيارات الإسلامية بفكرها وتعاليمها واستنادها إلى النص الديني الأساسي لم تغب يوماً عن الحياة العربية والإسلامية، إلاّ أنّ خروجها من القوقعة الداخلية إلى العلن والتحوّل قوة فاعلة، كان يحتاج الى حدث كبير. كانت هزيمة الأنظمة العربية، خصوصا عمادها المصري، في العام 1967 أمام العدو الصهيوني، العنصر اللازم لهذا النهوض. لم تكن هزيمة حزيران مجرّد هزيمة لجيوش عربية في مصر وسوريا والأردن أمام الجيش الإسرائيلي، بل كانت في حقيقتها هزيمة مشروع تحديثي نهضوي تكوّنت قواه على امتداد القرن العشرين، وتكرّس مع هزيمة الإستعمار في شكله العسكري وقيام أنظمة الإستقلال الوطني وحملها المشروع التحديثي في التقدم والحرية.

لا ينفصل الصعود الإسلامي عن التصدّعات البنيويّة التي تشهدها المجتمعات العربية بعد انفجار مشاريع التحديث، وهي تصدّعات تعبّر عن نفسها بانبعاث قوي لمقوّمات ما قبل الدولة، من عصبويات عشائرية وطائفية وقبلية وإثنية، وتراجع دور الدولة لصالح هذه العصبيات. تمثل العودة إلى الصراع السياسي الذي نشب بعد وفاة الرسول حول السلطة وتحوّل لاحقاً إلى صراع مذهبي بين السنّة والشيعة، مادةً ملتهبة في إذكاء نار الإيديولوجيا الإسلاموية.

إذا كان من خلاصة لهذا البحث، فهي أن المجتمعات التي سادت وتسود فيها الأديان التوحيدية، لم تعرف يوماً دولة دينية، كما يدّعي البعض، بل كانت هناك دائماً دولة سياسية توظّف الدين والنصوص الدينية في خدمة مشاريعها السياسية وتكريس سلطاتها وإسباغ المشروعية عليها.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى