أمبرتو إيكو يفضح مافيات الصحافة/ هيثم حسين
لعلّ قارئ إيكو يلاحظ أنّ عمله الأخير هذا يعدّ أضعف أعماله الروائيّة
يعرّي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 – 2016) في روايته الأخيرة “العدد صفر” واقع الصحافة الصفراء في إيطاليا في التسعينيات من القرن العشرين، وكيف أنها كانت تساهم بتسويق سياسات بائسة، والإساءة إلى شخصيات نزيهة وتشويهها بطريقة مؤذية، والدفع بها إلى ميادين التشكيك والتخوين، ولعبة ارتهان تلك الصحافة للسياسة، وتبعيتها لذوي المال والنفوذ، ومسعى المولين لصناعة وسائل ضغط على الآخرين لتحصيل مكاسب بعينها.
يعيد إيكو في روايته (منشورات الكتاب الجديد، ترجمة أحمد الصمعي، 2017) مقاربة وتحليل جوانب من نظرية المؤامرة التي دأب على الاشتغال عليها في أعمال سابقة له، منها روايته “مقبرة براغ”، “بندول فوكو”، ولكن بطريقة محدثة وبحسب حضورها في العالم الجديد، ومأساة بالغرق في التوريات وتغليف الحقائق بأقنعة مزيفة، وصناعة حقائق بديلة وتقديمها للناس، بحيث يتم توجيه أنظار الناس من جانب لآخر بحسب رغبات المتنفذين الفاسدين.
بطل الرواية هو الصحافي كولونا الخمسيني، وكان قد سبق له أن عمل مترجماً عن الألمانية، كما عمل في عدة دور نشر كمحرر، ناهيك عن عمله ككاتب شبح، وهذا هو الدور الذي اختياره له في الرواية من قبل معد الصحيفة الذي يقوم بتوظيفه ليدون تفاصيل عمله، ويلقى على تماس مباشر مع مختلف جوانب العمل في الإعداد للصحيفة التي لن ترى النور، والتي يتأمل أن تشكل بالنسبة له تجربة غنية، ونقطة ضغط على المموّل الذي يسعى بدوره للضغط على الآخرين من خلال استثماره المشبوه في الصحافة.
يتناول خطوات إعداد العدد صفر من صحيفة سياسية يسعى مموّلها إلى الدخول في لعبة المال من أبواب واسعة، ومن خلال الضغط على اللاعبين في ذاك المستنقع الذي يلوث واقع البلد ومستقبله، ويدفع بالناس إلى طريق الهاوية، وذلك عبر مجموعة نقاط وأحداث ومشاريع تروم تحقيق الكسب لبعض النافذين على حساب عامة الناس الذين يقعون ضحايا فساد ممنهج مدمر.
يشير إلى أنه يفترض بالعدد صفر أن يكون عدد الضغط والتمرير، العدد المأمول يكون عبارة عن أعداد يتم الاشتغال عليها، ويتم إيصالها إلى الأشخاص المطلوبين، ليطلعوا عليها، ومن ثم ليحاولوا البحث عن سبل لتدارك الإشكالات التي قد توقعهم بها، وبذلك تكون لعنة صحفييها والعاملين بها وتدخل جحر الأفاعي المفعم بالسموم والخراب.
يبحث صاحب “اسم الوردة” عن جزء من الحقيقة التي يرمز إلى إخفائها في مجموعة من الأكاذيب الملفقة، وكيف أن الصحافة قد تحور الحقائق وتقدمها بطريقة مجتزأة، بحيث قد تحول الحق إلى باطل، أو تخفف من وطأة الباطل من خلال إيجاد تبريرات وأقنعة له، وتصدير مآسٍ مصاحبة أو اختلاقها بحيث يشعر القارئ بأعباء أخرى، ويلتهي عن المشكلة الأساسية التي توضع في الظل.
يعالج جزءاً من لعبة التلاعب بالعقول التي يدفع بعض عناصر العصابات كثيراً من الأموال لتحقيق مآربهم من خلالها، فالصحيفة التي يتم الإعداد لها، والتي تجمع بضعة صحفيين ممن لم يحققوا أية إنجازات لافتة تذكر عبر تاريخهم المهني، تبحث عن نقاط للعبور إلى ميدان الكبار اللاعبين بمصائر الشعب، المستحوذين على خيراته، ولا تكون الغاية هنا تعريتهم بقدر ما تكون مدفوعة بمشاركتهم أرباحهم ولصوصيتهم.
الناشر سيماي الذي يقوم بتوظيف كولونا، يملي عليه شروطه للعمل وتوثيق اليوميات، ليكون الشاهد على تجربة ستكتمل في العتمة وتموت في العتمة، وستكون يومياته التي يدونها بمختلف التفاصيل وأدق الدقائق وسيلته للضغط تالياً على مَن عمل لحسابه، وتحقيق مكاسب مفترضة بناء عليها.
يحكي صاحب “جزيرة اليوم السابق” مفارقة طريفة متمثلة في افتراض أن الزعيم الإيطالي موسوليني لم يمت حين أعلن عن مقتله بل كان هناك شبيه له يقوم بدوره، في حين أنه موسوليني الحقيقي تنكر بشخصية أخرى وانتقل للعيش في الأرجنتين، وذلك بمساعدة الفاتيكان. يقود التحقيق المفترض برغادوتشيو؛ وهو صحافي مهووس بدوره بنظرية المؤامرة ويحاول اقتفاء خيوطها المتخيلة والمظنونة، جامعاً أطراف الحكايات ومالئاً الفراغات باستيهاماته.
يلفت إيكو إلى أن القصة المتخيلة لمقتل موسوليني تؤدي بجامع تفاصيلها الصحافي برغادوتشيو إلى أن يلقى حتفه على أيدي مجهولين يتربصون به، ويجدون فيه تهديداً على أمنهم وسلامتهم، وتخوفهم من مساهمته في كشف النقاب عن جرائمهم المقترفة بسرية تامة.. وفي مقتل الصحافي يتداخل العبث بالأسى، وذلك عبر سلسلة من التخيلات والافتراضات التي تؤدي إلى نهاية تراجيدية لصاحبها.
يتغلغل إيكو في أروقة الغرف السوداء التي تساهم بتشكيل صحافة الفضائح وترويجها وتسويقها، وتفاصيل النقاشات التي تدور أثناء تصدير عناوين بعينها، أو التعتيم على أخرى، وخلخلة البنية الإخبارية ودفع التفكير والتوجّه لدى القراء إلى الوجهة التي يراد تسليط الأضواء عليها، لا تلك التي يفترض بها أن تكون تحت الضوء، وذلك من خلال النقاشات المتداولة بين الشخصيات والتي كانت بمثابة إضاءات كاشفة ومباشرة للفساد الذي يساهم في صنعه صحافيون يغلبون مصلحة الممول على ضمائرهم التي تتبدى كأنها معطلة أو مكبوتة أو ملعونة بهواجس الربح والارتزاق.
يبرز صاحب “اعترافات روائي ناشئ” من خلال عمله كيف أن القراء يقعون ضحية فساد يشكل بعض الصحافيين فيه رؤوس الحربة ضد مَن يفترض بهم أن مؤتمنون على الوفاء لهم، وضد أنفسهم وحرفيتهم أيضاً، وذلك من أجل إرضاء الممول الذي لا يرى في الصحيفة والصحافة إلى عتبة ضغط للدخول إلى دهاليز صناعة القرار وتوزيع الحصص والامتيازات.
يلفت كذلك إلى وأد الصحيفة المفترضة في مهدها، وذلك بعد أن تكون حققت جزءاً من المطلوب منها، والعمل لتمرير وتحقيق مصالح شخص بعينه لا يرى في الصحفيين وعملهم إلى جسراً للعبور عليه ومن ثم إتلافه وتدميره، بعيداً عن أية التزامات بمسؤولية الكلمة أو حرية الصحافيين أو حق القراء في الحصول على المعلومات الدقيقة والصحيحة، وحقهم في عدم التعرض للغش والخداع والتضليل والإيهام.
تدور الحكايات في فضاء دائري يعود إلى نقطة البداية نفسها كل مرة، تلك المتمثلة في تضليل القراء والضغط على شخصيات أو شركات ودفعها للقبول بما يراد منها أو التفاوض بشأنها، وخطورة اللعب بالنيران في وسط هش لا يحتمل مزيداً من التدمير والتشويه، وتكبيت الضمائر المعمول به لدى أولئك الذين يؤجرون أقلامهم وعقولهم لآخرين يستغلونها ويستغلونهم لتحقيق مآربهم.
لعلّ قارئ إيكو يلاحظ أنّ عمله الأخير هذا يعدّ أضعف أعماله الروائيّة، وإن كان قد لجأ من الجانب الفني والأسلوبي، إلى التنويع في الرواة والأصوات، إلا أنّ ذلك، بالإضافة التداخل في الحكايات التي تبدو مبتورة في نهاياتها وتفاصيلها، وكأنها تكتب لتبقى مبتورة، باحثة عن نهاية متخيلة أو تلفيق آخر من قبل قراء أو مضللين، لم يستطع إنقاذ العمل من ورطة أن يكون الأضعف الذي ختم به مسيرته الروائية.
أمبرتو إيكو يفضح مافيات الصحافة هيثم حسين | الخميس 06/07/2017 شارك المقال : 0Google +00 لعلّ قارئ إيكو يلاحظ أنّ عمله الأخير هذا يعدّ أضعف أعماله الروائيّة يعرّي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 – 2016) في روايته الأخيرة “العدد صفر” واقع الصحافة الصفراء في إيطاليا في التسعينيات من القرن العشرين، وكيف أنها كانت تساهم بتسويق سياسات بائسة، والإساءة إلى شخصيات نزيهة وتشويهها بطريقة مؤذية، والدفع بها إلى ميادين التشكيك والتخوين، ولعبة ارتهان تلك الصحافة للسياسة، وتبعيتها لذوي المال والنفوذ، ومسعى المولين لصناعة وسائل ضغط على الآخرين لتحصيل مكاسب بعينها. يعيد إيكو في روايته (منشورات الكتاب الجديد، ترجمة أحمد الصمعي، 2017) مقاربة وتحليل جوانب من نظرية المؤامرة التي دأب على الاشتغال عليها في أعمال سابقة له، منها روايته “مقبرة براغ”، “بندول فوكو”، ولكن بطريقة محدثة وبحسب حضورها في العالم الجديد، ومأساة بالغرق في التوريات وتغليف الحقائق بأقنعة مزيفة، وصناعة حقائق بديلة وتقديمها للناس، بحيث يتم توجيه أنظار الناس من جانب لآخر بحسب رغبات المتنفذين الفاسدين. بطل الرواية هو الصحافي كولونا الخمسيني، وكان قد سبق له أن عمل مترجماً عن الألمانية، كما عمل في عدة دور نشر كمحرر، ناهيك عن عمله ككاتب شبح، وهذا هو الدور الذي اختياره له في الرواية من قبل معد الصحيفة الذي يقوم بتوظيفه ليدون تفاصيل عمله، ويلقى على تماس مباشر مع مختلف جوانب العمل في الإعداد للصحيفة التي لن ترى النور، والتي يتأمل أن تشكل بالنسبة له تجربة غنية، ونقطة ضغط على المموّل الذي يسعى بدوره للضغط على الآخرين من خلال استثماره المشبوه في الصحافة. يتناول خطوات إعداد العدد صفر من صحيفة سياسية يسعى مموّلها إلى الدخول في لعبة المال من أبواب واسعة، ومن خلال الضغط على اللاعبين في ذاك المستنقع الذي يلوث واقع البلد ومستقبله، ويدفع بالناس إلى طريق الهاوية، وذلك عبر مجموعة نقاط وأحداث ومشاريع تروم تحقيق الكسب لبعض النافذين على حساب عامة الناس الذين يقعون ضحايا فساد ممنهج مدمر. يشير إلى أنه يفترض بالعدد صفر أن يكون عدد الضغط والتمرير، العدد المأمول يكون عبارة عن أعداد يتم الاشتغال عليها، ويتم إيصالها إلى الأشخاص المطلوبين، ليطلعوا عليها، ومن ثم ليحاولوا البحث عن سبل لتدارك الإشكالات التي قد توقعهم بها، وبذلك تكون لعنة صحفييها والعاملين بها وتدخل جحر الأفاعي المفعم بالسموم والخراب. يبحث صاحب “اسم الوردة” عن جزء من الحقيقة التي يرمز إلى إخفائها في مجموعة من الأكاذيب الملفقة، وكيف أن الصحافة قد تحور الحقائق وتقدمها بطريقة مجتزأة، بحيث قد تحول الحق إلى باطل، أو تخفف من وطأة الباطل من خلال إيجاد تبريرات وأقنعة له، وتصدير مآسٍ مصاحبة أو اختلاقها بحيث يشعر القارئ بأعباء أخرى، ويلتهي عن المشكلة الأساسية التي توضع في الظل. يعالج جزءاً من لعبة التلاعب بالعقول التي يدفع بعض عناصر العصابات كثيراً من الأموال لتحقيق مآربهم من خلالها، فالصحيفة التي يتم الإعداد لها، والتي تجمع بضعة صحفيين ممن لم يحققوا أية إنجازات لافتة تذكر عبر تاريخهم المهني، تبحث عن نقاط للعبور إلى ميدان الكبار اللاعبين بمصائر الشعب، المستحوذين على خيراته، ولا تكون الغاية هنا تعريتهم بقدر ما تكون مدفوعة بمشاركتهم أرباحهم ولصوصيتهم. الناشر سيماي الذي يقوم بتوظيف كولونا، يملي عليه شروطه للعمل وتوثيق اليوميات، ليكون الشاهد على تجربة ستكتمل في العتمة وتموت في العتمة، وستكون يومياته التي يدونها بمختلف التفاصيل وأدق الدقائق وسيلته للضغط تالياً على مَن عمل لحسابه، وتحقيق مكاسب مفترضة بناء عليها. يحكي صاحب “جزيرة اليوم السابق” مفارقة طريفة متمثلة في افتراض أن الزعيم الإيطالي موسوليني لم يمت حين أعلن عن مقتله بل كان هناك شبيه له يقوم بدوره، في حين أنه موسوليني الحقيقي تنكر بشخصية أخرى وانتقل للعيش في الأرجنتين، وذلك بمساعدة الفاتيكان. يقود التحقيق المفترض برغادوتشيو؛ وهو صحافي مهووس بدوره بنظرية المؤامرة ويحاول اقتفاء خيوطها المتخيلة والمظنونة، جامعاً أطراف الحكايات ومالئاً الفراغات باستيهاماته. يلفت إيكو إلى أن القصة المتخيلة لمقتل موسوليني تؤدي بجامع تفاصيلها الصحافي برغادوتشيو إلى أن يلقى حتفه على أيدي مجهولين يتربصون به، ويجدون فيه تهديداً على أمنهم وسلامتهم، وتخوفهم من مساهمته في كشف النقاب عن جرائمهم المقترفة بسرية تامة.. وفي مقتل الصحافي يتداخل العبث بالأسى، وذلك عبر سلسلة من التخيلات والافتراضات التي تؤدي إلى نهاية تراجيدية لصاحبها. يتغلغل إيكو في أروقة الغرف السوداء التي تساهم بتشكيل صحافة الفضائح وترويجها وتسويقها، وتفاصيل النقاشات التي تدور أثناء تصدير عناوين بعينها، أو التعتيم على أخرى، وخلخلة البنية الإخبارية ودفع التفكير والتوجّه لدى القراء إلى الوجهة التي يراد تسليط الأضواء عليها، لا تلك التي يفترض بها أن تكون تحت الضوء، وذلك من خلال النقاشات المتداولة بين الشخصيات والتي كانت بمثابة إضاءات كاشفة ومباشرة للفساد الذي يساهم في صنعه صحافيون يغلبون مصلحة الممول على ضمائرهم التي تتبدى كأنها معطلة أو مكبوتة أو ملعونة بهواجس الربح والارتزاق. يبرز صاحب “اعترافات روائي ناشئ” من خلال عمله كيف أن القراء يقعون ضحية فساد يشكل بعض الصحافيين فيه رؤوس الحربة ضد مَن يفترض بهم أن مؤتمنون على الوفاء لهم، وضد أنفسهم وحرفيتهم أيضاً، وذلك من أجل إرضاء الممول الذي لا يرى في الصحيفة والصحافة إلى عتبة ضغط للدخول إلى دهاليز صناعة القرار وتوزيع الحصص والامتيازات. يلفت كذلك إلى وأد الصحيفة المفترضة في مهدها، وذلك بعد أن تكون حققت جزءاً من المطلوب منها، والعمل لتمرير وتحقيق مصالح شخص بعينه لا يرى في الصحفيين وعملهم إلى جسراً للعبور عليه ومن ثم إتلافه وتدميره، بعيداً عن أية التزامات بمسؤولية الكلمة أو حرية الصحافيين أو حق القراء في الحصول على المعلومات الدقيقة والصحيحة، وحقهم في عدم التعرض للغش والخداع والتضليل والإيهام. تدور الحكايات في فضاء دائري يعود إلى نقطة البداية نفسها كل مرة، تلك المتمثلة في تضليل القراء والضغط على شخصيات أو شركات ودفعها للقبول بما يراد منها أو التفاوض بشأنها، وخطورة اللعب بالنيران في وسط هش لا يحتمل مزيداً من التدمير والتشويه، وتكبيت الضمائر المعمول به لدى أولئك الذين يؤجرون أقلامهم وعقولهم لآخرين يستغلونها ويستغلونهم لتحقيق مآربهم. لعلّ قارئ إيكو يلاحظ أنّ عمله الأخير هذا يعدّ أضعف أعماله الروائيّة، وإن كان قد لجأ من الجانب الفني والأسلوبي، إلى التنويع في الرواة والأصوات، إلا أنّ ذلك، بالإضافة التداخل في الحكايات التي تبدو مبتورة في نهاياتها وتفاصيلها، وكأنها تكتب لتبقى مبتورة، باحثة عن نهاية متخيلة أو تلفيق آخر من قبل قراء أو مضللين، لم يستطع إنقاذ العمل من ورطة أن يكون الأضعف الذي ختم به مسيرته الروائية.
المدن