أنتَ المسيح؟
خليل النعيمي
لغة السلطة: غرور وأكاذيب.
إنها لغة تتجاهل التناقض الجذري بين الواقع، وبين ما تنقله مفرداتها التي فُرِّغَتْ من محتواها. وهو ما يدلّ على الانغلاق الحاسم لذوي السلطة الذين صاروا، بقوة القهر الذي يمارسونه على الآخرين، بُلَداء الذهن، عديمي الأحاسيس، وبلا مشاعرإنسانية. وأنتَ خير دليل على هذا’النكوص اللغَويّ’ الذي يكاد أن يكون مميتاً.
في هذه اللغة، حتى الوطن يصبح قاتلاً! مع أننا واثقون: ليس هو مَنْ يفعل ذلك، وإنما هي الطغمة المتسلِّطة التي تصنع الموت باسمه. ولأن لغتها تخلو من كل بُعْد نقديّ، ولا تتقن إلاّ الإختزال والإزاحة، فإن كل ما يقال بها يغدو موضوعاً للخلط والإبهام، حتى ليُخيَّل لكَ أنها تَتَلَبَّس الوطن، وهي أبعد ما تكون عنه. فهي جديرة بأن تقول الشيء ونقيضه دون أن يشكل ذلك، بالنسبة لمنطقها الخالي من المنطق، عبئاً، أو نقيصة، أو افتراءً.
إنها لغة تخديرية. اتِّهامية. ليس لها بُعْد مستقبليّ. ولا تحمل وعداً بالحرية، أو بحياة جميلة. ولا تطلب مِمِّنْ يسمعها إلاّ الرضوخ والاستجابة، وتصديق أكاذيبها بلا برهان. فهي نفسها برهان نفسها، باعتبارها ‘لغة كُلّيّة’. إنها تصادر كل رأي لا يناسبها. ولا تقبل الشك، أو الخلاف حتى حينما يكون مصيباً. وهي، مثل السلطة التي ‘تنتجها’: عنيدة، مزيِّفة، وكاذبة. ومثل سيِّدها، مثلكَ أنتَ، ترفض أن ترى العالَم الذي تغيّر، ويتغيَّر كل يوم، حولها، حتى لا تكون مضطرة للتغيّر، والإستجابة لضرورة البقاء الأولية: التواجد في التاريخ البشري، لا الإقامة في العصر الحجري. إنها، ببساطة مشينة: ‘لغة الإنزلاق نحو الداخل’. وليس ثمة إلا العدم.
وبرغم كل هذه الخُبوءات، والألاعيب اللغوية، أنتَ تعرف أننا نعرف: أنك لا تقول الحقيقة عندما تتكلم. نعرف أنك تكذب. لكنك لا تكذب من أجلنا، ولا حتى من أجل حماية نفسك. فالحقيقة، لو كنتَ تعلم، هي خير حامٍ لمن يهدد الكذبُ وجودَه. لكنك، مثل كل الطُغاة، لا تعرف كيف تقول الحقيقة. فالحقيقة ليست خبراً، أو صيغة، أو حكاية، أو كلاماً. إنها سياق حياة الكائن الواعي. يعيش وقائعها بمتعة عالية. ويتدرّب، يوماً بعد يوم، على حيازتها وتبَنّيها. الحقيقة، كالحياة، مُمارَسَة، وليست قولاً مجرَّداً مهما كان جميل الإنشاء، ومُدْهِش العبارة. وأنتَ لستَ من صنف الذين يقولونها. ولغتكَ غير لغتهم، أيضاً. هل فهمتَ؟
تقول إنكَ تريد أن تنقذ الشعب من تآمر الشعب على نفسه! أن تخلِّصه من التشرذم والخراب! أن تحافظ على أمنه، واستقراره! وحماقات أخرى كثيرة تقولها دون أن تجهد نفسك لتخطو ‘خطوة تاريخية’ أبعد من قولك. فأنت، الطاغية، قولُـكَ وحده يكفي، كما تظن. وهو خطأ تاريخي قاتل. ولكنك لا تستطيع أن تتَجَنَّبه.
لغتُكَ الأم، لغة السلطة، هي التي تسحبكَ من لسانك لترميكَ في وحل التناقض العجيب بين ما تقول وما تفعل. أوَلستَ تابعاً لها؟ وإلاّ لِمَ لا يخطر لكَ أن تسأل نفسك سؤال الوجود الجوهري الذي يطرحه كل كائن عاقل على نفسه عندما يقْدم على أمر خطير: لِمَ عليَّ أن أفعل ذلك؟! والآن، نحن نسألك رافضين ادعاءتك التخليصية لنا: أنتَ المسيح؟ وإذا كنتَ تملك كل هذا الإحساس العالي بالأبدية المُخلِّصة، لِمَ لا تحاول أن تنقذ نفسكَ من مصيرك المشؤوم الذي يلوح، في الأفق القريب، مثل راية سوداء فوق رأسكَ؟
أنت تتكلم، ونحن نموت.
نحن نتعلم، و أنتَ لا تفعل غير التكلُّم. تتكلم بتكبُّر وعناد. وقد عَلَّمنا التاريخ العربي: ‘أن التكَبُّر على أهل التَكَبُّر عبادة’. نحن نعرف أنك عندما تتكلم لا تقول شيئاً مجدياً، لأنك بلا حقيقة، ولم تجرِّب قسوة الطغيان. نعرف، أيضاً، أنكَ ستظل تتكلم إلى أن يأخذك السيل الجارف: سيل الثورة العربية الكبرى، مثل قشة فوق ظهره، قبل أن يلقي بك في الحضيض.
المفهوم المُخاتِل: ‘مفهوم الحفاظ على أمن الوطن’، لا يبرر طغيانك، واستعلاءك، وتَسَيُّدك، علينا. فالوطن ليس مقصلة. وحتى لو كان كذلك، ويستوجب التضحية من أجل تحريره، يكفي أكثر من ألفَيْ قتيل. تقول إنك تريد أن تحمي الشعب من الأذى الذي يمكن أن يسببه لنفسه، أن تصون البلاد والعباد. عجباً! والشعب شَبَّ عن الطوق. تريد أن تعيد الجنيّ إلى القمقم بعد أن خرج منه؟ مَنْ أنتَ؟ مرة أخرى، نعيد السؤال عليكَ: أنت المسيح؟ ولأنكَ لستَ هو، نقول لكَ: أزِحْ ظلَّكَ الثقيل عن العالَم، ودَعِ الشعب يقرر مصيره، كما يريد. وإذا أردتَ أن تعرف الحقيقة التي لا تريد أن تعرفها، مع أنك لم تعد تجهلها: لم يبْقَ لكَ، بعد اليوم، خيار آخر غير هذا، فلا تضيِّعْه. أيها المسيح الدجّال.
كاتب من سورية يقيم في باريس
القدس العربي