إرحمونا من الصواب السياسي!/ وليد بركسية
من حملة مكافحة التحرش في هوليوود، إلى الحملة التضامنية مع المحجبات في العالم، وأخيراً الجدل الطازج حول المغنية الفرنسية المحجبة في برنامج “ذا فويس”، يمكن تلمس شيء من الخشونة والإكراه في تبني آراء طوبابوية. وكأن تلك الدعوات التي تبدأ بشكل محق تنحرف عن مسارها فجأة، في اللغة والأساليب، وحتى في الأهداف بالسعي إلى نوع من اليوتوبيا، وهو أمر مستحيل عملياً، لتفضي إلى جدل مواز حول طبيعة التضامن الإنساني ومحدداته ولغته، مع سهولة التشهير والتعرض للأشخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتبدو حملات التضامن الجارية مع منال ابتسام، المشاركة المنسحبة من برنامج “ذا فويس” بنسخته الفرنسية، غير مفهومة. فالتصريحات التي أدلت بها ابتسام، وكشفت عنها صحف فرنسية، عنصرية ومقلقة في حد ذاتها، سواء اتهامها للحكومة الفرنسية بالإرهاب بعد ذبح كاهن فرنسي على يد تنظيم “داعش”، وتشكيكها في إعلان باريس أن منتمياً للتنظيم شارك في هجوم نيس، وصولاً إلى دعمها طارق رمضان، حفيد مؤسس جماعة “لإخوان المسلمين” حسن البنا، المتهم بقضية اغتصاب.
الحديث عن عنصرية تمارس بحق ابتسام، لمجرد أنها محجبة أو لأنها مسلمة أو ذات جذور عربية، ليس أكثر من ضرب من الخيال. على الصعيد العربي، هناك تيار عام يستلذ فقط بلعب دور الضحية ويتصيد أي فرصة لإلقاء اللوم في فشله الذاتي على المؤامرة الكونية ضد العرب وضد الإسلام، وعلى نطاق أوسع يوجد تيار بات مزعجاً في كل ما يقوم به من حملات تضامنية مع أشخاص قد لا يستحقون التعاطف، وربما يأتي ذلك من الفراغ أو الملل أو حتى من فكر طوباوي ساذج يسعى لبناء مملكة خيالية لا وجود لها.
التضامن مع ابتسام لمجرد أنها محجبة ومسلمة في وسط مختلف عنها، يعتبر عنصرياً وتمييزاً في الوقت نفسه. مجرد الاختلاف عن المحيط السائد، عرقياً ودينياً وجندرياً، لا يعطي لأي شخص الحق في اكتساب أكثر مما يستحق، مادياً أو معنوياً، ولا يعطيه الحق في لعب دور الضحية أيضاً. في الواقع، هذا أمر مثير للشفقة: “أنظروا إليّ، لقد انسحبت/فشلت، لأنهم عاملوني بعنصرية”ّ! ربما ما يجب التساؤل هنا ليس عنصرية الصحافة الفرنسية المزعومة، بل العنصرية والتطرف في تصريحات ابتسام نفسها قبل أي شيء آخر.
المشهد قد لا يكون بتلك الأهمية مع مغنية مغمورة، مثلما هو الحال عندما يتعلق بالتباكي الإلكتروني، مع زوجات المقاتلين الداعشيين اللواتي عدن إلى أوروبا مع أطفالهن بعد سنوات من الحياة في ظل الخلافة، باختيارهن الطوعي. والقول مثلاً أن هناك مشكلة في الحكومات الغربية التي تنظر لأولئك الأشخاص كتهديد أو خطر أو مأزق لا يمكن التعامل معه إلا بحذر، والميل إلى الحديث عن المساواة والتمييز، حتى لو لم تكن تحدث بحقهم أي انتهاكات لحقوق الإنسان.
والحال أن مراقبة الخط الزمني خلال الأشهر الأخيرة للمواضيع التي يتم “التظاهر” أو “الحشد” من أجلها، يشي بغرابتها، وهي غير منطقية أحياناً. الحديث هنا بالتحديد عن حملة دعم الحجاب بوصفه “حقاً اختيارياً” والتي تزامنت بشكل مدهش مع حملة نسائية شجاعة في إيران ضد الحجاب نفسه. وللحظة بدا “الحقوقيون” و”الإنسانيون” منفصلين عن الواقع بشكل تام، وكأنهم فقدوا القيمة الحقيقية التي يجب عليهم الدفاع عنها أو التضامن معها.
السؤال الأبرز هنا هو كيف يمكن التضامن مع رمز للقمع الديني على الجسد البشري؟ وهل يمكن اعتبار “الفرض الديني” حرية شخصية في نهاية المطاف، وبالحديث عن الطوباوية ألا يجب على الحملات الطوباوية نفسها السعي لتحقيق الطوباوية المطلقة في الحرية التي تقتضي التحرر من الدين نفسه أو على الأقل من فروضه الأكثر قمعية، بحق الجسد قبل أي شيء آخر؟ وهل يكفي الحديث عن المساواة بين المحجبات وغير المحجبات أو بين المسلمين، على صعيد الممارسات العنصرية، كمبرر للحملات الإلكترونية الجدلية، من دون تقديم خطاب أشمل يواجه المشاكل الحقيقية، والعنصرية المضادة في وجود الحجاب نفسه، سواء كان “اختيارياً” مثلما يتوهم البعض أو إجبارياً كحالته في إيران أو السعودية أو تحت حكم “داعش”، وتوسيع ذلك الجدل من التضامن مع الإسلام كـ “تريند” لطيف نحو الحديث عن جذوره العنفية على سبيل المثال؟
الاتجاه المتزايد للتضامن الإنساني بات يأخذ منحى يريد فرض الطوباوية المستحيلة عبر نفس النمط من محاكم التفتيش التي يدعي أنه يحاربها. ويتحدث البعض في مواقع التواصل عن جيل الألفية والصواب السياسي والميل المتزايد للوم اليمين المتطرف على كل حدث “سلبي”، وخصوصا عندما تبلغ الأمور حداً متطرفاً من النقد المجاني، مثل الحملة الأخيرة ضد سلسلة “فريندز” الأيقونية، بوصفها معادية للمثليين وبعيدة عن التعدد العرقي.
ويجب القول هنا أن حملات التضامن المشوهة، التي لا تقتصر على جيل الألفية، تبتعد بشكل مقصود عن ملامسة جوهر المشاكل، وتركز على القشور، وربما تكون هذه النقطة بالتحديد السبب المباشر في الحدة التي تتسم بها مفردات التضامن، وإلقاء صفة اليمين المتطرف أو النازية الجديدة ضد أي شخص يمتلك رأياً مخالفاً، بدلاً من تقديم إجابات للأسئلة أعلاه.
وإن كانت مشكلة الحجاب نفسها تبدو دقيقة، لأنها تمس النص الديني مباشرة، إلا أن ذلك ليس موجوداً في حالة حملات مكافحة التحرش، والتي رغم أنها تخدم هدفاً نبيلاً وضرورياً، مع حقيقة إحداثها تغييراً غير مسبوق وكشفها متحرشين بالأسماء، إلا أنها، في هوليوود تحديداً، بدأت فجأة تخرج عن نطاق السيطرة إلى حد لم يعد بالإمكان تمييز الاتهامات الكاذبة من الوقائع الصحيحة، ويتجلى ذلك في حالة الاتهامات الموجهة للممثل عزيز أنصاري على سبيل المثال، والتي تبدو كرغبة شخصية في الانتقام ضمن سياق الحملة المحق، فضلاً عما عبرت عنه الممثلة الفرنسية كاترين دينوف مع 100 امرأة فرنسية، من مخاوف بشأن الحرية الجنسية وانحراف النسوية عن مسارها العادل نحو عداء الرجال بهذا الشكل المستفز على الطريقة الأميركية.
الحديث عن اليمين واليسار في الدول الغربية، يعتبر جدلاً داخلياً، لا تمتلك رفاهيته دول الشرق الأوسط، حيث لم تتطور البنية السياسية بعد نحو الديموقراطية التي تتضم أطيافاً “طبيعية” من التيارات السياسية بين اليمين واليسار، من دون أن يشكل الانتماء لأي اتجاه بينهما سبباً كافياً لتلقي شتيمة ما مثلاً، بعكس اليمين المتطرف الذي يهدم الديموقراطية نفسها بوصفه حركة ضد النظام “Anti-Establishment”. ولعل الحركات الإنسانية أكثر من اللزوم هي نقيض ذلك الاتجاه، أي أنها يسار متطرف، خارج عن النظام وعن المنطق أيضاً، وهو أخطر لأنه يتخفى تحت كلمات براقة ومثاليات جذابة تحت اسم “الخير”.
المدن