إشكاليات تنوع المكوّنات في سوريا
عمر كوش
قبل بداية الثورة السورية، التي انطلقت في الخامس عشر من آذار/مارس 2011، وعلى امتداد أكثر من أربعة عقود مديدة، ما كان من الممكن الحديث عن تنوع المجتمع السوري، ولا عن مكوناته الاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، ولا الخوض في نقاش عام، يتناول مسائل المواطنة والدستور والحريات وسواها، لأن السلطة الحاكمة كانت تعتبره حديثاً محرماً، ويدخل في عداد خطوطها الحمراء، مع أن المشكلة في سوريا لا تختصر في إشكاليات المكونات الدينية والاثنية، وعلاقاتها البينية، ولا في مشكلة دستورية على أهميتها، بل في إشكالية نظام سياسي بأكلمه، نهض على حالة من الاستثناء، يدعمها نهج تسلطي، يستند إلى القمع والهيمنة، وعلى مركبات توظيف مختلف الانتماءات ما قبل المدنية.
وفي ظل سيادة حالة الاستثناء، التي ضربت حياة قطاعات واسعة من السوريين، ابتعدت الدولة السورية عن صورتها المدنية، ولم يعرف السوريون فيها سوى سطوة قوانين الطوارئ والمحاكم العرفية، وتعطيل العمل بالدستور، والقفز فوق القانون من طرف الأجهزة والمتنفذين والمسؤولين وأولادهم، مع سعي قوى السلطة الدائم إلى الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع وحراكه، فانتفى الرأي العام، وغابت أصوات قوى المجتمع الحيّة المتنوعة، مع اختفاء المؤسسات والمنظمات التي يمكنها الدفاع عن الصالح العام، وانتفاء مختلف أشكال الجسور والتوسطات ما بين الدولة وبين المجتمع.
ولعل مشكلة تنوع التكوينات الاثنية والدينية، هي من بين المشكلات التي ينبغي الاعتراف بوجودها، بغية البحث عن مخارج لحلها، ليس من منطلق النظر إليها بوصفها معطيات سياسية أو أنثروبولوجية ثابتة، بل بوصفها مشكلة قائمة، متعددة الوجوه، عمل النظام الحاكم في سوريا، طوال عقود عديدة، على استغلالها وتجييرها لأهدافه السياسية، سواء من جهة ضرب هذه المكونات، أم بالاستناد إلى جهة بعينها، وجعلها رهينة بين يديه، أو من جهة تخويف المكونات من بعضها البعض، وخاصة عند استغلاله المكونات الأقلية لضرب المكون الأكثري وتهميش غالبية ناسه. ونتج عن ذلك الممارسات نزع صفة المواطنة عن جملة الأفراد وتحويلهم إلى رعايا، ينتظرون عطاء الحاكم، وتحويلهم إلى أبناء أقليات، وإلى أقلويين، والنظر إلى سوريا بوصفها تجمع أقليات تابعة أو خاضعة وأقليات يجب ترويضها وإخضاعها، بغية إدامة النظام السلطوي.
وحين بدأت الثورة السورية حراكاً احتجاجياً سلمياً في الخامس عشر من شهر آذار / مارس 2011، لجأ النظام الحاكم منذ البداية إلى شن حرب شاملة على المحتجين وعلى البيئة الحاضنة له، الأمر الذي أعلن عن تغيرات في مسار الثورة، وتغاير مركبات ومكوناتها، بوصفها حدثاً تاريخياً، لم يشهد تاريخ سوريا مثيلاً له، ولن يتوقف عند حدود التغيير السياسي فقط، بل ستكون له تأثيرات وامتدادات، تطاول إعادة بناء الدولة، وولادة شعب جديد وهوية وطنية سورية جديدة.
ونشأت أزمة وطنية عامة، عمقتها طريقة تعاطي النظام مع الثورة وناسها، وهي أزمة تضرب جذورها في ممارسات عقود عديدة خلت، أفضت إلى تآكل قيم العيش المشترك والتعاقد الاجتماعي، ثم كثر الحديث عن الأقليات في سوريا، في أيامنا هذه، وعن مخاوفها من الثورة، ومن حالة الفوضى المحتملة بعد سقوط النظام، وترافق بالتخوف من حدوث فراغ وعمليات انتقام ضد الأقليات، وسوى ذلك من التخوفات والتهويمات والمبالغات بشأن التركيبة السورية. والتي يريد بعضهم من ورائها، تصوير النظام الأسدي وكأنه حامي حمى الأقليات.
ويشير واقع الحال، أنه لم تكن في سوريا مشكلة أقليات وأكثرية، لولا تواتر حالات التمييز القومي أو الطائفي من قبل السلطة، التي وظفت الطائفية في أبشع صورها، بالتزامن مع خطاب إنكار للطوائف والاثنيات، ومتجاوزٍ لها، وذلك لضمان ولاء الطائفة العلوية، والأقليات الأخرى، على حساب الرابطة الوطنية والسياسية، ومعايير الكفاءة والنزاهة، واستجرار وتشجيع ردود فعل مختلف الولاءات ما قبل المدنية. مع العلم أن هنالك مراحل من تاريخ سوريا الحديث، لعب خلالها سوريون، من مختلف المكونات القومية والدينية، دورا متكاملاً في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وشكلت عندهم قيم المواطنة والمساواة قاسماً مشتركاً، وغلبت انتماءاتهم إلى الأحزاب الحداثية على أي انتماء.
وقد مارست السلطة الحاكمة في سوريا نهجاً، ينهض على الاستبعاد في شتى درجاته، حيال الأفراد والتكوينات الاجتماعية، ودفعت بهم إلى خارج المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، مقابل الدفع بتكوينات اجتماعية أخرى إلى مراكز متقدمة من التحكم بمقدرات الدولة والمجتمع. وارتبط كل ذلك بجملة من العوامل المذهبية الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على خليفة إثارة الصراع بين مختلف مكونات التنوع في سوريا، وخلق علاقات قوة جديدة، أبعدت المكونات المدينية مقابل استقدام المكونات الريفية، وإعادة توطين أفكار الصراع على مصادر القوة بين الأقلية والمجتمع، ودفع المستبعدين إلى الاحتماء بمختلف التكوينات ما قبل المدنية.
ولا شك في إن أحد أهم التحديات المطروحة على سوريا ما بعد النظام الأسدي، هي إدارة التنوع والاختلاف، بما يفضي إلى بناء “دولة وطنية” سورية قائمة على عقد اجتماعي جديد، ينهض على المواطنة والتعددية والديمقراطية، ويفتح صيرورة لاندماج اجتماعي، ولصيرورة خلق شعب سوري، يحمل هوية وطنية سورية جامعة.
والمدخل الصحيح لمعالجة إشكاليات التنوع والاختلاف في سوريا هو سلامة المعالجة ودقتها، التي تتوقف على معالجة إشكاليات مختلف التكوينات الاجتماعية، ضمن عقد اجتماعي ديد، ينهض على المواطنة المتساوية، ويستند إلى الخصوصية السورية في غلبة مسار الانصهار الوطني، ومواجهة نوازع التفرقة والتمييز، حيث أن المجتمع السوري لا يملك رصيداً من الأحقاد والمواجهات بين مكوناته، إضافة إلى أن درجة الوعي الشعبي العام للسوريين، والتفافهم حول مهام وقضايا وطنية واسعة، ترك أثاره الإيجابية على تضامنهم ووحدتهم واندماجهم، وساعد في تمكين بناء دولة وطنية نأت عن المحاصصة السياسية الطائفية، وبالتالي من المهم الاستناد إليها وتقويتها في مواجهة البنى العصبوية التقليدية، وعدم إتاحة إمكانية تبلورها في مشروع سياسي خاص.
المستقبل