إشكالية المثقف السوري في المشهد الراهن/ سلمى عبد الله
■ ثمَة تباينٌ حاد في مواقف المثقفين السوريين، ظهرت خطوطه البيانية من خلال اصطفاف بعضهم مع النظام، والبعض الآخر مع الحراك الثوري الذي أيَدوه وشارك بعضهم فيه منذ بداياته، تباين يحفِز العقل لطرح التساؤل: من هو المثقف الحقيقي بينهم؟ لقد أوضح جوليان بندا في كتابه «خيانة المثقفين» أن «المثقفين الحقيقيين يشكِلون طبقة العلماء، أو المتعلمين البالغي الندرة حقا»، لأنَ ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل، وهي لا تنتمي إلى هذه الدنيا.
من هذا الكلام العابر لحدود الزمان والمكان، نتعرَف إلى المثقف الحقيقي الفاعل والمؤثِر في قضايا وقيم يتلاقى حولها البشر جميعاً، مثقَف يواجه السلطة بمبادئ الحقّ والعدل، لبناء مجتمع تسود فيه تلك المبادئ. فإذا كان هذا هو حال المثقف الحقيقي، فإنّ الأنظمة الاستبدادية بما تملكه من وسائل قمع تقليدية ضد معارضيها، سعت جاهدة إلى بسط هيمنتها على المجتمع، وقامت أيضاً بمحاولة السيطرة على الفضاء الثقافي لأهمية دور المثقفين في تشكيل الوعي الجمعي، ولدورهم التاريخي في مكافحة الاستبداد. ومن خلال إدارة سيطرتها الطاغية على المعرفة الوهمية التي تؤسسها، تحاول هذه الأنظمة تحويل المثقف إلى لسان حال الفكر الاستبدادي الذي ترُّوج له، مُوظَّفة كل الوسائل من إغراء وجذب للانضمام إلى فضائها السّياسي والسّلطوي، مسخّرة الأجهزة والأحزاب والمؤسسات، وبذلك تحصل على عالم من الثقافة والمثقفين تحت سلطتها.
وقد ظهر ذلك جلياً في المشهد السوري، حيث قام النظام الاستبدادي في تبني تلك الآلية بشكلٍ مبرمج، عندما وظَف الطائفية وألصقها بالحراك الثوري، وقام ببث فكرة المؤامرة الكونية عليه باعتباره معقلاً من معاقل «الممانعة» و«المقاومة»، بغية استقطاب المثقفين. هذه الآلية كان لها الدور الأبرز في انزياح أفكار بعض الفئات المثقفة، الذين تحولوا إلى مثقفي سلطة، فوقفوا مع النظام وأيَدوه وارتموا في أحضانه بدون مقابل، والبعض منهم ناضلوا ضده في السابق. ولكنَ الطائفية السياسية التي كانت في عقولهم بررت القتل والقصف والحصار إيماناً منهم بأنّ الارتماء في حضن نظام قوي أفضل وأهون من سلطة «الحركات الإرهابية». هذه المواقف أسست لمقولة انتشرت بين بعض طبقات المجتمع السوري، وتبنّاها بعد ذلك العديد من المثقفين وأصبحت نظرية أيضاً، عنوانها «أهون الشرَين» ومفادها، أنّ وجود نظام استبدادي أهون شراً وضرراً، مع العلم أنّ أغلب تلك الفئات المثقفة المنزاحة كانت ضحايا هذا النظام في ما مضى. وفي الصفّ الآخر لم ينجُ بعض المثقفين المؤيّدين للحراك الثوري من الوقوع في مطبّ الطائفية السياسية بوعي أو بغير وعي، فبرّروا بعض الممارسات الطائفية للحراك التي كانت ردّ فعل على ممارسات النظام.
وفي مشهد آخر من إشكالية المثقف في سوريا وبالتوازي مع الآلية المبرمجة الآنفة الذكر، عمد النظام إلى تجنيد بعض الفئات المثقفة التي لمس عندها جشع المال والسلطة والشخصنة. وهذا التجنيد حوّلهم إلى كائنات وظيفية عنده، مثلّت مثقف السلطة الجديد المأجور، وكوّنته جنيناً نما وتطوّر وحشاً أنسياً جاهزاً عند الطلب، ومثقفاً متحولاً يخوّن كل مَن يخالف استبداد النظام، مستخدماً ديماغوجية ممنهجة تتشابك فيها الحقائق والوقائع مع الأكاذيب. إنه سوط ضرب المثقفين الحقيقيين في الداخل والخارج، الذين وقفوا مع الشعب السوري في ثورته على الظلم ومطالبه في الحرية، وكانت خياراتهم عابرة لكل الطوائف، ولذلك سرعان ما وجدوا أنفسهم بين سندان النظام المستبد ومطرقة الحركات الإرهابية التي سلبت آمال السوريين في الحرية واختطفت ثورتهم.
لذلك وجد هؤلاء المثقفون أنفسهم عرضة، في الداخل والخارج، لكل وسائل التشهير والتخوين من أقلام المثقفين المأجورين، ووسائل إعلام سلطوية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك عن ملاحقة الحركات الإرهابية لهم في الداخل، وخطف بعضهم، أو حتى تصفية البعض. بيد أن المثقفين في الخارج كانوا أقل عرضة لمعاناة الملاحقة والخطف، بسبب البعد المكاني الذي اختاروه قسراً وهرباً من مكان معوّق لأفكارهم وحريّاتهم وحياتهم. لقد حملوا في ذواتهم أفكارهم وتجاربهم وحوّلوها إلى آثار فكرية ونتاج معرفي، وثّق لأحداث ستكون شاهداً ودليلاً في المستقبل، من موقعهم المنفوي الذي سيكون البديل لأوطانهم التي أُبعدوا عنها. لقد تولّدت عند هؤلاء حالة من الرضى والاطمئنان، لأن هذا المكان ساعدهم في القيام بمهمات المثقف الحقيقي.
إن هذا الواقع للمثقفين في الداخل والخارج جعل الإشكالية للمشهد الثقافي في سوريا تتأرجح وتتباين من مثقف سلطة مأجور إلى مثقف مشبع بالطائفية والفئوية، ومثقف حقيقي مازال يحمل آراء الحرية والعدل والحق، ويعمل على تحقيقها، لأنه المعارض الحامل على عاتقه مهمة التنوير، وخلق البدائل على كافة الأصعدة، وداخل كل الطبقات، ولأنه يمتلك رؤية ورؤى تبعث فينا الأمل والمقاومة، بدون التقيد بحدود الزمان والمكان. ولأن على المثقف الحقيقي أن يكون فرداً يصعب على السلطة أن تستقطبه، وأن يراعي معايير ومستويات سلوكية لائقة تحقق العدالة، فأي انتهاك لهذه المعايير والمستويات عن عمد أو بدون قصد لا يمكن السكوت عنه، بل لابد من إشهاره ومحاربته بكل شجاعة. فطوبى للمثقف الحقيقي في الداخل السوري الحاضر والمغيّب، وطوبى له في الخارج.
٭ كاتبة سورية
القدس العربي