صفحات الرأي

إعجاز أحمد مسانداً الاستبداد: كيف تقمص «الاستشراق» ناقده؟/ حسام عيتاني

 

 

تطابق عبارة «الاستبدادي لكن العلماني» التي يكررها الكاتب الهندي إعجاز أحمد في وصفه نظام بشار الأسد، معنى كلمة «العلماني» وحدها حيث تسقط كلمة «الاستبدادي» في سياق تفضيل العلمانية على الخطر الإسلامي الذي يواجهه الأسد.

قد يُدهش القارئ المطلع على عمل أحمد «في النظرية» بين التماسك المنهجي الرفيع المستوى الذي يظهر في فصول الكتاب وقدرته على تحليل بعض أكثر الكتابات إشكالية ووضعها في سياقها المعرفي والفكري الدقيق وبين تخبطه المفجع في تناوله الثورات العربية، والسورية منها على وجه التحديد.

سنعتمد هنا على مقالتين طويلتين لإعجاز أحمد كتبهما لمجلة «فرونتلاين» في 2011 («التمرد والرجعية») و2014 («أم المعارك») عن الثورات العربية وكيف رآها بين عامها الأول وبعد ثلاث سنوات حافلة. وسنعود على سبيل المقارنة إلى الفصل الذي خصصه لنقد كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» والذي حمل عنوان «الاستشراق وما بعده».

لا يبدو الفارق بين المقاربتين مهماً لمن لم يتساءل عن السبب الذي يحمل عدداً من أبرز المفكرين اليساريين المعاصرين الذين ساندوا قضايا العرب في التحرر الوطني، في فلسطين وغيرها، والصراعات من أجل العدالة الاجتماعية والحريات في العالم العربي، على تفضيل الاستبداد الذي يمثله في حالتنا النظام السوري على الثورات العربية. لا تقتصر علة ذلك على الخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة، على ما يصرح أحمد في العديد من المواقع، ولا على تحول البلدان العربية التي تشهد ثورات إلى قواعد للإمبريالية الاميركية. بل إن العطب الأبرز يكمن في سوء قراءة لا رجاء من تعديله وتصويبه لحقائق العالم العربي البسيطة ومن بعدها للعالم ككل. بل إن بعض الأخطاء التي يرتكبها من النوع المدرسي الذي لا ينتظره القارئ من صاحب «في النظرية».

لنبدأ مع ما سنسميه «خطة الهجوم». العالم العربي في رأي أحمد يتعرض لهجوم تقوده الولايات المتحدة واسرائيل ودول الخليج ويرمي إلى تدمير الدول القائمة والمعادية للهيمنة الاميركية بهدف نهب مقدرات المنطقة من خلال فرض السياسات النيوليبرالية. أدوات هذا الهجوم هي الإسلاميون على أنواعهم، من «الإخوان المسلمين» إلى «داعش» مروراً بتنظيم «القاعدة» وشتى أصناف ومدارس التكفيريين والوهابيين. نهج الهجوم هو مأسسة الصراع الطائفي في العراق وهي المهمة التي أداها الاحتلال الاميركي في 2003 (والذي يطلق عليه خطأ تسمية «أم المعارك» خالطاً بذلك بين التسمية التي أطلقها صدام حسين على هجوم التحالف الدولي لطرده من الكويت في 1991، وغزو العراق الذي سماه صدام «معركة الحواسم»)، وبدأتها تركيا والولايات المتحدة وحلفاؤهما العرب على سورية في 2011.

والحال أن لا جديد تحت الشمس. فخطة التكفيريين تتماهى، في رأي أحمد، مع خطة المحافظين الجدد. الجانبان يريدان السيطرة على العراق وسورية ناهيك بصداقة وطيدة تجمعهما منذ عهد الرئيس ايزنهاور، وتكرست في التحالف ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. كل ما في الأمر أن الموجة الأولى نفذها الاميركيون في العراق وتبعتها موجة تركية تكفيرية في سورية.

ما غاية الهجمات؟ في مقالة «التمرد والرجعية» يرسم أحمد لوحة كبيرة لتصاعد عولمة الاقتصاد ولمقاومتها ثم للأزمة التي أصابت الغرب في 2008. ويربط، من دون توفيق، بين حركة «احتلوا وول ستريت» والثورات العربية، خصوصاً عند اندلاعها في تونس وانتقالها إلى مصر، مشدداً على تمازج النيوليبرالية مع أنظمة الحكم القمعية والفاسدة في بلدان الثورات العربية، وهذا تشخيص سيختفي لاحقاً عند تناول الحالة السورية.

باختصار، يرى الكاتب أن الإدارة الاميركية ما زالت متمسكة بمشروع الهيمنة من خلال التخريب والاحتلال. لكنه لا يقدم إثباتاً على كيفية انتقال هذا المشروع من إدارة جورج دبليو بوش التي سيطر المحافظون الجدد على مفاصل رئيسة فيها، إلى البيت الأبيض في عهدي باراك اوباما. وإذا كانت السياسة استمراراً، على ما يقال، فما هي علامات الاستمرار هذا في الشرق الأوسط بين عهدي بوش واوباما وفق إعجاز أحمد؟ كيف استمر النهج الاميركي ذاته بين أقصى التدخل وأقصى الانكفاء؟ الرد الجاهز هو «الاستمرار في خدمة المصالح». لكن ما هي هذه المصالح وكيف تُعرف وكيف تبقى في الزمن من دون تغيير؟ لا جواب مفهوم.

وعلى القارئ أن يصدق أن المصالح الاميركية (التي يخدمها التكفيريون المحليون) يجري الحفاظ عليها بالطريقة ذاتها أثناء تقدم المحافظين الجدد وأثناء تراجع باراك اوباما. يمكن فهم الاستراتيجية الاميركية أنها تسعى فعلاً إلى الدفاع عن المصالح العليا بطرق مختلفة، لكن يصعب كثيراً الاقتناع بأن المحافظين الجدد وباراك اوباما (من دون إبداء أي تفهم لسياساته) يستخدمون التكفيريين بالأسلوب ذاته ولتحقيق الأهداف ذاتها.

تتعلق المسألة الثانية بالعداء الغريزي من مـــاركسيي العالم الثالث للإسلاميين. هذه نقــــطة بلغــــت حد الابتذال على ما نشهد من كتابــــات أشخاص أظهروا في أماكن أخرى قدراً معتبراً من الرصانة والحصافة. وفـــق منطق هؤلاء يجوز اختزال الإسلاميين، بغض النظر عن مدارسهم وفرقهم، إلى عملاء للغرب واسرائيل حتى لو لم يدركوا، بل حتى لو حملوا السلاح ضد ممثلي الغرب في مناطقهم. لماذا؟ لأنهم لا يدركون الأساليــب الملتـــوية التي يستخدمها الغـــرب لاستغلالهم ودفعهم إلى القتال ضد الأنـــظمة «القومية العلمانية» ومنها نظــام بشار الأسد بطبيعة الحال. ولا حاجة للقول إن هذه الأنظمة هي النقيض الفعلي للهيمنة الغربية على منطقتنا وثرواتها.

يختفي هنا الباحث الساعي إلى فهم التاريخ، انطلاقاً من معطيات الاجتماع والاقتصاد ليتحول شخصاً مصاباً بلوثة الأدلجة والابتسار ونظرية المؤامرة بأبسط أشكالها. الإسلاميون، بهذا المنطق، ليسوا نتاج مجتمعاتهم بأزماتها ومشكلاتها وثقافتها واقتصادها، بل هم جسم غريب على نضالات الشعوب التي لا همّ لها غير التصدي للإمبريالية والرجعية. ولا ينبغي التعامل معهم تعاملاً سياسياً بل الاكتفاء باستئصالهم وطردهم من المشهد طرداً نهائياً.

الغريب في مقالي إعجاز أحمد أنهما جعلا منه تلميذاً مخلصاً لنهج ومنطق إدوارد سعيد الذي أشبعه نقداً، بحيث بدا أن روح سعيد تقمصت في إعجاز بعدما قضى هذا على منهج «الاستشراق» قضاء لا قيام بعده.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى