إعلام الشماتة
فاطمة العيساوي
كانت الإشارة الأولى لسقوط نظام القذافي مع دخول الثوار إلى ليبيا، إسكات التلفزيون والإذاعة الرسميين.
روى لي أحد “الصحافيين” في التلفزيون الرسمي الليبي، وكان تحول إلى القتال مع الثوار وعاد إلى مقر عمله ليصبح مسؤول الأمن فيه، روى لي كيف دخل الثوار إلى مبنى التلفزيون في ساعاته الأخيرة من البث الدعائي، وقام المقتحمون بالتحقيق مع الصحافيين الموجودين، وصادروا جوازات سفر البعض واعتقلوا البعض الآخر بحسب تقديرهم لمدى تورط هؤلاء في خدمة النظام والتحريض لصالحه، إستناداً الى “شرعية الثورة”.
في تونس، انتقلت وسائل الإعلام الرسمية، في اليوم نفسه لهروب زين العابدين بن علي، من التطبيل لنظامه إلى التصفيق للجيش وقوى الأمن، فيما توقفت وسائل الإعلام المملوكة للحزب الحاكم سابقاً عن الصدور مباشرة. فالعدد الأخير من صحيفة “الحرية”، لسان حال الحزب الحاكم، لم يجد طريقه إلى الطباعة في ذلك اليوم، كما أخبرت صحافية عاملة في الصحيفة خلال روايتها للساعات الأخيرة من العمل في الصحيفة الحزبية.
إسكات وسائل إعلام النظام هو إذن الإشعار الأوثق لسقوطه النهائي، ويؤكد دور الإعلام باعتباره معركة متلازمة مع الصراع السياسي وإحدى حلباته المفضلة.
في التحول الأخير للثورة المصرية، والمتمثل في عزل الرئيس المصري محمد مرسي على يد الجيش، كانت الإشارة الأولى لسقوط النظام عملية “الإنقضاض” على قناة “الجزيرة” في مختلف مكاتبها وخصوصاً “الجزيرة مباشر مصر” التي اختصرت نقمة التيار الليبرالي على القناة القطرية بإعتبارها، على حد زعمهم، المحطة الناطقة بلسان الإخوان المسلمين في مصر فعلياً.
بثت “الجزيرة” مشاهد من إقتحام مكاتبها، يسمع فيها رجال الأمن وهم يدخلون الاستديوهات خلال البث المباشر، ويطلبون من العاملين المغادرة فوراً. أعلنت “الجزيرة” بعد ذلك، إعتقال صحافيين ومسؤولين إداريين، منددة بهذا الإعتقال، ومطالبة بالإفراج الفوري عنهم.
وكان الهدف الآخر، القنوات الدينية، التي اعتبرت المنبر التحريضي الأبرز لصالح حكم الاخوان المسلمين، والخطاب السلفي المتطرف، إلى جانب وسائل إعلام الإخوان.
دخلت هذه القنوات في الظلام، في لحظة، فيما تداولت وسائل الإعلام أنباء عن توقيف مديرين وعاملين فيها. ترافق ذلك كله مع خطاب إعلامي مضمر أو مباشر بتبرير اغلاق هذه القنوات، في حين لم يتوانَ البعض عن الشماتة ناعتاً هؤلاء بـ”الإرهابيين”، وهو تعبير لطالما كان موضع نقاشات حامية في مؤسسات الإعلام الغربية العالمية، مع اتجاه معظم هذه الوسائل إلى اصدار تعليمات إلى صحافييها بعدم إستخدام التعبير إلا في حالات وجود توافق واسع على توصيف فعل ما بالإرهاب.
لكن التعبير لم يستخدم في وصف وسائل إعلام أو صحافيين، حتى في التعامل مع وسائل إعلام تحمل دعوات واضحة إلى الحقد أو القتل.
لم تحمل الثوارات المتلاحقة في العالم العربي ثورة إعلامية فعلية. فهي، وإن اتاحت مساحة أكبر للتعبير – وغالباً ما كان فوضوياً- لم تخلق حالة وعي في مجتمع الإعلاميين حول حماية حقوقهم كمجموعة منفصلة عن رجال السياسة وأجنداتهم ومستقلة عنهم لديها مصالحها الخاصة وتقاليدها. الوعي نفسه الذي كان يفترض بالإعلاميين المصريين وغيرهم أن يروا في إغلاق قنوات التحريض الإسلامية وقناة الجزيرة، عصا يهزها الجيش فوق رؤوسهم، فاتحاً الباب واسعاً لتدابير قمعية مماثلة في حقهم هم أيضاً.
الطابع الفظ لإغلاق هذه القنوات كان يفترض أن يثير مخاوف هؤلاء الاعلاميين وليس شماتتهم، حتى أن الأقل شماتة منهم تخفى وراء إعتقاد بأن “شيئاً ما إقترفته هذه القنوات”، متجاهلاً أن عملية وقف بث محطة أو توقيف إعلامي قرار معقد، قد يحصل في ختام مسار قضائي طويل. الإعلام المصري، مرة أخرى، فوّت الفرصة.
المدن