“إلى ابنتي” .. كتاب السفقة والحقيقة/ علي جازو
عملت كاتبة هذه الشهادة، هنادي زحلوط، سنوات طويلة لدى منظمّات حقوقية داخل سوريا قبل انطلاق الثورة في ربيع 2011، كما شاركت من قبل في نشاطات جمعيات نسوية دافعت عن حقوق المرأة، خاصة ما يتعلّق منها بقضايا جرائم الشرف وقوانين الإرث، قبل أن تعتقل أخيراً أوائل الثورة السورية وتتعرّض للتعذيب أكثر من مرّة جراء وقوفها مع ثورة الشعب السوري، ورفضها العلني والمباشر لمنهج القتل العاري الذي اعتمده النظام، الأمر الذي حوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة لتصفية حسابات باتت تتجاوز ما خرج السوريون لأجله.
سيرة الناشطة السورية هنادي زحلوط من حيث موضوعها السياسي وظروف الاعتقال القاسية لا تختلف عن سير عشرات الآلاف من السوريين والسوريات في ظل همجية نظام الأسد.
قبل الثورة لم يكن للتدوين والكتابة الذاتية قيمة كتلك التي تحظى بها اليوم، ولم تكن للسيرة الشخصية الأثر الذي تتركه عشرات الكتب التي يتوالى صدورها في أكثر من عاصمة عربية وأجنبية حول الثورة السورية. بعدما استعاد السوريون أصواتهم، ها هم يستعيدون كلماتهم أيضاً، وذلك عبر الكتابة التي تتناول المراحل التي مرّوا بها، سواء داخل السجن أم خارجه، وسواء داخل سوريا أم في بلدان النزوح. غير أن طريقة تذكّرهنادي وسمات تدوينها لما لاقته أثناء فترة اعتقالها تبدو خاصة. تجربة بلا صراخ وفقدان بلا شكوى يتخلّل صفحات هذا الكتاب الصغير ( 111 صفحة، عن بيت المواطن، ضمن سلسلة شهادات سورية 2)؛ ذلك أن الألم العام قد تحوّل إلى جزء من الجسد الخاص، والقسوة الخانقة باتت جزءاً من مكان النوم وجزءاً من الهواء. لم يعد التصريح بهذه الحال شأناً جوهرياً، بعدما اتّضح للقاصي والداني من هو القاتل الأول ومن هي الضحية الدائمة.
ستتفاجأ لدى دخول هنادي زحلوط سجن النساء في عدرا واختلاطها بنساء كنّ من قبل محتجزات لأسباب أخرى، بعد تعرّضها لمهانة التعذيب في مقرّ المخابرات الجوية في حي المزة، أن عملها الحقوقي الطويل بدا بلا نتيجة، غير أنها تبقى هادئة إزاء صدمة كهذه! يبدو عالم الأمنية منفصلاً عن حجر الواقع الصلد والعنيد. على نحوٍ كهذا، بنبرة هي مزيج من الهدوء والصدمة في آن واحد، تسرد الكاتبة السورية الشابة اعترافات شخصية تقرّ خلالها بالكذب على أهلها إذ تخفي فصلها من الوظيفة الحكومية بعد تغيّب عن العمل لمدة عشرة أشهر، كما تنفي اعتقالها للمرة الثانية. سيكون الكذب هنا نوعاً من الحماية المؤقتة للأهل، ذلك أن هنادي تفكّر بهم أكثر مما تفكر بنفسها، فهي قرّرت بمحض إرادتها أن تكون في صف المظلومين، ولن تتوانى عن دفع ثمن موقفها كاملاً، دون أن تثقل كاهل أهلها بمعاناتها.
داخل المنفردة – السجن الأضيق، تتذكر وجه والدها المريض وتفتقد لمسات حنان والدتها. يعود المعتقل طفلاً في هذه الزنزانة المعتمة الباردة، ولأنه كذلك تتحوّل حاجاته إلى حاجات الطفل نفسها: الأمان، والحماية، ودفء الحياة الإنسانية حيث تحلّ صورة الأم كملاذ أخير ورجاء مقطوع. لا تشبه شهادة “إلى ابنتي” كتابات الأدباء ولا مقالات محلّلي الرأي، إذ لا بلاغات أدبية هنا، ولا أفكار سياسية متعالية عن جذر الحياة المعاشة كما هي في الحقيقة. لا مكان للأدب ولا السياسية كما جرى تجفيفهما في نصوص منغلقة داخل هذا الكتاب الصغير؛ فالبساطة التي تحمل النصوص وتسندها، وهي أقرب إلى قصص قصيرة هامسة، تأخذ القيمة الأبرز. وملاحظات هنادي حول السجّانين والنساء السجينات لداوعٍ غير سياسية تبدو طريفة. تتذكر كذلك السجّان “أبو نغم” الذي يوصلها إلى آمر السجن “أبو تيمور”. يبدو هذان الرجلان موظفَّين يقومان بعمل روتيني، ويبدو لذلك وجود هنادي في السجن أمراً بديهياً، ومع حال كهذه نفهم ربما أن رجالاً كهؤلاء لا يمكنهم أبداً التفكير في تغيير حياتهم. تمنح المنفردة هنادي فرصة أن تجد قيمة لشخصها. إنها لوحدها، تتلمّس البلاط البارد وتنتظر فسحة من الضوء كي ترى السماء، السماء العادية التي تحوّلت رؤيتها إلى ما يشبه معجزة.
لا أحد يفضّل الآخرين على نفسه غالباً، لكن هنادي تبقى مهجوسة بمصائر أصدقائها وصديقاتها، وهذا ما يجعل من شهادتها ذات صبغة إنسانية رفيعة ومرهفة. كأنها دون أن تدري تقول للقرّاء، إن المعتقل هو المكان المناسب لأمثالها، ففي بلد كسوريا، يقود مجرّد الاعتراض، إلى مصائر مفزعة، تنجو منها هنادي مصادفةً، إذ أن آخرين لقوا الموت تحت التعذيب، وأيهم غزّول، صديق من المجموعة نفسها، واحد من هؤلاء الذين غدوا جزءاً أساسياً من الضمير الجمعي للسوريين. “إلى ابنتي” كتاب أقرب إلى نشيد صافٍ، رسالةٌ من شابة سورية لم تصبح أمّاً بعد، إلى ابنة ستولد يوماً ما، وإن لم تكن ابنتها اليوم…
المدن